الخاتمة
يرى القارئ الجملة الأخيرة من هذه المذكرات غير تامة، وقد تركتها كما وجدتها؛ كي تكون عنوانًا للحياة ونعتًا لها، وإشارة إليها. ألسنا نحيا حياة ناقصة مغتصبة، نحاول أن نبلغ تمامها وكمالها بالأحلام والأطماع والآمال والأوطار؟ فالحياة كالراقصة التي تدعوك بحركات رقصها، ثم تفلت منك كالسراب الراقص الخداع. وأحيانًا ترى الآمال على باب الحياة كالملائكة على باب الجنة، يفتحون منه ناحية فيخرج منه نسيم الجنة ونورها، وتسمع منه ألحانها وتبصر منه جمالها، ثم تُغلق دونك أبواب الحياة، كما تُغلق أبواب الفردوس دون المحروم.
هذه كلمتي التي أريد أن أقولها في هذه المذكرات كي يعرف القارئ ما أراه فيها وفي صاحبها، فلا يتهمني بالمغالاة في تقريظه والتشيع له ولآرائه، ويحسب أن الود الذي كان بيني وبينه قد أعماني عن خطئه.
أقول: إني أخالف صديقي م. ن. في بعض آرائه كما أوافقه في بعضها، فقد وجدته في هذه المذكرات ينسب إلى نفسه صفات مذمومة قد كانت خافية عنا.
نعم، إن بين الفلاسفة من يزعم أن هذه الصفات كامنة في جميع النفوس، وأنها منازل وطبقات، وهي لم تكن في نفسه من الشدة مثل ما يصف، فبينما كان يصف نفسه كان أيضًا يستملي من خياله، صنعَ الأديب المؤلف، فهذه المذكرات ليست اعترافات عريانة من ثوب الخيال. تراه ينسب إلى نفسه الخوف والجبن وسوء الظن والكسل وضعف الإرادة والكذب، وأنه حاول الغش، وأنه حاول الانتحار، وأنه قليل الصبر، كثير الضجر، وأنه كثير البكاء، وأن في نفسه خواطر الشر والإجرام، وأنه كثير الغرور والعجب كثير الأطماع، وأنه كثير الخجل، كثير الحذر، عظيم الكبر، شديد اليأس بالرغم من أطماعه، وأنه شره البطن والعقل، وأنه كثير الإنكار والجحود، وأنه بالرغم من ذلك يعتقد الخرافات، إلى آخر ما وصف من صفات السوء.
وأنتم أيها القُرَّاء، لا تجدون شيئًا من هذه الصفات في نفوسكم — ولا شك في ذلك — معاذ الله أن تجدوا في نفوسكم هذه المعائب، ومعاذ الله أن أتهمكم أو أن أتهم نفسي بها! إني وإياكم أبرياء منها، هنيئًا لأنفسنا! إنها بريئة منها … كأني بكم تهنئون أنفسكم ببراءتها وطهارتها من هذه النقائص، وكأني بكم تقولون: إن م. ن. لا يستحق إلا الرحمة والاحتقار! أما أنتم فإنكم أهل للإجلال والإكبار، والإعظام والهيبة، والتوقير والاحترام، والتبجيل والتقريظ، والحمد والثناء … نعم، إن بين الفلاسفة من يقول بأن صفات الشر والخير موجودة في كل نفس، وأن النفوس لا تتفاضل إلا بمقدار تمكن صفات الخير، وقلة تمكن صفات الشر منها. فإذا كان بين الفلاسفة من يقول بهذا الرأي، فهو فيلسوف مجنون، لا يُعتد برأيه. والدليل على بطلان زعمه أني وإياكم أبرياء من صفات الشر، مطهرون من السوء الذي يزعم أنه في كل نفس، فاضحكوا معي من هذا الفيلسوف الأبله الذي وجد نفسه بؤرة النقائص، فظن أن كل نفس مثل نفسه … هذا الفيلسوف لا يستحق أن يعيش، بل ينبغي أن يشنق جزاء قذفه النفوس وافترائه عليها ما ليس فيها.
ولكن، ما يدرينا؟ ربما كان في قوله شيء من الصدق. ثم إن م. ن. يعزو إلى نفسه من المحامد قدر ما عزا إليها من المقابح، فتراه يعزو إليها الفطنة والذكاء، والعبقرية والخيال، وكبر العواطف وسعة الذهن، والرحمة والكرم، وحياة الضمير، وحب الجمال، وحب الخير، وكره الشر، وأنه يربأ بنفسه عن مظان الدناءة، وأنه يكره التمليق والرياء والنفاق والذل، وأنه كثير الود والحنان، رقيق القلب. وبعض هذه المحامد التي يعزوها إلى نفسه يناقض ما قد عزا إليها من المقابح، ولا غرابة في ذلك؛ فإننا نجد النقيضين في نفس واحدة.
