الفصل العشرون
بيروت ودمشق أيتهما أحرى بأن تكون مركزًا للمؤسسات الأوروبية – الحجج التي تؤيد بيروت.
***
في سوريا اليوم مشكلة لم تُحل حلًّا يرتاح إليه رجال التجارة، وهذه المشكلة تدور حول معرفة أي المدينتين — بيروت ودمشق — أحرى بأن تكون مركزًا للتجارة الأوروبية. ولكي يستطيع القارئ الحكم، فسأقدِّم له أولًا حججي الخاصة، المخالفة للقائلين بأفضلية دمشق، ثم أُتبع آرائي بملاحظات أبداها أحد مؤيدي هذه الفكرة، وهو من الذين عرفت فيهم دمشق أكثر الناس اندفاعًا لتأييدها.
أرادوا أن تصبح بيروت إسكلة مرور (ترانزيت) فتصير من دمشق كالإسكندرونة من حلب، ثم ينقل القنصل منها ليقيم في دمشق، مجارين في ذلك إنكلترا التي قررت أن تجعل دمشق مقر ممثلها الأكبر.
إن بين حلب ودمشق اختلافًا كبيرًا، والفرق أشد وأقوى بين الإسكندرونة وبيروت؛ فحلب — نظرًا لموقعها الجغرافي — هي أهم نقطة للاتِّجار مع ولايات الكرمان، وديار بكر، وأرمينيا، وكردستان الغنية، في حين أن دمشق تقع على طرف الصحراء وليس لها إلا علاقات قليلة الأهمية مع بغداد ومكة؛ لأن حلب والقاهرة تزاحمانها فيهما.
فالإسكندرونة هي قرية يسكنها حوالي ٢٠٠ شخص تقريبًا. أما بيروت فعدد سكانها يراوح بين ١٥ و١٦ ألف شخص، ناهيك بأن موقع الإسكندرونة غير موافق من جميع نواحيه؛ فهواها أكثر الهواء فسادًا، ومجاورتها لباياس وجبل الجياور تجعلها خطرة جدًّا، فضلًا عن أنه لا يُستطاع نقل البضائع الكثيرة إليها؛ إذ لا مستودعات فيها ولا مخازن. وهي تكاد تكون بلدًا قفرًا لأن ضواحيَها غير مأهولة.
أما بيروت فتتمتع بمناخ صحيٍّ جدًّا، ومركزها أكثر المراكز هدوءًا وأمنًا، وهي تقع في نقطة مأهولة من لبنان، كثيرة الاستهلاك، حتى إن البعض من أهاليها الميسورين يتعاطَوْن أعمال التجارة في مرسيليا. ولا ننسَ قُربها من البلد الذي ينتج الكثير من الحرير الممتاز.
ولبيروت أسبقية على حلب في القيام ببيوعات ذات آجال معينة؛ فحلول موسم الحرير هو الوقت الذي تُستحق فيه جميع الأموال. إن من يبيعون تفاريق (بالمفرق) يقبضون المبالغ التي أسلفوها، ويدفعونها إلى من ابتاعوا حاجياتهم منهم، وهؤلاء بدورهم يولفون من هذه المبالغ، المضافة إلى منتوجات موسمهم، الكميات التي تعهَّدوا بها للتجار.
أما في حلب أو الشام فكثيرًا ما يتجاوز وقت الدفع آجاله المضروبة؛ كما أن القوافل لا تصل في مواقيت دقيقة، وهي معرَّضة إلى أخطار قلما تنجو منها. والذين يقطنون حلب يعرفون أن أثمان المبيعات لا تُقبض كاملة إلا بعد انقضاء عشرين أو ثلاثين شهرًا. أما في بيروت فالسندات تُدفع حين الاستحقاق.
وبيروت تنتج من الحرير ما يبلغ ثمنه مليونَي فرنك، بينما دمشق لا تُنتج إلا قليلًا من الإزارات.
حاول الإنكليز مرارًا أن يستقروا في دمشق، ثم اضطُروا إلى العدول عن ذلك. نعم، إن دار قنصليتهم لا تزال قائمة فيها حتى اليوم، ولكنها لم تَعُد قنصلية عامة بعدما تمت المواصلات مع الهند عن هذه الطريق. فلو كان الأمر ذا أهمية — كما يزعم أنصار دمشق — لَمَا بخل الإنكليز عليها بقنصل ذي درجة عالية. ولقد أنشأت فرنسا أيضًا في دمشق قنصلية من الطراز الأول أملًا باجتذاب التجارة الفرنسية إليها. إلا أن هذا العمل لم يُسفر عن نتيجة طيبة، مع أن موفدنا هناك كان السيد م. بودان؛ فليس إذنْ عدم الحماية هو الذي كان يَحُول دون استقرار مواطنينا في دمشق.
إن عكا وصور وصيدا ويافا والرامة تؤلف جزءًا من هذه الإسكلة.
إنه يمكن تخمين قيمة الأعمال التجارية الداخلة إليها بمبلغ ١٥٠٠٠٠٠ فرنك، والقيمة العائدة بمبلغ ١٨٠٠٠٠٠ فرنك.
وبعد انطلاق تُجَّارنا لاستئناف أعمالهم على أثر الحرب التي تلت غزو مصر، أصبح من المتوجب عليهم أن يختاروا الإسكلة التي يرغبون فيها. وطبيعي أن تنتقل التجارة، التي أصبحت حرة إلى المكان الذي يوافقها أكثر من سواه. وإذا كانت الأساكل الأخرى تضم بعض تُجارنا فبيروت تضم منهم عددًا أكبر وأوفر ثروة.
