الفصل العاشر
أخلاق المسلمين – معجزات الروم – قدر – تعاليم دينية – تسول.
***
أجل، إننا لا نزال نرى — كما كان الأمر في زمن كاتب هذا المقال — بعض المتعبِّدين الذين يوزِّعون الخبز والأكباد على الكلاب والهررة.
إننا نجد عند شعوب الشرق عددًا كبيرًا من المتناقضات الأخرى نلمسها عندما نقابل بين عرفنا وعاداتنا، وعرفهم وعاداتهم.
على أن القارئ لا يلاحظ منها إلا ما تَلفت غرابتُه النظر. ولكن، فليعلم أن هذه القاعدة يمكن تطبيقها بصورة عامة. وسأقدِّم عددًا لا يُحصى من الأدلة في سياق مشاهداتي، وإليكم منها الآن ما يتعلق بالرسميات.
عندما يريد شخص منهم ذو مكانة مرموقة القيامَ بزيارة، عليه أن يتناول جبته، التي يحملها خادمه تحت إبطه، ليتسربل بها فوق ملابسه حين يدخل فيبدو أكثر ضخامة وتسترًا، بينما نحن نضع — في مثل هذا المقام — الرداء أو البردوسة في الإيوان.
إنه يقوم — عند دخوله — بتحريك رجله ليخلع حذاءه ويتركه على الباب. أما نحن فنستعين بيدنا لنرفع قبعتنا ونحنيَ رأسنا علامة الاحترام.
والشرقيون يستعملون عند الالتقاء الأول عبارات تبجيل وتعظيم مبتذلة لا طعم لها، ثم لا يأتي ذكر الغرض من الزيارة إلا بعد القهوة. أما عند الأوروبيين فإنه يبدأ توًّا بموضوع الزيارة، والاستعلامات الخاصة أو العائلية لا تكون إلا بالنسبة للعلاقات القائمة بين الزائر والمزور.
وبما أن الشرق لا يُحسن إلا قليلًا استعمال أسماء العَلَم، فقد نتجت عن ذلك عدة أخطاء واختلاطات؛ فالأسماء المتشابهة كثيرة جدًّا؛ وهذا ما حملهم على استعمال أسماء عديدة تكاد تكون أسماء ذرية بكاملها.
يتميز الكثير من الشرقيين بأسماء مهنتهم، وكثيرًا ما تكون تلك الأسماء سمجة؛ لا يستقبح في الشرق — مثلًا — أن ينتسب أحدهم إلى أعور أو كسيح أو أحدب أو مقطوع اليد. وفي أكثر الأحيان يضيفون اسم الأب إلى اسمهم الخاص، وهذا ما يطبَّق في كثير من البلدان حتى الأوروبية منها؛ وعندئذٍ يكون علي هو ابن حسن …
أوَهل يقال: إن الشعب المتأخر هو وحده ذو الاعتقادات الباطلة؟ إن الرجال الذين حرموا الثقافة لا همَّ لهم إلا اقتفاء آثار غيرهم؛ فليس الذنب — إذنْ — ذنب هؤلاء، ولكنَّ المسئولين عنهم — أي كبارهم — هم المذنبون؛ فهم الذين يرسِّخون في أذهانهم هذه الأوهام والنقائص.
تُرى، هل الشعب الساذج هو الذي يؤلف تلك الحلقات التي يردد فيها الرجال — وهم وقوف بشكل دائرة — كلمة: الله! الله! ويظلون يفعلون ذلك حتى تتلاشى قواهم وتختنق أصواتهم، ثم يستأنفون العمل بأنغام موقعة على انحناءات الجسم، ذات اليمين وذات الشمال، والخلف والأمام، مرددين غناء الشيخ الواقف خارج الحلقة؟ وعندما يغادر المدينة درويش، اشتُهر بالتقوى، ليقوم بزيارة أحد المزارات في الضواحي — وعند المسلمين أماكن عبادة في أكثر النواحي — نرى الشعب يسارع إلى لُقياه ليرتميَ تحت نعال فرسه حائلًا بينه وبين وطء الأرض، فيمر على أجساد هؤلاء المؤمنين الذين يتقبلون البركة من أطراف قوائم الحيوان الأربع.
