الفصل الثالث والعشرون
إن آثار نهر الكلب أصبحت معروفة تمامًا في أيامنا هذه، ولا سيما بعد أن سبك السيد بونومي قوالب لها من الجص، لا مجال للتحدث عنها ها هنا؛ لأنهم كتبوا عنها كثيرًا، غير أني أحسب أن القارئ سيقرأ بشغفٍ الرسائل التي بعث بها إليَّ السيد لاجار — العضو في المجمع العلمي — وجوابي عليها، فهي — كما أظن — أحسن طريقة تمكِّنه من إدراك أهمية هذه الآثار نظرًا لقدمها غير المنازع عليه.
الرسالة الأولى (باريس، ٢٥ حزيران ١٨٣٤)
عندما تشرَّفت بمقابلتكم في باريس لسنوات خلت، تفضلتم وأطلعتموني على صورة نُقلت عن أحد الآثار المنقوشة في واجهة الصخور بضواحي بيروت. ربما تذكرون أن هذه الصورة التي تهمني جدًّا قد فسحت لي في المجال لأخبركم أن رحَّالة إنكليزيًّا — هو السيد بانك — قد أخذ بنفسه، أو بواسطة غيره، من المحلة نفسها نسخة عن مخطوطة كُتبت بلغتين: القسم الأول كتب بالحروف الهيروغليفية، والثاني بالحروف المسمارية. وبهذه المناسبة دللتكم آنذاك على الذكر المقتضب لهذا الاكتشاف الذي أدخله السيد شامبوليون في طبعته الثانية (١٨٢٨) من كتابه الموجز في الخطوط الهيروغليفية، الصفحة ٢٧٢، تحت هذه العبارة: «إننا نجد أيضًا هذه المخطوطة الملكية نفسها (مخطوطة رعمسيس التي أيدها كري) في مخطوطة كُتبت باللغتين الهيروغليفية والمسمارية. إن هذا الأثر الثمين موجود في نهر الكلب بسوريا، وهو (بالطبع نهر الأقدمين المدعو ليكيس) قرب بروتوس القديمة (أي بيروت التي تقع بين بيبلوس وصيدون).»
وهناك نبأ آخر — نُشر حديثًا في مجموعة تقوم بطبعها جمعية علوم المراسلات الأثرية، المؤسسة عام ١٨٢٩، وهي جدُّ محترمة ومتداولة — قد استفز انتباه العلماء وفضولهم؛ إذ قال إن جوالة إنكليزيًّا آخر — هو السيد ليريك — وصل حديثًا إلى نابولي بعد أن وجد المخطوطات الهيروغليفية والمسمارية التي اكتُشفت منذ عدة سنوات في نهر الكلب. إلا أن هذا الرحالة لم يأخذ رسم الوجوه ولا نسخة المخطوطات. إن حديثه يختلف في نقطة هامة عن حديث السيد بانك ويتفق مع ما قلتموه؛ فإنه يزعم «أن المخطوطات الهيروغليفية ممحوة عمدًا، في حين أن المسمارية لا تزال محفوظة على أحسن وجه.»
إن السيد لافين الذي قام — بِناءً على رغبة السيد وليم جيل، العالم الشهير بالآثار — بزيارة نقوش نهر الكلب. يُعتقد أن هذه المخطوطة حُفرت بأمر من قمبيز، وأن هذا الملك محا المخطوطة التي كُتب عليها بالحروف المصرية اسم رعمسيس أو سيسوستريس كي لا يترك دليلًا تاريخيًّا كهذا يُنبئ عن غزوة الملك المصري لآسيا الغربية.
وألاحظ بدوري أن هذا الافتراض لو كان يرتكز على أساس صحيح، لأصبح من الصعب تفسير تمكُّن السيد بانك من نسخ أو استنساخ أسطورة مصرية، في المكان نفسه، يقرأ عليها اسم رعمسيس أو سيسوستريس. وبما أن هذا الرحالة أو موفده قد زار نهر الكلب قبلكم على ما أظن، وقبل السيد لافين بعدة سنوات، فيجب أن نسلم، توصُّلًا للتوفيق بين هذه الأدلة الثلاثة، بأنه: إما أن تكون المخطوطة المصرية — التي أخذها السيد بانك أو موفده من نهر الكلب — قد أُتلفت بعد سفره أو سفر موفده إلى سوريا، وإما أن تكون محفورة في مكان غير ناتئ؛ فلم تنتبهوا إليها، لا أنتم ولا السيد لافين، ولا الذين كُلفوا تنفيذ أوامر الهدم للقيام بأعمال التنقيب التي أمرهم بها الملك العجمي الذي أريتموني رسمه.
