لذات الحياة

نرى في الناس الضاحك الجَذِل الذي يزل الخوف عن صفحات قلبه زلول الماء عن صفحات جلده، ونرى فيهم الحزين الباكي، الذي يبكي على الحياة والناس والدنيا، والذي يرى النعيم والشقاء كَبْلَيْنِ من كُبُولِ الحياة؛ الذي يرى أن الأرض قبر الأحياء، وأن السماء غطاء ذلك القبر. ولكني وجدت نفسي تارة أقرن مع الأول وتارة أَلَزُّ مع الثاني، فإني أرغب في لذات الحياة حتى لو اختبأت مني لذة تحت قدم نملة ما. فإنني أرى في الضياء لذة، وفي الظلام لذة، لذة في النعيم ولذة في الشقاء، لذة في الألم وألمًا في اللذة.

أرى لذة في استنشاق الهواء حتى ولو كان كله جراثيم، أرى في النشاط لذة، وفي الكسل لذة، وفي الاستضاءة بالقمر لذة، ولذة في الاستضاءة بالشمس، ولذة في الاستضاءة بالفتيلة. أرى لذة في الاضطجاع على الأرائك، ولذة في القعود على الأرض، لذة في الطعام الفاخر واللباس الفاخر، ولذة في المش والفجل، والثياب … الثياب الخلقة. أرى لذة في حرارة الشمس، ولذة في برودة الهواء، لذة في المطر والغيم، ولذة في الصحو.

أرى لذة في الصباح وحُسن مرآه، ولذة في الظهيرة المكسال، لذة في المساء ووقاره، ولذة في الليل وسواده ونجومه ونسيمه. أرى لذة في الماء، ولذة في النبيذ وغير ذلك من الأشربة …

ولكني بالرغم من ذلك كثير التفكير فيما أعانيه ويعانيه الناس، وما قد عانيناه وما سنعانيه من آلام الحياة ومصائبها وأدوائها. وأرى كأن الحياة حمل ثقيل وحلم يروع، ففي بعض الأحايين أحسب أن شقائي في الحياة أعظم من لذتي فيها، ولكني أراجع نفسي فأحسب أن لذاتي في الحياة أعظم من شقائي! ولا عجب في ذلك الشك؛ فإن من كانت لذاته عظيمة كانت شقاوته عظيمة، حتى إنه ليشك فلا يعرف أي الجانبين أرجح! نعم، قد شربت كأس الشقاء حتى لم أدع فيها بقية، ولكني جرعت أيضًا كأس اللذات حتى لم يبقَ فيها سؤر، وحتى امتصصت ما علق بالكأس من حلاوة الحياة. وكنت وأنا أنعم بالحياة كأني قد استعرت من الوجود عظمه وعواطفه، فكنت لا أبالي في حب الحياة كل رادع أو زاجر، أو مانع أو لوم، أو أمر أو نهي. كنت أحس أن نفسي غير مقيدة بقيود العادات والحزم، كنت أحس أن نفسي إله أعظم له أن يفعل ما يشاء. وكنت أتمنى أن أقطف أزهار الحياة كلها، وأن أخرج من الحياة عطرها، فإن للحياة عطرًا كما أن للزهر عطرًا.

كنت أتمنى أن أمتع نفسي بكل شيء في هذا الوجود، وفي كل وجود تتصوره وتتوق إليه النفس. كنت أتمنى أن أعانق الوجود، وأن أقبله قبلة أمتص بها كل ما في روحه من الجمال والجلال، فأتذكر عند هذا التمني قول الشاعر:

وكنت إذا أرسلت طرفك رائدًا
لقلبك يومًا أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كُلَّه أنت قادر
عليه ولا عن بعضه أنت صابر

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