الفصل الحادي عشر
قلت في الفصل السابع: إن المسيحيين اتبعوا عادة الأوروبيين في إحياء السهرات، كما اقتبسوا منهم عادة القيام بالزيارات دون أن تُشرك النساء بهذه الأعمال المؤنسة إلا إذا كنَّ من أقارب الزائرين أو بين أزواجهن إلفة شديدة. إن هذه الضروب من اللياقة ترتكز على المبادلة فحسب.
أما المسلمون فيخبئون نساءهم؛ لأن القرآن جعل لهم من ذلك سُنة، والمسيحيون قد يأتون ذلك تقليدًا لهم؛ لأن عاداتهم هي بالواقع شبيهة بعادات المسلمين. إن للنصارى أوهامَهم وتعصبَهم، وإن كانوا ذوي كفاءة في العلوم التي يُظهرون فيها تفوقًا. وقد لمست هذا التفوق في الأعمال الفكرية، ولا سيما الحسابية منها، بوجهٍ خاص. ويظهر لي أن المسلمين لم يُخلقوا لهذه العلوم؛ ولهذا نرى المسيحيين يشغلون مراكز أمناء السر، والمفوضين، وأمناء الصناديق.
إن الإسرائيليين دللوا على الأسبقية في علم الاقتصاد، وقليل هم الباشوات الذين لم ينتقوا صيارفتهم من الطائفة الموسوية.
وعلى الرغم من أن الكتب هي نادرة الوجود في الشرق، فالمسيحيون يملكون الكثير منها، فيتعلمون دروسًا نافعة، فتسْمو أخلاقهم.
والمسيحيون مدينون بثقافتهم إلى مخالطة الأوروبيين، ولا سيما المرسلين الذين يقيمون بينهم، ويزورونهم بصورة منظمة.
وتواريخ سوريا تنبئنا أن مسيحيين كثيرين مثلوا دورًا هامًّا في الحقل السياس. وهذا يجب أن لا يُدهش في بلادٍ كلٌّ شيء فيها متأثر بالرشوة. ولكن التاريخ يعلِّمنا أيضًا أن هؤلاء الرجالات لم يكن لهم من العمر إلا ما يكون للشهاب، تاركين لعائلاتهم الذكريات المؤلمة.
إن موقف المسيحيين هو مِن أتعس المواقف في تركيا على الرغم من التحسينات التي شعروا بها بعد أعمال الإصلاح التي قام بها السلطان محمود، والتي أكملها السلطان الحالي؛ وذلك لأنهم يفتقرون إلى زعيم يَلجَئون إليه ويحتمون به.
إن افتقار الناس إلى ظهير ونصير في هذه البلاد قد حملهم على السعي الحثيث وراء نَيل الحمايات الأوروبية. وهكذا، فإن أجمل حلم يمكن أن يتصوَّره عربي هو الاحتماء في ظل أحد القناصل.
ولكن قليلون هم من يرغبون في ذلك، رغم الرغبة المتبادلة التي تظهر عن ملتمسي الحماية والسلطات الحامية الراغبة في تنمية عدد هؤلاء؛ فالسلطة التركية — التي لا تتنازل إلا مكرهة عما لها من حقوق على رعاياها — تخلق ما تستطيع من العراقيل لتَحُول دون منح الحماية الأجنبية.
فأول امتياز يحصل عليه الجباة المشمولون بالحماية هو أن يُعفَوْا من دفع الضرائب، مع أنه يجب ألا يستفيدوا إلا من الإجراءات التي تكفل لهم حرمتهم دون أن تُلحق ضررًا بالخزينة. إن الحماية لازمة إذا كان القصد منها دفع الظلم والجور.
إننا لا نفهم الدافع الذي حمل على اعتبار مَن هم في خدمة القناصل والتجار الأوروبيين غير خاضعين لمحاكم سلطتهم، ما لم نعرف أولًا هذه البلاد معرفة دقيقة. كان ينبغي تجريد هذه السلطة من كل حق في ملاحقة مَن تعوَّدت أن تعاملهم بقسوة بربرية. وهذه الأمور كان يمكن تغييرها لو عدَلت الدول عن الامتيازات المكتسبة بقوة المعاهدات والعُرف، وأعلنت وجوب تمتُّع تركيا بالحقوق التي تتمتع بها بقية الشعوب في البلدان الأخرى. ولكن هذا يؤدي إلى تقوُّض التجارة الأوروبية في سوريا؛ فهي لا يسعها الاستغناء عن العمال المسيحيين — أبناء البلاد — كما أنها لا تجني منهم نفعًا مجديًا إذا لم ينعموا بالعصمة القديمة نفسها. وهكذا يصح قول المثل: السلطة تصيب التاجر إذا ما ضربت السمسار.