فسواء أنقَّبتم مرة ثانية في ضواحي نهر الكلب أو كنتم لا تملكون سوى الملخص والمعلومات التي حصلتم عليها في زيارتكم الأولى، فإني أعلق أهمية كبرى على الطلب الذي التمسته منكم. ويجب أن تتيقَّنوا — إذا لبَّيْتم طلبي، وسمحتم لي بالتصرف بهذه المستندات القيِّمة — بأني أجد لذة كبرى في أن أنسب إلى أحد مواطني فخر الاكتشاف الذي يدور حولها.
إنه لمن الطبيعي، في وقتٍ اتجهتْ فيه بنوعٍ خاص أنظار جميع علماء الآثار إلى القضايا التاريخية والمذاهب الدينية، وآثار آسيا ومصر المصوَّرة، أن تستقبل الإدارة العامة لمجمع علم المراسلات الأثرية — المؤسسة في وقتٍ واحد بروما وباريس ولندرة وبرلين — نبأ وصول السيد لافين إلى نابولي، لتدل الطبقة الراقية على أهمية آثار نهر الكلب وتدعو السائحين المثقفين إلى التنقيب في هذه الأمكنة بأكثر ما يُستطاع من اهتمام حتى يومنا هذا، يساعدهم في ذلك رسام ماهر هو السيد بونسون، وزير بروسيا في روما، ورئيس الإدارة وكاتب المقال المنشور في المجموعة الأثرية. إنه كان يجهل تمامًا أنكم ذهبتم وشاهدتم بأم العين تلك الأمكنة، وأنكم أتيتم برسم الملك العجمي الذي لم يُشر إليه في مشاهدةٍ ما، وقد كتبت إليه أعلمه بذلك.
إن إدارة المجمع تعلق أهمية كبرى على نجاح هذه المهمة، ولا سيما أن السيد بانك يصرُّ على عدم نشر مخطوطة نهر الكلب المكتوبة باللغتين أو اطِّلاع أحدٍ عليها، كما يصرُّ على أن لا يعطيَ أو يتنازل عن واحدةٍ من الكثيرات التي أتى بها من رحلاته الأخرى.
هل تأملتم طبيعة الصخرة التي نُقشت عليها هذه الآثار في نهر الكلب؟ إن البعض يقولون إنها من الحجر الرملي الطري، والسيد لافين يقول إنها حجر أشهب صُلب.
رسالة السيد لاجار الثانية (باريس، أول أيلول ١٨٣٤)
إني — خوفًا من ضياع الكتاب الذي تشرفت بإرساله إليكم في الخامس والعشرين من شهر حزيران المنصرم — أبعث إليكم بنسخة ثانية عنه، وأستمحيكم عذرًا بأن أضيف بعض معلومات استقيتها من العدد الأخير لصحيفة مجمع علم المراسلات الأثرية الصادرة عن روما.
إن هذه الصحيفة تتضمن كتابًا للسيد وليم جيل يدلُّ — كما دل المقال الأخير الذي نشره السيد بونسون — على الأهمية التي تعلقها الطبقة الراقية على مخطوطات نهر الكلب ونقوشه.
إن السيد وليم جيل يصحح في هذه الرسالة بضعة أخطاء فاتت السيد بونسون، ثم يحاول أن يثأر لمواطنيه مما أخذه عليهم السيد روزيليني حول هذه الآثار في مشاهداته التي نشرها في بييز بعد سفره إلى مصر؛ ذلك السفر الذي قام به — كما تعلمون — بالاشتراك مع المرحوم شامبوليون الشاب. إن السيد روزيليني يستغرب ويشكو إهمال إنكلترا في عدم نشرها ومعاينتها — في الأمكنة نفسها — كل ما يتعلق بأثرٍ يهم التاريخ كآثار نهر الكلب؛ حيث ترى مخطوطة محفورة بلغتين يقرأ فيها اسم رعمسيس وسيسوستريس بحروف هيروغليفية. والسيد روزيليني يدرك إفراطه في الإهمال حتى إنه لم يعلم هو ولا المرحوم شامبوليون لمن نحن مدينون بفكرة اكتشاف هذا الأثر الثمين.
إن السيد وليم جيل يُصرِّح في هذه المناسبة بأن صاحب الاكتشاف هو سائح أيرلندي: السيد وايز. وقد أعطاه — بعد عودته من سوريا — نسخة عن مخطوطة نهر الكلب الهيروغليفية، وهذه النسخة نقلها حالًا السيد وليم جيل للدكتور يونغ الذي تكلم عنها في الصفحة ٥٢ من خطبةٍ حول المخطوطات الهيروغليفية.
