سماء الأمل
إن الأماني والأطماع من أسباب الشقاوة، ولكنها أيضًا من مصادر السعادة. وهي بنات الخيال المستفَز. ويخيل لي أحيانًا أنها تملأ هذا الهواء الذي أنشقه! وقد يخيل لي أني إذا نظرت في المنظار المكبر، رأيت جراثيمها في الفضاء كالذباب الكثير الألوان الذي يتهافت على الرمم.
ومن أجل ذلك صرت كأني مريض بالأماني، وكانت الأطماع تحوم حولي من صغري، وتطن في أذني طنين الذباب، وتارة تسمعني ألحان البلابل. وتليح لي بضياء يملأ السماء، فكأنها قد فتحت أبوابها وخرج منها ذلك الضوء الذي يُعشي البصر، وكأن هذا الضوء سلم ممدود بيني وبينها فأحب أن أتعلق به، وأبلغ به طبقاتها العالية. وإني لأذكر فرحي بقوس قزح وأنا غلام صغير؛ إذ كنت أصفق وأرقص طربًا برؤيته، وأتمنى لو كنت مثله أزين السماء بتلك الألوان الرائقة، وكلما كبرت تمكنت من قلبي تلك الأمنية، فأتمنى لو أعيش كالشمس … أشرق كشروقها، وأغرب كغروبها، وأملأ السماء ضياء، وأنشد قول الأحوص:
هكذا خلقتُ كثير الأماني والأطماع، ومن أجل ذلك كنت أيضًا كثير البأس؛ لأن من سما به الأمل إلى سمائه، لا بد أن ينزل به البأس إلى حضيضه.
ولقد كنت وأنا غلام صغير أصعد إلى سطح المنزل بالليل، وأسهر الساعات الطوال؛ كي أرى ليلة القدر، ثم أحدث نفسي قائلًا: ماذا أطلب من الله؟ أطلب الغنى، أم الصحة والعافية، أم السعادة، أم التقوى، أم القوة، أم كبر العقل ورجاحة الفضل؟ فتدركني الحَيرة، وأخشى أن تظهر ليلة القدر وتنقضي وأنا في تلك الحيرة، لم أختر بَعْدُ الشيءَ الذي أطلبه، وعند ذلك أطلب من الله أن يؤخر ظهورها قليلًا، ثم أرى أن أطلب كل شيء! وصارت هذه الأطماع تعظم كلما كبرت، فصرت أقضي الساعات في أحلام الأماني، فتارة أحلم أني زوس سيد الآلهة ورئيسها، أو هرقل إله القوة، أو مارس إله الحرب. وتارة أحلم أني أفلاطون الفيلسوف أو باكون، وتارة أحلم أني شكسبير أو ملتون أو وردزورث أو جيتي أو ابن الرومي أو المتنبي. وتارة أحلم أني نابليون أو إسكندر الأكبر، أو يوليوس قيصر، أو كريستوف كولومب. وتارة أحلم أني جمس وات أو فارداي أو أركميدس. وتارة أحلم أني جمعت كلَّ هؤلاء في شخص واحد، فكأني لبست كلَّ أزياء العظمة، وكتبت كلَّ شيء جليل في الشعر والأدب والعلوم والفلسفة، واخترعت كلَّ مخترَع، وغزوت العالم وفتحت السماء والأرض … ثم أصحو من هذا الحلم فأسمع توبيخَ المدرس الذي يطلب مني أن ألتفت إلى الدرس، فأتعجب من جرأة هذا المدرس على توبيخي بعد أن عملت هذه الأعمال العظيمة!
هكذا كنتُ، ولكنَّ رياح الحوادث قد أطفأت نور هذه الأطماع، فلا أستضيء الآن إلا بنار اليأس.