إن مجاورتها للجبل جعلت الذين تهافتوا إليها في مأمن من بلص السلطة التركية واختلاسها؛ ففي استطاعة بيروت أن تكفيَ سوريا بكاملها، ابتداءً من طرابلس حتى حدود مصر. إن العادة — وهي مستحكمة عند شعوب هذه البلاد — تحملهم على تفضيل التموُّن منها بدلًا من أن يبتاعوا حاجياتهم من أقرب الأماكن إليهم؛ ولذلك كانوا يقولون إن البضائع التي تُشترى من بيروت تكون مملوءة حياةً، ولكنها تصبح كالميتة عندما تُستورد من الداخل.
أحدث تهافت تُجار بغداد والشام والمدن الأخرى في سوريا تزاحمًا قويًّا بين البضائع المصدرة. وهذه المزاحمة يستفيد البائع منها دائمًا، ولا يمكن أن تحصل إذا ما انحصرت علاقاته بالمشترين المحليين فحسب؛ فمن الضروري أن يقوم وسطاء بين البائع بالجملة، والبائع بالمفرق، والمستهلك. وحيث لا تجار يدفعون نقدًا أو يقدمون بضائع، نُضطر إلى فتح الاعتمادات، ولا يوافق التعامل هكذا إلا مع من يقدمون بعض الضمانة، سواءٌ أكانوا ملَّاكين أو رأسماليين.
كانت عقود التأمين تكفل سلامة البضائع حتى دخولها بيروت، أما المخاطر التي تلحق بها برًّا فكانت على عهدة المصدرين. وهذه المخاطر — أي أخطار النقل ومصارفات المرور — تضاعف ثمن الحاجيات وتقف حجر عثرة في سبيل نفود البضائع الزهيدة الثمن، ولا سيما إذا كان متوجبًا على تجار يافا ونابلس والقدس أن يتبضعوا من دمشق كما يتبضعون من بيروت. إنهم يجبَرون حينذاك على دفع مصارفات نقل باهظة، ورسوم جمارك جديدة، كما أنهم يتعرَّضون لكثير من المخاطر، وعلى الأخص في فصل الشتاء؛ لأن البُلدان التي يقطعونها تخترقها الأنهار، وأكثر هذه الأنهار لا جسور لها. أما من بيروت فتُشحن البضائع بأقل نفقة إلى مرافئ الشاطئ، ثم تُرسَل من هناك إلى الداخل، وبطريقة إبراز «التذكرة» توفر رسوم جمرك ثانٍ.
دونكم الآن تقويمًا عن إحدى هذه القوافل التي تتألف من ٢٤٠٠ جمل:
١٢١٤ جملًا تنقل التنباك، ٢٠٣ تنقل المنسوجات، ١١٧ تنقل الغدد النباتية، ١٢٠ الزعفران، ٣٨٠ الجلود، ٩ النيل، ٥ شعر الماعز، ٦٠ قصب الكرز الذي تعمل منه مواسير الغلايين، ٨٣ البن، ٨٠ خشب الصباغ، ٢٥ المغرة، ٢٠ الصموغ، ٤ مواد الذهب والفضة، ٤ رزم الشالات، ١٥ الخزف. أما الخمسة والخمسون جملًا الباقية فتحمل أمتعة ومؤن المسافرين والقافلة.
والسيد شابوسو — وهو الذي أسأله أن يجيبني؛ نظرًا لتفضيله دمشق بصراحة ظاهرة — لا ينكر البتة أهمية موقع بيروت، ومع اعترافه بأننا لم نحسن اختيار مركز مؤسساتنا على الشاطئ، قد كان يرى أن تجارتنا بالمصنوعات، التي استوردناها وصدَّرناها من سوريا وإليها، كانت أكثر أرباحًا لو عُرضت من نقطة متوسطة كبيروت.
ولكن هي قوة العادة وتأثيرها. إنهم لا يلاحظون إلا كثرة المساوئ. والأسهل من ذلك هو القول إنه لا يمكن أن تتغير الحالة ما لم تُتَّخَذ تدابير حكيمة نعالجها بها. فكم يحسنون لو نقلوا هذه المؤسسات إلى بيروت! فهذه المدينة المنيعة بسبب مجاورتها للجبل، ونظرًا لمركزها الهام الذي يفضل بلا مراء جميع المراكز التجارية في سوريا السفلى، تستطيع أن تقدم لها كثيرًا من المنافع، لا بل أجرؤ أن أقول كثيرًا من الملذات أيضًا.
مفهوم أن إنتاج طرابلس ينحصر في الحرير ليس إلا، وعلى الرغم من أنه دون حرير سوريا قيمة، فكثيرًا ما يُطلب لاستعماله في صناعة مكاييلنا، وفي بضع مقايضات تقوم بها مرسيليا مع أفريقيا الشمالية.
إن المؤسسات الفرنسية في بيروت لا تُلحِق بنا من الأضرار الصحية الجسيمة ما يُلحقه بمواطنينا مناخ طرابلس. إن هواء بيروت نقي، وطبيعة تربتها تدل على أنها جافة، ومنحدرة، والمياه التي تتدافع في السواقي مسرعة إلى البحر لا تستقر ولا تمكث لتكوِّن المستنقعات.
إن بنية الرجال فيها أقوى بكثير مما هي عليه في طرابلس، ومنتوجات أراضيها هامة جدًّا؛ فحريرها أكثر ملاءمة لما نصنعه نحن من أشرطة وضفائر.
أما فيما يتعلق بملذات الحياة ورفاهيتها فما من شك في أنه إن لم تفق بيروت وطرابلس في هذا المضمار فإنها توازيها. إننا نعلم أن هذه المدينة كانت قديمًا نعيم الرومان، ويمكنها أن تكون في جميع الأوقات نعيم رجل ميسور، يتحلَّى بشيء من الذوق.