كأني بكم تسخرون من صديقي م. ن. وتزعمون أن نسبة هذه المحامد إلى نفسه أعظم دليل على غروره، وأن مثله إذا ذم نفسه صدق، وإذا مدح نفسه كذب. ولا ريب أنكم تجدون في نفوسكم هذه المحامد، وأنكم يمنعكم الوقار والحياء الصادق والتعفف من تقريظ نفوسكم، وأنكم من أجل ذلك تمقتون من يقرظ نفسه أشد المقت؛ لأنه يريد أن يخفض من شأنكم بمدح نفسه وإعلائها. ولكنه لم يرد أن يكون هذا الاعتراف صورة لنفسه، وإنما أراد أن يصف نفسًا من النفوس، وأن يشرح عواطفها، وأن يذكر محامدها ومقابحها. ولا ريب أن الأديب في وصف العواطف يستملي من نفسه ومن نفوس الناس؛ كي يجيء الوصف صادقًا. فإذا رأيتم في مذكراتي صفاتٍ من صفاته فلا تظنوا أن كل شيء فيها مأخوذ من نفسه، ألستم ترون أن من الخطأ أن لا نميز بين هامليت وشكسبير، أو بين ورتر وجيتي؟ نعم، إن شكسبير كان يرجع إلى نفسه في تفهم العواطف وحركاتها، ومن هذا الوجه يصح أن نقول: إن في كل فرد من أفراد قصصه شيئًا منه؛ لأن رُوح الأديب ليس بالروح الجامدة الصلبة، بل إن فيها من المرونة ما يمكنها من التشكل بأشكال متغايرة، والتزيي بأزياء مختلفة، فتارة تراها في جسم هامليت، وتارة في جسم ماكبث، وتارة في جسم فلستاف، وتارة في جسم روميو أو جوليت، وتارة في جسم شيلوك.
وإذا كان في م. ن. عِيب من حيث هو أديب، فهو أن أسلوبه في الوصف والتنقل من مقال إلى مقال، مثل وميض البرق تراه يشرح لك عاطفة من العواطف، كأنه يكتبها بالنار على وجه الدجى، أو كأن كلماته الشرر المتطاير، ثم يتركها من غير استئذان إلى وصف غيرها. ولكنَّ مذكراته بالرغم من ذلك ليست أوراقًا مفككة، ليس بينها ارتباط، فإنه لم يرد أن يكتب مقالًا، مطرد الجمل والكلمات والمعاني في سوء الظن أو الحب أو البخل أو الضمائر أو الشعر أو ضعف الإرادة أو العقائد أو حب الحياة أو الجرائم أو القدر، ولكنه يليح لك بهذه الأشياء وبموقعها من النفس كالصور المتحركة. وتراه دائمًا يحاول أن يؤجج عواطف القارئ، ويحاول أن يستفز منه عاطفة الحب أو البغض أو الأمل أو اليأس أو الاحتقار أو الإجلال أو الرحمة أو الخوف. وربما كان مغاليًا في ذلك، فإن من يلعب بالعواطف مثل من يلعب بالنار.
ومن صفات م. ن. أنه يمزج الفكاهة بالجِد مزجًا غريبًا، فبينما يستأذن على قلبك بالكلام المؤثر المبكي، إذا به يقهقه في وجهك أو يسخر من كلامه الذي أراد أن يلين قلبك به. وأخشى أن يكون كالغازل الذي ينقض بيده ما يغزله! ولكن المزج بين الفكاهة والجِد لا يكون عيبًا دائمًا، وأكبر ظني أن م. ن. كان يأتي بالفكاهة في إثر الجِد المؤثر، لا لينقضه، بل ليجعل وقعه أشد حسرة؛ فتكون الفكاهة مثل ضحكات الرجل الذي يبدهه خطب شديد، يجلُّ عن البكاء فيضحك ضحك المجنون من شدته وهوله.
وقد كان بودي أن أغير بعض فصول هذا الكتاب، ولو كنت أعرف أن المعترف حيُّ لفاتحته الرأي في تغييره، ولكن لا سبيل إلى ذلك، فإن الأمانة ختام الود.