أزهار الشباب
هل تذكر طيش الحب في أول الشباب، وما كان يغريك به من نزوات وهفوات حين أفقت من غفلة الصغر، فأحسست تلك العاطفة في قلبك؟ إن الحب لا بأس به إلا إذا أغرى المرء بأعمال تزري بعقله. ولكن من ذا الذي لم يَنْزُ به الحب في شبابه نزوات التيوس أو العصافير؟! فإن طيش المحب مثل طيش العصافير في حركاتها، وإنه ليُخيِّل له أن الحب قد أنبت في كتفيه أجنحة يطير بها إلى حيث يشاء، فيحسب أنه لو رمى بنفسه من نافذة منزله لم يسقط ولم يصبه أذًى، بل يطير به الحب! ويخيل له أنه قادر على أن يقفز من شارع إلى شارع فوق المنازل من غير أن يلمسها! ويسمع المحب أنغامًا وألحانًا غريبة لا يسمعها غيره وليس لها وجود، ويرى أشكالًا هندسية بديعة لا تسمع عنها في كتب الهندسة! ويرى أزهارًا خيالية لا يعرفها الباحثون في علم النبات.
ويحسب أنه مركز هذا الوجود، وأن حبه موجود من الأزل خالد إلى الأبد، مثل جمال حبيبه. ويحسب أن هذا الوجود لو أصابه العدم، لبقي حبه مستقلًّا عن الوجود! وتراه يتصيد أصحابه، فيخبرهم كل خبر تافه عن حبه، حتى يتضجر جليسه، وهو لا يرى شيئًا من ضجره. بل يحسب أن جليسه مُصغٍ إليه كل الإصغاء، وأنه يجد لذة في حديث حبه كأنما هو قصيدة من قصائد النسيب والغزل، فيا بؤس من يجالس المحب!
ثم يُفيق المرء من حلم الحب الذي يشبه أحلام معاقر الأفيون، فيخجل من جنون أحلامه، ويتذكر الساعات التي قضاها تحت نافذة حبيبه، والحالات التي كانت تعتوره كلما نظر إليه حبيبه نظرة غضب أو رضًا، أو إدلال أو إغراء أو زجر، أو أمر أو نهي، أو تشجيع أو تثبيط، ويتذكر رسائله إلى حبيبه، وكلمات العشق التي كان يتلوها على سمعه، ويتذكر ما كان يضل عقله من المواعيد، وكلما خاف أن يفوته ميعاد من حبيبه بحث عن نعله وهو لابسه، وسأل عن عصاه وهي في يده!