إن أشراف المسلمين يدْعون أيضًا صغارهم للتهافت على هؤلاء الشيوخ؛ لأنهم يرغبون هم أيضًا في الاستفادة من المناسبات المؤاتية.
إني لم أحاول معرفة المقدار الذي تحتله الشعوذة في هذه الأنواع من المعجزات، ولكن يجب ألا نعزوَ كل شيء إلى التعصب. ومع ذلك فلم تكن تهمني معرفة الأساليب التي تُتَّبع في تمثيل هذه المهزلة.
رغبت في أن أشاهد معجزة كانت تحدث كل عام في دير للروم قُرب طرابلس، إلا أني عندما علمت أنها ناتجة عن تفاعل أشعة الشمس، التي كانت تنفذ من ثقب طاقة مغلقة إلى الكنيسة الشديدة الظلام، أحببت أن أبيِّن ذلك للذين كانوا يعتقدون بأني سأرجع عن ضلالي وأهتدي إلى دينهم القويم فور رؤيتها. إلا أن ذلك كله لم يُجْدِنِي نفعًا؛ فكل ما قلته لهم قد جعلني في أعينهم أشدَّ إلحادًا وكفرًا.
إن القسم النفساني في الديانة المحمدية المتعلق بالرضوخ لأحكام العناية هو جدير حقًّا بإعجاب الفيلسوف؛ فتسليمهم لمشيئة الله يبدو بوجهٍ خاص في أجلى مظاهره حين انتشار وباء الطاعون؛ فهم لا يتزحزحون، بل يثبتون في وجه الخطر الذي يهددهم مهما يكن عدد ضحايا هذه الكارثة.
أنبأني مسلم أعرفه أن عائلته كلها أصيبت بهذا الوباء. وعندما طلبتُ إليه أن يحتاط للأمر، أجاب: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، ثم عاد إلى منزله ولم يبرحه بعد ذلك، كأنَّ هذا الانقطاع هو اتقاء الخطر.
أوَليس بإمكاننا أن نعزوَ هذا الانقياد الأعمى أو هذه اللامبالاة إلى الجهل أكثر منها للتقوى؟ إنه يجب علينا أيضًا أن نتهم المخيلة التي تعمل عملها الخطير في هذا المضمار؛ فإننا لا نخشى خطرًا نجهله.
إن الشواهد المتعددة على الأشخاص الذين ينجون من الطاعون رغم توافر عناصر العدوى التي تعرِّضهم له، والشواهد الأخرى على عدد كبير من الرجال لم يموتوا بعد أن أُصيبوا به، هي التي مكَّنت في مخيلتهم الاعتقاد بالقدر؛ هذا الاعتقاد الذي جعل الجهل جذوره راسخةً في النفوس، ثم عمل باستمرار في تقويتها. ولا تنسَ ما في طبيعة الرجل العامي من الميل إلى تجسيم ما يكون صغيرًا بحد ذاته وتكبيره.
ليس مسلمو سوريا ملحدين كالأتراك؛ فهؤلاء لم تتوافر لهم أساليب التنوير نفسها؛ لأن جميع المؤلفات الدينية مكتوبة بالعربية. ومن الجائز أن يكون الأتراك مفتقرين إلى قوة الإرادة أيضًا؛ فعدم مبالاة الأتراك باعتقادٍ عرفوه مستحيلًا، واعتناقهم مذهبًا لم تتضخم فيه الاعتقادات الباطلة جعلهم يمشون أُولى خطواتهم نحو الحضارة. لم يُبالوا بتحريم الخمرة فشربوها وأكثروا من شُربها، وها هم يفرِّقون بين الشرب على الطريقة التركية والطريقة الفرنسية المعتدلة.
حُكي عن شخصين كانا يتحدثان في مقهًى عن تفوُّق الأوروبيين على الشرقيين، ولما كانا يحاولان اكتشاف ذلك، قال أحدهما للآخر: أوَتعلم كيف يتلقَّن الفرنسيون العلم؟ بأن يشربوا كثيرًا.
فأجاب الثاني: ها، ها! إذنْ ما علينا إلا أن نقتفيَ آثارهم. اشرب. ثكلتك أمك! لنكن علماء.
