سخر القضاء
ما أعجب هذه الحياة! وما أعجب تعجبي منها! على أن التعجب منها خير؛ لأني إذا لم أقدر على ذلك أكون قد يئست منها، فأرى أنها لا تستحق أن يعالجها المرء.
ومن العجيب أني عوقبت كثيرًا في الحياة على ما لم أجنِ من الذنوب، وكوفئت بالخير على ما جنيت منها! أحيانًا أفعل الشر فيخفى عن الناس، ويحسبون أني فعلت من الخير نقيض ذلك الشر. وأحيانًا أَجدُّ في عمل الخير، فيحسب الناس أني أسعى إلى الشر. وقد جلب لي فعل الخير من بغض أهل الخير واتهامهم إياي قدر ما جلب لي من بغض أهل الشر. ولست أعجب من شيء عجبي ممن يثق من نفسه أنه يفعل الخير، الذي يبغض المسيء أكثر من بُغضه إساءته، ولا يعلم أن المرء قد يفعل الشر وهو يحسب أنه خير، ويفعل الخير وهو يحسب أنه شر!
ما أعوص لغز الضمائر وأعمقه وأبعده عن المتناول! وما أذل الناس للتهم الكاذبة، والمصادر الخداعة والحوادث التي تغر! أليس كل ذلك مما يجعلنا نعتقد أن الإنسان كرة في أرجل المقادير، إذا عظم كانت عظمته منها، وإذا حقر كانت حقارته منها؟ وهل يمنع أهلَ السعي والجد والعمل اعتقادُهم بسلطان القضاء عن السعي والجد والعمل؟ أم هل يَزَعُ أهلَ الإرادة الضعيفة والكسل والذل نكرانُهم سلطان القضاء عن ضعف إرادتهم وكسلهم وذلهم؟ كلا فهذا أسلوب من أساليب سخر القضاء.