طعم الذل
لا يعرف المرء طعم الذل، ولا يذوق مرارته حتى يُهينه مَنْ هو أقوى منه، فلا يقدر أن يمحو إهانته. وفي مثل تلك الحال، يصير المرء عند نفسه في منزلة الإله المعزول الذي بال عليه الثعلب. فإن في كل نفس شيئًا تجله وتعبده، وتتخذه إلهًا، ونفس المرء بخير ما دامت واثقة من ذلك المعبود الذي فيها. وهو شرفها وعزتها، وعندما تفقد النفس عزتها تكون مثل الفكر الحزين الذي يحزنه أنه صار لا يؤمن بمعبوده الذي كان يعبده، وأن ثقته به قد فنيت؛ فيفقد ثقته بنفسه من أجل ذلك. وكذلك النفس، إذا فقدت عزتها أحزنها أنها فقدت ثقتها وإيمانها بمعبودها.
وإني لا أزال أذكر ذلك اليوم النحس الذي لطمني فيه شقي، لم يكن يدري مبلغ إساءته إليَّ، فرفعت يدي لألطمه كما لطمني، ولكن الجبن وأخاه الحزم همسا في أذني قائلين: إنك إذا لطمته لطمك مرة ثانية، وهو أقوى منك فلا تصيبه إلا ببعض ما يصيبك، فخير لك إن تتحمل اللطمة الأولى أن تنجو سليمًا. فوقعت يدي إلى جانبي، وأحسست أن روحي قد سُلبت أجلَّ شيء فيها، فنظرت إلى ما بين قدمي لأرى ما سقط منها من العزة والأنفة والشجاعة. ثم أحسست كأن عظامي قد احترقت، ولم يبقَ إلا رمادها، وخارت قواي. وعرتني حيرة وشككت في الحياة، فجعلت أعدو من الغيظ وقد اسودت الدنيا في عيني، وجعلت أنظر إلى المارين وهم ينظرون إليَّ فأرميهم بلحاظ المقت والكره؛ لأني كنت أحسبهم يسخرون بي ويعرفون ما حدث لي، ويفهمون سر روحي التي قد أهينت، ولم تعد تصلح للحياة. ثم وقفت على غدير وهممت أن أرمي بنفسي فيه، لكني هزئت بنفسي وسخرت منها، تلك النفس التي تفر من اللطام إلى الحمام.
ثم ذهبت إلى البيت وأنا أرتعد، وقد جحظت عيناي وملأ الغل قلبي فارتميت على الفراش وجعلت أتلوى وأتقلب. وخطر لي أن أتأبط سكينًا أو مسدسًا، وأن أنتقم من ذلك الشقي الذي أهانني فأقتله. ولكن الحزم والجبن — وهما سميراي ونصيحاي — ألاحا لي بالقضاء والمحاكم، فجعلت أقرض أسناني من الغيظ، حتى تكسر بعضها، وكنت في حالة من حالات الجنون. وما زلت كذلك، حتى أنهكني الغيظ والغل فنمت إلى الصباح، ثم قمت متثاقلًا قيام المخمور من خماره، ولم يزل بي أثر من نشوة الغيظ والحقد.
وهذا الجبن من تأثير التربية والوسط الذي نعيش فيه، فقد ثبت في نفوسنا أن الحزم والجبن خير من الإقدام والخطر! ألم يكن أصلح لنفسي أن آخذ بتلابيب ذلك الرجل وأن ألاطمه؟ وماذا عليَّ لو أوجعني ضربه أكثر مما أوجعه ضربي؟ أكان يؤلمني أكثر من ألم الذل؟ أليست الآلام مع العزة خير من الدعة والحزم والصبر والتوقي والجبن والذل؟ إن التربية تجني على أكثرنا وتعودنا الجبن والذل والاستكانة، وكان ينبغي أن تعودنا أن لا نبالي الأخطار، وأن نهزأ بها، وأن نضع عزة النفس فوق كل ذلك.
لقد جرى بيني وبين رجل من الناس خلاف بعد حدوث هذه القصة، فأردت أن أطبق هذه الفكرة الجديدة؛ فكرة الاعتزاز بعزة النفس. فلما احتدَّ الجدال بيننا وخفت أن يبدأ اللطام بدأته به كما تفعل الأمم المتحاربة؛ فإن المبادرة نصف الظفر. فبادرته بلطمة بين عينيه، وكنت أريد أن يخر مغشيًّا عليه منها، ولكني خفت أن أفقأ عينه أو أن أصيب أحد أعضاء وجهه بتلف دائم، أو أن تكون ضربتي هي الضربة القاضية عليه التي تودي بحياته؛ فتعود بالطامة وبالعقاب الشديد. كل هذه الخواطر جالت بذهني عندما مددت يدي لألطمه؛ ومن أجل ذلك لم يكن وقع اللطمة عليه شديدًا. فمد إليَّ يده باللطام، ولكن يُخيل لي أنه لم يخشَ ما خشيت من العقاب، وإنما استنتجت ذلك من وقع لطماته، فانصرفت بأنف مهشم وعين سوداء حمراء زرقاء كأنها قوس قزح!
على أني بالرغم من شدة المقت والكره الذي أعالجه إذا أساء إليَّ مسيء، لا أقدر أن أحمل الحقد مدة طويلة؛ لأنه يورثني التعب الشديد، ومن أجل ذلك صرت قليل الانتقام لنفسي من إساءة نالني بها مسيء. وربما كان سبب ذلك ضعفَ الإرادة؛ فإني لا أنسى إساءة مهما مر عليها من الزمن، ولكني أذكرها إذا أذكرنيها شيء، فإذا تناسيتها لا أمقت من نالني بها حتى يذكرنيها شيء آخر. وفي أثناء ذلك قد يكون ذلك المسيء عزيزًا لديَّ، فإذا ذكرتها تألمت منها مهما قدم عهدها، ووددت لو أعاقب عليها من نالني بها حتى أخشى عليه بوادر غضبي وفتكي. ولكني أسخر من نفسي وأنشدها قول جرير:
ثم أرجع إلى نفسي فأقول: وأي نفع يرجى من الانتقام! إن العجز عن الانتقام من صفات صاحب العقل الكبير والنفس العظيمة؛ فأجد تعلَّة وسلوانًا في هذه الكلمة. غير أن الشك قد يعتورني أحيانًا فأقول: إن صاحب العقل الكبير والنفس العظيمة يربأ بنفسه عن الانتقام، وليس كل عجز عن الانتقام دليلًا على كبر العقل وسعة النفس، فإني أعرف من الحمقى والمجانين، وأهل البله والغباء مَنْ لا يقدر على ذرة من الانتقام.