داء الضمير
إن توزيع الضمائر بين الناس فيه غبن وظلم مثل توزيع المال، فلو كان نصيب المرء من وخز الضمير على قدر نصيبه من الآثام لهان الأمر قليلًا، ولكن نصيب المرء من وخز الضمير يكون على قدر رقة شعوره وأعصابه، لا على قدر ذنوبه. وقد يشتد وخز الضمير حتى يصير داء، وحتى يؤنب المرء على ما لم يجنه. وقد يُليح له بمحامده كأنها رذائل، ثم يؤنبه عليها، وقد يؤنبه على ما جناه غيره من الناس. وأنا من الناس الذين أصيبوا بداء الضمير، فأحيانًا أحس وخزه في الرأس والقلب، فتخور قواي وتخدر أعصابي، وأحس يأسًا لا حد له، وأرى الدنيا مظلمة، فأود لو أتخلص من ذلك العدو الذي ينهش قلبي، ولكن أذكر قول العباس بن الأحنف:
وكما أن الضمير قد يشتد وخزه حتى يصير داء، كذلك الرحمة قد تشتد حتى تصير داء. ومن العجيب أن المرء في هذه الحال لا يقدر أن يعين من تقع عليهم رحمته، بل يحس انقباضًا — إذا رآهم — فيه شيء من المقت! ولقد كنت أعجب من هذا الشعور، ولكني أظن أن باعثه هو أن تألم المرء من رؤية آثار الشقاء أكثر من تألمه لمن أصابهم الشقاء، فيحسب هذا التألم من آثار الشقاء فضيلة، وما هو بفضيلة، ويراه ضربًا من الجود والبر، وما هو بر، بل هو مثل تألم المرء من شم الرائحة الكريهة، أو رؤية الشيء القبيح.
كنت وفئة من أصدقائي في مكان، نأكل ونشرب ونضحك، وعندنا غناء وجمال. وبينا أقهقه من السكر، تلفتُّ فرأيت فتاة تستجدي، قد نال منها السل وأنهكتها الحمى، ولها منظر تنقبض منه النفس، فلم أقدر أن أتم الضحك، بل وقف الهواء في حلقي كأنه الغصة واشتد خفقان قلبي، ثم صرخت قائلًا: أمن القدر المحتوم أن لا ننال ما نحن فيه من اللذة إلا ممزوجًا بالتألم لما نراه من بؤس هذه الفتاة وشقائها؟! ثم جرعت كأسًا من الخمر؛ كي أغرق فيها آلامي، وصرت أتأوه بصوت عالٍ: وكيف تغرق الخمر الآلام وهي خميرة الآلام؟! ثم قمت أسير كالمجنون، وأصابتني من الآلام والتعاسة أضعاف ما أصبت من لذة الخمر. وربما كان هذا التألم الشديد من رؤية آثار الشقاء غاية الجبن أو جنون الجبن.