الفصل الثامن عشر
تراجمة – مستشارون (مهردار) – مساعدو الترجمة – سماسرة – موظفون آخرون.
***
في المشرق فئة أخرى من الموظفين ليست بأقل نفعًا. إن التراجمة الذين يقومون بمهمة مستشارين أيضًا يجب أن يُقسَّموا طبقتين ليس إلا؛ فليست آفتهم أنهم لا يقومون بالخدمات المجدية وحسب، بل إنهم يُسببون أضرارًا. كانوا يطرون في عاصمة السلطنة العثمانية مواهب الترجمان الذي هو من الطراز الأول، حتى قالوا: الدولة هي الترجمان. وإذا استعملنا التعبير نفسه أمكننا أن نقول: الترجمان — في بعض الأماكن — هو القنصل.
أما اليوم بعدما أخذ السفراء يزورون السلطان ووزراء الدولة بدون وسيط فيتفاهمون، وابتدأ القناصل يراجعون بأنفسهم الباشوات في شئونهم الهامة؛ فإن أهمية الترجمان — وإن لم تصبح عديمة الفائدة نظرًا للمناسبات التي يُعتاض فيها عن الحق بالخديعة — قد فقدت كثيرًا من أهميتها. بَيْدَ أنه لا يمكن الاستغناء عنها لاضطرار القناصل إلى اتباع أساليب غير شرعية لكيما يتغلبوا على المصاعب التي يلاقونها في الشريعة الإسلامية. إن تلك الأساليب تستغرق بحثًا طويلًا، وهنا عمل الترجمان. ولكيلا يُظن أننا تعلمنا أن نعويَ مع الذئاب فإني أسأل القارئ: أيفضل أن يرجع عن ادِّعائه بسند قديم مات الذين شهدوا بصحته، أم أن يشتريَ شهودًا جددًا يصرحون — لدى مثولهم أمام القاضي — بأنهم كانوا حاضرين لدى توقيع العقد، على الرغم من أن اسمهم لم يُذكر فيه؟ وإذا عولنا على شراء هؤلاء الشهود فلا بُد لنا من تلقين هؤلاء الأشخاص درسًا كافيًا ليُحسنوا الإجابة عن الأسئلة التي يمكن أن يطرحها القاضي عليهم؛ وهنا عمل الترجمان ومقدرته.
قَتل خادمُ أحد الإفرنسيين شابًّا. كانوا ثلاثة فتيان يقلبون بندقية بعد أن أفلتت منهم الطريدة، فقُتل الشاب قضاءً وقدرًا، غير أن العدالة لا تُسلم مطلقًا بهذه الأسباب التخفيفية؛ فالقاتل يجب أن يُعدم. اهتممت بتمهيد سبيل الفرار للخادم، وسعيت لحمل عائلة القتيل على القَبول بالدية، إلا أني لم أوفَّق إلى تهدئة روعها؛ فصار حضور الإفرنسي الشاب أمام المحكمة المحمدية واجبًا، فعمدت إلى القيام برشوة القاضي لأربح القضية. وكان لي ما أردت، فبردت همة القاضي، مع أن أوامر الباشا لا تفسح في مجال التأجيل والتأخير.
عرفتُ تراجمة لا يَرَوْنَ شيئًا مستحيلًا. ولما كانت الأمور لا تعالَج كلها على نمط واحد، لأن الأساليب الأكثر لفًّا ودورانًا هي التي تؤدي — بلا ريب — إلى النتائج الطيبة. كان على التراجمة — متى كُلفوا بحل قضية صعبة — أن يقوموا بمجهود كبير، ويدبِّروا حِيَلًا ناضجة، ويبذلوا نشاطًا عظيمًا. إنها هنا تظهر مقدرة الترجمان والحاجة إليه.
كنت جد سعيد بمعاونيَّ في أثناء إقامتي الطويلة في بيروت؛ لأني بعد أن فقدت السيد فليكس دابون الذين لم يكن ينقصه إلا عدم معرفته التركية، حظيت بالسيد ف. جوريل المستشار في الإسكندرية اليوم. أظهر هذا في مواقف كثيرة أنه من خير تراجمتنا الألبَّاء؛ وإني أودُّ أن أُحيِّيَ فيه ذكاءه وعرفانه للجميل وأخلاقه الطيبة. وها أنا أعدُّ لهذا العمل السيد حبيب برباره معاون ترجمان، وهو على جانب كبير من الذكاء. كانت تعوزه أولًا معرفة أن الحجة الصغيرة هي عادةً أجدى نفعًا من الدسائس والأدلة التي ليس لها سوى الظاهر.
إن الشرقيين صحيحو التفكير على قلة محصولهم من الثقافة، وإذا خدعتهم البراهين فإنهم لا يصرون على ما اعتقدوا صحته إذا ما بدت لهم الحقيقة ولمسوها.
