أطوار العقيدة
لقد كنت في صغري كثير الاعتقاد بالخرافات، وكنت ألتمس العجائز من النساء، أسمع قصصهن الخرافية، حتى صارت هذه القصص تملأ كل ناحية من نواحي عقلي، وحتى صارت عالمًا كبيرًا، ملؤه السحر والعفاريت، وحتى صارت العفاريت حولي، تحل حيث أكون. وأذكر أني رأيت مرة عفريتًا على سطح منزلنا، وكان أسود الجسم، شخصه مثل شخص الإنسان، ولكن جسمه يعلوه الشعر الكثيف، ولا أدري أكان عفريتًا، أم كان من مخلوقات الخيال، أم من ظلال الثياب التي كانت معلقة على الحبال لتجف؟ ولما حدثت العجائز بأمر هذا العفريت، جعلن يعلقن على جسمي التمائم، ويرقينني بالرقى.
ثم أتى عليَّ بعد ذلك دور التعبد؛ إذ كنت كثير الصلوات، كثير الأوراد، أُكْثر من قراءة كتب المتعبدين، فكنت أقرأ فيها عن العبد الصالح، والعبد الفاسق، وعن عقاب الله الفظيع. وكانت هذه الكتب تشرح لي عقاب الله بالغًا من الفظاعة حدًّا لا يطاق، فكنت أقوم من النوم مذعورًا حينما كنت أحلم بذلك العقاب. وكنت أقرأ في تلك الكتب عن كرامات الأولياء من إحياء الموتى وإماتة الأحياء، ومن إزالة العمى عن أعين أهل العمى، وإزالة البصر عن أعين أهل البصر. ولم يمنعني هذا التعبد الشديد من مواقعة الشهوات، بل كانت كثرة مواقعة الشهوات بقدر شدة التعبد، فلم يمنعني تخويف تلك الكتب وإرهابها من اللذات، بل كان يفزعني من عواقبها في الآخرة. وقد كنت أحسب من فزعي أن كل كلمة أقولها، وكل عمل أعمله جريمة كبيرة، فكنت أبكي وأنتحب خشيةَ عقاب الله، حتى إذا قضيت حاجة أعصابي المهيَّجة من البكاء والانتحاب رجعت إلى مواقعة الشهوات، من غير أن يعوقني عنها ذلك الفزع وذلك البكاء؛ لأن الفزع نتيجة قراءة تلك الكتب والبكاء حاجة يستلزمها هياج الأعصاب.
كما أن للشهوات حوائج أخرى قلَّما يعوق عنها الفزع من عواقبها، وقد بلغ بي الفزع من عقاب الله أني كنت يخيل لي — وأنا نائم — أن فوق الفراش عقارب وثعابين بعثها الله لعقابي، وأحيانًا يخيل لي أن الفراش كله من جمرات نار؛ فأنتبه مذعورًا صارخًا!
ثم تركت بعد ذلك قراءة كتب التعبد، وجعلت أقرأ كتب الشعر والأدب؛ ففطنت إلى جمال الحياة، وقللتْ مطالعتُها من ذلك الفزع الذي كان باعثه الدين. ثم أتى عليَّ دور الشك والبحث، والشك إذا أبحته العِنانَ جرى بك في كل مكان، حتى يريد أن يُنزل اللهَ عن عرشه، وأن يعزله عن ملكه! وما يزال الشك بالمرء حتى يدفعه إلى الإنكار والجحود.
