الخوف والرحمة
إني لأستحيي أن أجود بشيء أمام الناس، ولا أعرف لذلك الخجل من الفضيلة سببًا، هل هو خشية أن ينسب الناس الجود إلى الرياء، أو الضعف أو الجبن أو الكبر؟ وما يدريني! ربما كانت الخصلة نوعًا من البخل.
أذكر أني مررت مرة برجل مقعد ضعيف أبرص يستجدي، فكاد قلبي يتقطع من الإشفاق والرحمة، وأردت أن أبَرَّ الرجل بشيء، ولكن الحياء الكاذب وضعف العزيمة حالا بيني وبين ما أردت. فلما رأى الرجل ميلي إلى أن أجود له بشيء جعل يلح عليَّ في السؤال، وأنا بين دافع الرحمة ودافع الخوف أن يلحقني مثل سوء حاله يومًا، فقلت للرجل: أفٍّ لك يا تعس! ماذا رأيت في الحياة حتى رضيت بها وغبنت نفسك؟ وماذا ترجي من الحياة وأنت مقعد أبرص ينتهرك الناس كما ينتهرون الكلاب؟ ماذا تخشى من الموت؟ هلا أبِقْتَ من هذه الحياة، أليس الانتحار خيرًا لك وأبرَّ بك؟ أليس خوفك من الموت وتعلقك بالحياة مما يجعلك أهلًا للشقاء والانتهار؟ فلما سمع الرجل مني تلك الكلمة القاسية نظر إليَّ نظرة حادة لم أفهم معناها، ثم تركني وأبقى في قلبي حسرة، ولم يَفُهْ بكلمة. وبودي لو فسر لي معنى تلك النظرة! فقد كان يكون تفسيره بحثًا في النفس ودرسًا من دروس الحياة.
وأذكر أني مررت مرة بعجوز يرتعش جسمها من الضعف، فأردت أن أجود لها بشيء، ولكن لا أعرف ما الذي منعني من البر، فتركتها وأنا أقول: ما أهون قيمة الحياة وأبخسها! وما ألأم الإنسان! وكم في الوجود مثل هذه المرأة من البؤساء والبائسين ومن هم أتعس منها، إذا صح أن تكون أعظم من تعاستها تعاسة! ثم كاد قلبي يتمزق وجعلت أضرب رأسي بيدي، فلما اشتد بي ذلك جعلت أبحث عن العجوز حتى وجدتها وأعطيتها … نصف قرش! ولا تعجب أيها القارئ من صغر العطاء، فإن الناس يمحون توبيخ ضمائرهم بأقل من ذلك؛ بمليم، أو بكلمة طيبة أو ابتسامة، أليس برُّ أكثر الناس تخديرًا لضمائرهم وتسكينًا لوخزها؟! فليس جودهم إلا خوفَ عاقبة ما بدر منهم من الشر، وليست رحمتهم إلا خوفًا أن يصيبهم ما يصيب المسكين الذي يرونه من السوء. ومن أجل ذلك كنت لا أجد فيما أحسن من الرحمة فخرًا، فإن الرحمة ناشئة من خوف المرء وقع الشر، والجود من المنعشات التي تزيل عنه حمى الندم والحزن واتهام النفس، وتُعِدُّه لاستئناف الحياة وشرورها، من دناءة وقسوة وغدر ونفاق.