بقاء النوع وتعاسة الفرد
ما أتعس الإنسان! إنه يمضي أكثر أوقاته في السعي وراء قوته، وحاجات عيشه، ويضطر في هذا السعي إلى إذلال قلبه، وقد لا يحصل على تلك الحاجات وما تستلزمه المعيشة. فإن أكثر الناس يعيش عيشة البهائم، يعمل طول نهاره لأجل لقيمات يسد بها سغبه. أليس هو في ذلك مثل الحمار الذي يتعب طول النهار فيكون نصيبه من الحياة قليلًا من البرسيم؟ وما نتيجة هذه المساعي وهذا الاحتيال وراء المكسب، وهذا الشقاء وهذه الدناءة؟ هل نتيجة ذلك حفظ حياة النوع البشري؟ وماذا يهمني ويهم كل فرد مثلي من حياة النوع، إذا كنا تعساء؟ أليس الناس ما عاشوا عبيدَ الشقاء والتعاسة؟
ما يدريني؟! لعل أصدق الناس نظرًا هم الفلاسفة القدماء الذين قالوا بقتل الشعور والعواطف، ومحاكاة الإنسان الجماد في فقدان الشعور! قد تكون شدة الإحساس من لوازم الشعر، ولكن إذا كانت نتيجته تعاسة صاحبه، فلا خير في الشعر. وما يدريني؟! ربما كان الشاعر التعيس خيرًا من المتسول البليد السعيد، لقد جاء في المثل: إله تعيس خير من حمار سعيد. وما يدريني؟! لعل الحمار السعيد خير من الإله التعيس!
هذا من الهراء في الصميم، أليس من غرور الإنسان أنه يشتكي محاكاته سائر الحيوانات، وأنه يمضي أكثر وقته في طلب ما تستلزمه المعيشة من القوت؟ ومن هو الإنسان حتى يشتكي ذلك؟ أليس هو حيوانًا مثل سائر بني جنسه من الحيوانات؟
لا تقل: إن سعادة كل الأفراد لا تستقيم. ولا تقل: إنه ينبغي للمرء تحمل شرور الحياة من أجل حفظ حياة النوع، فهذه حجة يستخدمها الأغنياء المنعمون والسعداء؛ من أجل إخضاع الفقراء والتعساء، والبله والأغبياء، والجهلاء والمجانين. وإنما سعادة الأفراد فكرة كبيرة يتم تحقيقها إذا جن بها عدد كبير من الناس. ولكن الذي يجعل تحقيقها بعيدًا أن الجماهير من الناس يعيشون في جهل مثل ظلام الليل، ويتبعون خطة مطروقة وسبيلًا ممهدًا، ويخشون الجديد من الآراء، ويجبنون عن تحقيقه. ولكن الذين قاموا بالنهضات الكبيرة وجعلوا آراءهم حقائق ووقائع مقضية، هم الذين قابلهم الجماهير في أول الأمر بالأذى، ورموهم بالجنون. وهم كما زعم الناس مجانين؛ لأنهم أغرموا بالأفكار البعيدة الجليلة. وقد يندم هؤلاء المجانين على عاقبة جنونهم، ولكنهم مسوقون إلى ذلك الجنون مكرهون عليه. وكل رأي كبير لا بد أن يؤدي إلى نهضة كبيرة بين الناس، وأن يكون له أثر باقٍ إذا جُن به عدد عظيم من الناس، هكذا قامت الأديان والنهضات الكبيرة العلمية والاجتماعية.
وفي قديم الزمان، كان الطاغية إذا أراد أن يلهي قومه عن طغيانه وظلمه أوقعهم في حرب مع قوم آخرين يريد طاغيتهم أيضًا أن يلهيهم عن ظلمه وطغيانه؛ فعمت الحروب. وكان الطاغية يفعل ذلك سواء كان عارفًا ما يحبب إليه الحرب أو كان غير عارفه، فإن المرء قد يكون مدفوعًا إلى الشيء بدافع من نفسه لا يعرفه تمام العرفان، ولا يفهمه تمام الفهم. ويعين الطاغية على عزمه ما أُودع في الناس من التذاذ القسوة، فإن كل امرئٍ له نصيب من القوة يلتذه.
وكذلك ترى الطبقات الطاغية السعيدة في ممالك هذا العصر تريد أن تلفت الطبقات التعيسة من الجماهير عن سوء حالها، وتشغلها عن حل مسائل الحياة بالحروب، مثل مسألة الشقاء والأمراض والجرائم. ولو بطلت الحروب بين الأمم لاشتدت الحروب بين الطبقات السعيدة والطبقات التعيسة في الأمة الواحدة؛ تلك الحروب التي تؤدي إلى حل مسائل الحياة. ولكن، ويل للأمة التي يتفرغ فيها طبقات أفرادها إلى حل مسائل الحياة؛ فإنها تصير طعمة للأمة التي لا تريد فيها طبقاتها حل تلك المسائل؛ لأن الشقاق في الأولى يكون نهزة تنتهزها الثانية.
وفي الناس مَنْ يقول: إن مسائل الفقر والتعاسة والجهل والجوع والأمراض وغيرها من مسائل الحياة لا تحل. وأكبر ظني أن الطبقات السعيدة هي التي تنشر هذا الرأي وتؤيده. ولكن ما يدريني؟! ربما كانوا مصيبين في زعمهم! على أنه لو صح زعمهم وكانت هذه المسائل لا تحل؛ فلا خير في الحياة، فإنما يتحمل المفكر شقاوة الحياة إذا كان له إيمان بالحياة يعينه، مثل أن يرى الحياة جهادًا في سبيل تحقيق سعادة أفراد الناس.
ولقد يقول قائل: ولكن كيف تهمني سعادة أفراد الناس في الأجيال القادمة؟ هذا من الذين يعيشون في دائرة لا تتسع لغير مآربهم، ولا يهمهم في الحياة شيء غير سلامة لحمهم وجلدهم وشهوة بطونهم وفروجهم وترفيه ذهنهم. كأن التفكير في الحياة ترفيه الذهن بعد التفرغ من كسب الرزق، وكأنما ليس له لذع مثل لسع الظنابير، وكأن فروض الإيمان فقاقيع ثغر الأطفال، وكأن الكون خلق للفرد من الناس لا أن الفرد خلق للكون.