الفصل الثاني
أهمية بيروت التجارية – أسبابها.
***
لم يبدُ لبيروت شأن — كمدينة تجارية — إلا منذ ثلاثين سنة تقريبًا. وأستطيع أن أؤكد — لأني زرتها عامَي ١٨٠٨، ١٨١٠ — أنه لم يكن يُعقد فيها إلا صفقات تجارية قليلة. وبما أني لم أبارحها إلا عام ١٨٢٨ بعد أن عدت إليها عام ١٨٢٤، فقد استطعتُ أن أتتبَّع ازدهارها خلال فترة أربعة عشر عامًا، في إبَّان نهضة صناعتها الحقيقية وتضخُّم ثروة سكانها.
وهذه المدينة — بالنسبة لعدد سكانها — تُعد رابعة مدن سوريا؛ فهي دون طرابلس التي تأتي في الرتبة بعد الشام وحلب. ومن المؤكد أن عدد سكانها لا يتجاوز الخمسة عشر ألفًا وخمسماية شخص، منهم سبعة آلاف مسلم، وأربعة آلاف من الروم الأرثوذكس، وألف وخمسماية ماروني، وألف ومائتان من الروم الكاثوليك، وثمانمائة درزي، وأربعمائة أرمني وسرياني كاثوليكي، ومائتا يهودي، وأربعماية أوروبي.
تضافرت عدة عوامل على جعْل بيروت المركز الأكثر أهمية على الشاطئ؛ منها موقعها المتوسط، وقُربها من الشام، وجودة حرائرها، وهدوء خليجها. وأقول مع هذا أن العامل الأشد تأثيرًا هو مجاورتها للجبل الذي حافظ أمراؤه — حاكموه القدماء — على سلطانهم فيه.
إنه لم يكن — لعشرين سنةً خلت — بإمكان تجار البلاد — سواءٌ أكانوا مسلمين أو مسيحيين — أن يمارسوا أعمالهم التجارية إلا خفية؛ إذ لم يكن في استطاعتهم أن يستقروا في مكانٍ ما بصورة نهائية؛ كانوا يعيشون عيشة موقتة، وفي خمول وانتظار الحوادث التي قد تدهمهم.
ففي ظل الحكم الدستوري تستطيع الطبقة المتوسطة أن تعيش مترفة وتنفق عن سعة. أما في ظل الحكم المطلق الظالم فالسعة لا تقضي على أصحابها بالحرمان فحسب، بل تعرِّضهم أيضًا للخطر الذي تجرُّه عليهم.
يجد الرجل في بيروت فوائد جمة لا يستطيع أن يجدها في أية إسكلة أخرى على عهد اضطهاد الجزار وظلمه وبلصه؛ هذه الأعمال التي جددها عبد الله باشا بضرائبه الفادحة فقط، فاستمطر عليه غضب السلطنة العلية. كان عبد الله باشا ينقاد كثيرًا لمطامعه وإرشادات مستشاريه السيئة، بَيْدَ أنه لم يكن سفاكًا ولا سفاحًا، وقد لوحظ أنه كان يرجع — في بعض الأحيان — عن الإجراءات الظالمة التي عمد إليها. وأستطيع أن أقول — بعد دراستي أخلاق عبد الله: إنه لو كان في بطانته صديق واحد لجعل الناس يبكون أيام حكمه.
كلَّفه حُكمه ستة عشر ألف كيس؛ أي ما يقارب الخمسة ملايين فرنك، وهذه القيمة الفادحة يجب أن تضاف إليها الهدايا النفيسة المهداة إلى محمد علي بِناءً على توسطه.
إن اضطرار عبد الله باشا إلى تأييد مركزه بالمال كان وسيلة لاختراع أساليب جمعه. وهكذا وفر السلب والاغتصاب والظلم — بعد أن نُهبت المدن — مبالغ باهظة لتدفع إلى صندوق خزينة عكا.
أثرى سكان سوريا على عهد سليمان باشا الأبوي — خلَف الجزار — الذي دام حكمه من سنة ١٨٠٦ إلى سنة ١٨٢٠. كان هذا الحكم نعمة طويلة العمر تحتاج إليها الشعوب لإصلاح حالة بؤسها المؤلم، وتضميد جراحها الثخينة.
وبفضل الحياة التي كانوا يقضونها في البرِّيَّة؛ أي في البساتين القائمة في الضواحي حول المدينة، كان باستطاعة كل من يسكن بيروت — من المقيمين الموقتين، الذين تدل أمتعتهم الخفيفة النقل عن استقرار غير ثابت وموقت — أن يبدلوا محل إقامتهم بالفرار والالتجاء إلى الجبل.
لم يستطِعْ الباشوات حتى الآن أن ينتزعوا من لبنان امتيازه القديم، ألا وهو حماية المظلومين والمنكوبين.
وهذا الأمر كان أكثر الأمور بساطةً لأن سلطة متسلم بيروت لم تكن تمتد إلى ما وراء غابة الصنوبر، وعبر نهر بيروت. وهذه المسافة يمكن اجتيازها بأقل من نصف ساعة مشيًّا على الأقدام.