وحاول شريفٌ نَيلَ قسط وافر من الثقافة، فشرب حتى سكر، ولما رآه أحد أصدقائه على تلك الحال قال له: إنه لمن قلة الأدب والحشمة أن تظهر بهذا المظهر بين الناس.
– إني أسير على الطريقة الإفرنسية! نعم، الطريقة الإفرنسية! وليس لأحد أن يقول لي شيئًا.
إن أوهامًا كثيرة عند العرب قد خلقتها عقلية الشيوخ المحشوَّة بالمغالطات؛ ومن هذه الأوهام الزعم بتأدية الحساب في الآخرة. وقد فتَّشتُ عن أساسٍ لها في الدين فلم أجد. قال لي مسلم غني إنه يرجو خيرًا كثيرًا في العالم الآخر؛ لأنه لاقى كثيرًا من الأذى في هذا العالم؛ ولذلك يترجَّى أن يعتاض عنها بملذات سماوية في العالم الثاني.
وعلى رغم المشقات التي يكابدها السوريون للحصول على القوت الضروري، فإنهم يُعدُّون العدَّة لصوم رمضان، والقيام بالحج، ناهيك بالصلاة التي يقومون بها على أكمل وجه.
صحيح أن ذوي الغنى واليسار يوزِّعون صدقات جمة خلال هذا الشهر الذي يتقشفون فيه، إلا أنه يجب أن أُعيد القول إن أعطيات سكان بيروت — المفرطين في التقتير — لا تتناسب والحاجة التي يشعر بها الناس في هذا الشهر المكرم.
أما فيما يتعلق بالحج إلى مكة، فالذين لا يمكنهم الحج ركوبًا يحجُّون مشيًا على الأقدام. إنهم لا يُحرَمون وسيلة لتأدية هذا الفرض، فإما أن يعملوا في تمهيد الطرقات، أو في سياسة مطايا الحجاج وخيولهم، أو في نوع آخر من العمل كخدمة الحجاج مثلًا.
والسوريون — نظرًا لجهالتهم وقصر نظرهم — يقومون بالحج دون أي هاجس أو صعوبة، حتى إذا لم يَحُل حادث بينهم وبين العودة، وهذا قليلًا ما يحدث، فإنه يخيل إليهم أنهم رجعوا من بلد غير بعيد، وهذا كل شيء.
حُكي عن أحد هؤلاء المتسولين — وقد كان ضريرًا تدل مظاهره على فقر مدقع — أنه حفظ طائفة من العبارات المؤثرة، فكان يلقيها دائمًا في آذان المارة لترقَّ قلوبهم ويتحنَّنوا عليه.
وكان هنالك شخص يراقب هذا الشحاذ الطاعن في السن، فعرف أنه يضع كنزه في عمامته، فتحيَّن فرصة يكون فيها وحده في منعطف الشارع لينتزع عن رأسه تلك العمامة. وكم كانت دهشته عظيمة عندما وجد فيها زهاء خمسة آلاف قرش.
بكى الشحاذ الضرير وظل يعوي حتى يئس من معرفة مغتصبه؛ لأن أحدًا لم يرَه. ورأى السارق تفجُّع المتسول بعد مُضيِّ وقت قليل، فرقَّ لحالته واشترى له قطعًا من الحلوى الرخيصة، وقدمها إليه قائلًا له: كلْ يا صاحبي؛ فإنها تعينك وتقويك.
وأدرك الضرير من الرائحة التي تصاعدت إلى منخريه أن هنالك أكلًا شهيًّا، فذاب شكرًا وامتنانًا لمن أحسن إليه.
وشرع يأكل، ولكنه انتفض بعد مضغات قليلة، وأمسك بالرجل صارخًا: «إلى السارق! ليوقف السارق! هذا هو الذي سلبني مقتناي.»
فتراكضت الجماهير على الصراخ، وسألوا الضرير: كيف عرف هذا الشخص؟ فأجابهم: لم يخامرني أقلُّ ريب في أنه هو الذي سرقني؛ لأني وجدت صعوبة في ابتلاع هذه الحلوى التي اشتُريَتْ بمالي …
يحتج المسلمون للبخل والبخلاء بالكلمة القائلة: إن النعمة التي يمن الله بها عليهم ليست لهم، فما هم سوى مؤتمَنين عليها.