ومنذ مدة ليست ببعيدة شرع التراجمة ينزوون في دواوينهم مستسلمين للكراهية التي يشعرون بها، هذه الكراهية الناتجة عن عدم استطاعتهم القيامَ بمهمتهم بصورة يحصلون فيها على تعويضات كافية؛ لأن معرفة لغات الشرق لا تكفي؛ فهناك عادات وطرق وأساليب تختلف كل الاختلاف عن عاداتنا وطرقنا وأساليبنا؛ ولهذا تكون الخدمة ناقصة إذا أحسنَّا هذه ولم نعرف تلك معرفة كافية. وهذا ما يولِّد المقت والكره في نفوس تراجمتنا، فيهلعون لدى مجيئهم فتيانًا إلى الأساكل؛ إذ تتراءى لهم الصعوبات الواجب تذليلها ليستطيعوا خدمة وطنهم. أما فيما عدا ذلك فالمناصب على اختلاف درجاتها شريفة كلها، يشعر المرء عند ممارستها بلذة أداء الواجب وإسداء المنفعة في كل المناسبات.
أجل، ليس بإمكان هؤلاء أن يحتلوا جميعًا المقام الأول في مختلِف الحالات. بَيْدَ أن الكفاءة هي هي، سواءٌ أكان ذلك عند القيام بأعباء المناصب الوضيعة أو المناصب الأشد رفعة وخطورة. كان التراجمة الأُوَل من الأرمن الشباب الذين أُوفدوا إلى الأساكل — وعلى الأخص إلى القسطنطينية — بعد أن تلقنوا دروسهم في باريس؛ ومن هنا جاء اسم مدرسة الأرمن.
أمسى معاونو التراجمة حاجة لا يُستغنى عنها، بقطع النظر عما ينتج عن تصرفاتهم من عواقب وخيمة؛ نظرًا لميل الشرقيين القوي إلى الاحتيال والدسائس؛ ولهذا يتوجب السهر عليهم.
لا يعني سفيرنا بقوله هذا إلا التراجمة الشرقيين الذين عرفهم يومذاك، ثم تراجمة بقية الدول بوجهٍ عام، وأنا أستثني من كلامي التراجمة الفرنسيين الذين أحترمهم كثيرًا. إني أقدِّر مساعداتهم المجدية، وملاحظتي هذه لا تطبَّق على العرب الذين هم في خدمتنا فحسب، بل على تراجمة القنصليات الأخرى؛ إذ إن لدى كل واحدة منها ثلاثة منهم أو أربعة.
إن مساوئ التراجمة — ومساوئ التجار والسماسرة والكتبة والمستخدمين الذين حماهم هؤلاء التراجمة — قد سببت عدة شكاوى وملاحقات أمام السلطات، وهذا ما كان يرهق خزينة القناصل ويُلحق الضرر برعاياهم، حتى إذا ما مست الحاجة إلى المال وجدوا الخزينة فارغة نظرًا للخسائر التي تحملها القناصل في المصالح الأجنبية، إن قانون ١٧٨١ المعترَف بحكمته شاء أن تكون الحصانة على الوظائف وليس على الأشخاص. وطبقًا لهذا المبدأ فإن قناصل فرنسا أَبَوْا دائمًا أن يستعينوا برجال يرتشون.
إن الهدف الذي كان يرمي إليه الشرقيون — إذ يرغبون في حمايةٍ إفرنسية — لم يكن ينحصر فقط في التفتيش عن عضد يحميهم من التعديات، ولكنهم كانوا يرمون أيضًا إلى التخلص من جميع التكاليف؛ لأنهم إذا لم يُعتبروا من رعايا الذات الشاهانية سقطت عنهم الكلفة، ونعموا بالامتيازات التي يظفر بها الأوروبي؛ ولهذا كانت السلطة تعارض الحماية وكل ما يشبهها مما يعصم من التكاليف، ولم تكن تسلم بها إلا بشروط معينة، ولكن هنالك قناصل لم يكونوا يقفون عند هذه التخوم، فيتاجرون على حساب مكانتهم بالسلطة الممنوحة لهم، فيوزِّعون المناصب الوهمية.
إن المحميين ينغمسون — كموظفي دور القنصليات — في تعاطي الأعمال الخطيرة دون أن يعوقهم عائق عن الحصول على المنافع التي تكسبهم إياها الحماية التي نالوها.
أما اليوم فقد عدلت السلطنة العثمانية عن إعطاء الإجازات التي كانت تجعل «الرؤساء» الموظفين في متاجرنا من ذوي الامتيازات، وحجتها أن الظروف قد تغيَّرت، وأنهم أصبحوا في مأمن من التعديات التي كانت تقع قديمًا، أما ما ترمي إليه من وراء هذه الحجة فهو إلزام الموظفين الرؤساء بدفع الضرائب المترتبة عليهم شخصيًّا، وإذا رضخنا لما تدَّعيه السلطنة العثمانية فسوف نندم؛ لأنه يستحيل علينا بعد ذلك أن نداعيَ بحقنا القديم.