فأكثر السكان الأغنياء كانوا يَلجئون إلى القرى الواقعة في سفح الجبل عند أقل بادرة تنبئ بالظلم، أو أقل خبر يسبق هذه النكبات المحزنة. كانوا يمكثون هنالك حتى تهدأ العاصفة، ولا يعودون إلا بعد دفعهم مبلغًا من القيمة المفروضة عليهم، أو بحصولهم على كفالة تضمن لهم راحتهم. وقد كان نزوح السكان يُحدث جمودًا في الأعمال إلى حدِّ أن توشك الصناعة أن تُشل وتقف حركتها، ويأخذ البؤس بالانتشار بين سواد الشعب؛ لذلك كانت السلطات تتسابق حينذاك على نيل «صفو خاطر» الباشا ورحمته، فيمنحهما بِناءً على التوسلات التي تعيده إلى فطرته الخيِّرة.
وهكذا أثرت بيروت على الرغم من تعنُّت السلطة وبؤس أساكل سوريا الأخرى، ولا سيما إسكلة عكا.
أما الحروب التي خاضتها الشعوب فيما بينها — في حلب والشام — فسببت عدة مهاجرات إلى بيروت. وجميع الذين اضطرهم الاضطهاد إلى مغادرة منازلهم كانوا يُجذبون بالطمأنينة والمنافع التي يوفرها لهم لبنان. كان بوسعهم أن يجنوا نفعًا دون أن يُضطروا إلى الانقطاع عن مدينة بيروت ومزاولة تجارتهم.
وفي تلك الأيام؛ ونظرًا لهذه العوامل نفسها، أثرت ضواحي هذه المدينة، وازداد عدد سكانها، حتى إنه لم يُرَ في جميع البلدان — الخاضعة لسيطرة أمير الجبل — بلد مأهول هانئ العيش أكثر مما هي عليه الضاحية المجاورة لبيروت، والممتدة من نهر المعاملتين حتى الشويفات.
- أولًا: لأنهم يجنون بعض الربح من الفروقات العائدة إليهم من رسوم الجمارك، فالأجانب يفضَّلون من هذا القبيل على أبناء البلاد.
- ثانيًا: كي لا تُعرَّض أموالهم للخطر إذا ما افتُضح أمرهم، وفُهم أن هذه البضائع هي لهم.
والمنفعة الأخيرة التي كانوا يجنونها هي سحب ما يشاءون من هذه البضائع بصورة تدريجية لأنهم مضطرون حسب الظروف إلى سكنى المدينة أو الجبل.
وقرائي الذين لا يعرفون تركيا إلا معرفة مشوهة ناقصة يدهشهم هذان العاملان؛ الأول: وهو أن السلطات كانت تصطنع أساليب تسبب نزوح الأهلين، وتشل كل صناعة؛ وبالتالي خراب البلاد. والثاني: أن الأوروبيين كانوا ينعمون — فيما يتعلق برسوم الجمارك — بامتيازات خاصة على حساب الرعايا العثمانيين.
ومهما قيل؛ فأساليب الحكم في تركيا تناقض تمامًا الأساليب المتبَعة عندنا، السلطة في أوروبا تحمي أبناء البلاد، وتسهر على رفاهيتهم، وتدرس الأسباب التي تؤدي إلى زيادة عددهم، وأخيرًا فإنها تفضل المواطنين على الأجانب. أما في سوريا فالعكس بالعكس. إن الإجراءات التي اتُّخذت لم يكن يُنتظر أن تُحدث غير هذه النتائج، إن المظالم قد أُلغيت؛ إذ لم يعد باستطاعة الباشوات أن يفرضوا على المدن ضرائب باهظة، أو يكلفوا الأشخاص فوق طاقتهم. ومع ذلك فقد كان الأفراد في مناسبات شتى يُضطرون إلى أن يدفعوا مبالغ كبيرة توصُّلًا لممارسة حقوقهم، أو دفعًا لما يُخشى أن يُحكم به عليهم إذا ما رأَوْا أنفسهم متهمين.
أما الآن فإن رسوم الجمارك أصبحت تُستوفى على قدم المساواة؛ فالمواطنون يعامَلون كالفرنسيين.
إن بلص الباشوات العادي أحدث ضجة كبرى، وإن كانت المبالغ المفروضة غير ضخمة إلا على الطبقات والأشخاص الذين هم في بحبوحة. ولما جاء المصريون فرضوا ضريبة جديدة تفوق الأولى أربعة أضعاف، ولكنها اعتُبرت من المنافع العامة، وأُكره جميع السكان على دفعها. كانت تُجبى هذه الضرائب من الجميع، فلا يُستثنى منها أحد حتى ذوو الفاقة والعجزة، أما المسيحيون — بوجهٍ خاص — فلم يكن لهم ثَمَّةَ عذر يُعفيهم من دفعها.