نحن الآن في عصر لا نرقى معه إلا إذا خلصنا من رق الأوهام والخرافات التي هي كالأغلال والقيود، ومن أجل ذلك صرت أتعصب للإنكار والجحود بقدر ما يتعصب غيري للإيمان، غير أن هذا الإنكار يخيفني ولا يرضي ذهني، فلا يفسر لي شيئًا، لا يفسر لي: من أنا؟ ولماذا خلقت؟ وإلى أين أذهب؟ فنفسي من النفوس التي لا تقنع بالإنكار؛ لأن لها حاجات دينية ليس لها غنًى عنها. ومن أجل ذلك كان الإنكار يورثني اليأس والحزن، فكنت أهيم في شوارع المدينة ليلًا؛ لأن الليل أشبه بما كنت فيه من اليأس والحزن. وكنت أنظر إلى النجوم وهي تنظر إليَّ بحزن وإشفاق، وأسألها عن الحياة والموت، عن البقاء والفناء، عن الله والإنسان، عن الدنيا والآخرة، فتنظر إليَّ بحزن وإشفاق، ويخفق سهيل كأنما يهز رأسه قائلًا: لا أعرف عنها شيئًا! فتصير الحياة أثقل من الكابوس، أو كأنها حلم فظيع يروِّع ويقلق ولا يبعث الطمأنينة والسكينة.
فأعيد النظر إلى النجوم وأقول: هل فيك من كوكب كريم يضحي نفسه خدمة للناس، فيصادم كوكبنا الذي نسميه الأرض فيهشمه ويتهشم، ويستريح جميعنا من عبث الحياة وأمراضها ومصائبها، وبؤسها وشقائها، وجرائمها وحماقتها، وذلك الجهل العظيم الذي يضغط علينا كالكابوس؟ اللهم أرسل كوكبًا نشيطًا من عندك يقوم بهذا الأمر. فتومض النجوم كأنما وميضها وميض أسنانها حين تفتح أفواهها قائلة: آمين … آمين!
وقد رجعت إلى الإيمان لأستفيد منه شيئًا جديدًا، فعلَّمني الإيمان أن للوجود روحًا كبيرة لها حياة وشخصية، وأن هذه الروح توحي إلى أرواح الأفراد بما تريد، ولها من المقادير جنود. ولكني على شدة إنكاري لمعتقدات العامة، تمر بي حالات أعتقد فيها كلَّ شيء حتى السحر، وحتى ما يخرق سنن الطبيعة ويعلقها عن العمل كما يقول النحويون.
أما السحر، فإني أفسره بتغليب إرادة على إرادة، وأنه نوع من التنويم المغناطيسي. أما السنن الطبيعية فإني أبغضها؛ لأنها تعوقني عن أطماعي وآمالي، ومن أجل ذلك لا أرى بأسًا في خرقها. وأكثر ما أكون إيمانًا عند المصيبة أو المرض، فإن أمثال ذلك يذل قلب المرء ويخيفه ويوهن عزمه، وفي بعض الأحايين أخاف خوفًا شديدًا أن يظهر لي إبليس، وأن يخدعني كما خدع فوست فأتلفت كي أثق أنه لم يظهر بعد. وفي بعض الأحايين أعتقد وجود العفاريت والجن، كما كنت أعتقد في أيام صغري.
لقد سمعت البارحة القطط تعوي وتصرخ مثل عواء المجانين، أو عواء الأرواح الحائرة المعذبة التي تتخذ الليل جلبابًا، ثم تفرغ في ذلك العواء ما تقاسيه من العذاب. فلما سمعت عواء القطط كأنها الخرس إذا حاولت الكلام، لم أشك في أنها عفاريت من الجن، وأصابتني رعدة شديدة. ومما زاد الطين بلة — كما يقولون — أن النافذة كانت مفتوحة، وكان يصيبني منها تيار بارد من الهواء، فحسبت رعدة البرد من فعل العفاريت. وقد سمعت مرة عواء الخنازير كأنه عواء جنية أصابها الموت في ولدها.
إن النفوس تتأثر بالأصوات تأثرًا غريبًا، لا سيما عند هياج العواطف، انظر مثلًا إلى صوت قرع الباب في قصة ماكبيث، أو إلى صوت البومة الذي يسمعه الخائف في المكان الخراب الموحش، أو إلى صوت الغراب الذي يسمعه المتشائم، أو إلى صوت الرعد الذي يسمعه القاتل!