المجرمون والأبرياء
يحسب كثير ممن لم يتعود التفكير أن الناس منقسمون بفطرتهم إلى قسمين: فهم إما مجرمون وإما أبرياء، وهذا نظر فاسد، فإن في نفس القديس جرثومة الإجرام، كما أن في نفس الشرير بذور الطهارة والجلال. فإن في روح المرء شرًّا لا حد له، وخيرًا لا حد له.
وكما أن الروح معبد يحله الله وينيره بنوره، فهي أيضًا مغارة إبليس التي ينيرها بناره. أي الناس لم تخطر بباله خواطر الإجرام، ولم يفزع مما يتحرك في نفسه من حشرات الشر؟! ونحن نعرف استحالة براءة النفس، اللهم إلا من كان متغافلًا عن نفسه، فلا يفهم هواجسها ولا يقدر أن يحكم على أعماله، وأن يعرف كنهها. لقد مرت بي ساعات كنت أحس فيها تلك اللذة التي تدفع المرء إلى الشر، فإن الجريمة مثل السراب اللامع، والحياة كالصحراء القاتلة الحرارة، والمرء فيها كالمصحر الظمآن يليح له سراب الشر بضيائه، فيريد أن يروي ظمأه، وينقع غلته، ولكن لا يزيده السراب إلا عطشًا. وكنت أرتعد كلما قادني التفكير إلى معرفة محتملات الحياة وأطوارها، والروح وتقلباتها وأحوالها، فإن الروح البشرية تخيف المفكر وتفزعه.
أنا اليوم بريء، ولكن ما يدريني؟! ربما كنت في غد مجرمًا، وربما تحركت عوامل الشر التي في نفسي. إن قلبي يكاد يتقطع كلما فكرت في أمر هذه النفس؛ فتسيل الدموع حزنًا وفزعًا، فيصيب يدي من بلل الدموع، وأضعها أمام عيني كي أرى ما بها من ذلك البلل، فتعروني الحيرة والدهشة، وأقول: ما أخس الإنسان! وما ألأم الحياة!
وكنت أشفق على المجرمين وأملأ لهم قلبي رحمة، حتى لو أصابني أحدهم بسوء لما أشفقت على نفسي أكثر من إشفاقي عليهم في تلك الساعة؛ فإنه لا يحزنني في الحياة شيء مثل رؤية آثار التعاسة التي يجلبها الإجرام للمجرمين، ويعود بها الشر على الأشرار. لقد رأيت في الحلم مرة أني أتيت جريمة القتل، ثم وقفت أمام جثة المقتول، وقد أحسست دوارًا وصار العرق يتصبب على جسمي، وكنت أحس جريه كأنه دبيب الحشرات، وقد جمد الدم في عروقي واسودَّت الدنيا في عيني، وكلما أردت أن أتنفس أحسست شيئًا يسد مجرى النفس، وكنت أحس صوتًا كأنه صوت أعصابي تتقطع، فيحكي صوت تقطع أوتار العود، أو كأنه صوت سقوط نقط الماء من علٍ. وكنت يخيل لي كأن يدًا من جليد قد وضعت على ظهري.
هذه هي الأحلام التي تمكن الأديب أن يعدم شخصه في أشخاص غيره، وأن يلج إلى أرواح الناس وعواطفهم، وأن يرحم المجرم كما يرحم التعيس؛ لأن تخيل عاقبة الإجرام في الحلم يجلب من الآلام والتعاسة ما قرأت وصفه، فكيف يكون مبلغ تعاسة المجرم وشقائه؟!