إلا أن رسالة السيد وليم لم تنبئ عن الفترة التي زار في أثنائها «وايز» نهر الكلب. إننا نلاحظ فقط أنها قبل الرحلة التي قام بها السيد لافين إلى سوريا بسنوات عديدة. إن السيد لافين هذا قد سُمي لفيك خطأً في مقال السيد بونسون.
- (١)
المخطوطة باللغتين (التي يحوزها السيد بانك سواءٌ أكان نقلها له السيد وايز أو رحالة آخر، أو كان ذهب هو بنفسه وشاهَد هذه المخطوطة التي لم تُنشر بعد)، هل حُفرت إلى جانب الملك العجمي الذي أريتموني رسمه أم على صخرٍ آخر في المحلة نفسها؟
- (٢)
لنفرض أنها لم تُحفر إلى جانب الملك الفارسي، فهل نجد على مقربة منها آثار حفر تحملنا على الاعتقاد بأنها تلاصق صورة ملك مصري ربما امَّحَتْ بأمرٍ من فاتح عجمي أو بسبب آخر؟
- (٣)
كيف هو نسق القسم الهيروغليفي من هذه المخطوطة بالنسبة إلى القسم المكتوب بالحروف المسمارية؟ هل هذا القسم الأخير مقسوم عمودين أو ثلاثة طبقًا للأسلوب الذي كنا نلاحظه في آثار المدائن وهمدان وفان؟
- (٤)
وأخيرًا هل إن آثار النقش والحفر — التي تُرى على واجهات الصخر في نهر الكلب — هي غير التي رأيتموها ونقلتم عنها صورة ملك عجمي؟ ألا تزال هذه الآثار ظاهرة اليوم فيمكننا أن نحكم حين نراها إذا كانت هذه الآثار ترجع إلى فن أو تاريخ المصريين أو إلى ملوك العجم؟ وفي الحالة الأخيرة هل يمكن الظن أن ملوك العجم قد مَحَوُا التصاوير المصرية أو المخطوطات الهيروغليفية ليستبدلوها بصورهم الخاصة ومخطوطات مسمارية؟
إن جميع هذه الأسئلة تؤكد لكم مرة أخرى جهلنا الكبير في أوروبا ما يمتُّ إلى آثار نهر الكلب بصلة، وبأي جزع تنتظر الطبقة المثقفة المعلومات الحديثة عنها التي استقيتموها استقاءً لم تُسبقوا إليه أو عرفتموها بعد معاينتكم تلك الأمكنة.
جواب (بيروت، في ٥ كانون الأول ١٨٣٤)
إني لم أتسلَّم إلا منذ حوالي عشرين يومًا الرسالتين اللتين شرفتموني بكتابتهما إليَّ بتاريخ ٢٥ حزيران وأول أيلول.
إني أجهل السبب الذي أخَّر وصول الرسالة الأولى في حينها، وآسف كل الأسف أن يَحُول هذا التأخير دون إشباع رغبتكم بأسرع ما يمكن. إن هذا التأخير قد أضرَّ بي أيضًا فحال دون إتمام معلوماتي التي كان يُستطاع إكمالها بسهولة في فصل الصيف الجميل ومعونة السيد بونومي الذي كان عندنا.
ولما كنت قد وهبت الرسم الذي تشرفت باطِّلاعكم عليه، وكانت أشغالي لا تسمح لي بعد عودتي أن أهتم بغير مشاغل وظيفتي، فقد اضطُررت للقيام خصوصًا برحلة إلى نهر الكلب لأمدكم بالمعلومات التي أجد بعض اللذة في نقلها إليكم.
ولما كانت رسائلكم تشتمل على طائفة من الأسئلة، فقد فكَّرت في أن أجيب عليها بعد استعراضها ثانية؛ لأني إذا لم أروِ غليلكم في كل شيء فستعقدون أني تعمدت ذلك.
أظن أني لم أكن المكتشف الأول لآثار نهر الكلب التي هي على مرأًى من المارة، وقد أكون المكتشف الأول للتي فوق الطرق بمعزل عن الناس؛ والذي يُثبت ذلك هو أن السائحين لم يتحدثوا عنها إلا بعد أن أرشدتهم إليها. لقد أخذت صورة عنها عام ١٨٠٨ قدمتها إلى والدي فأعطاها هو إلى الذين جاءوا إلى زيارتها ورؤيتها. إن غيابي الذي استغرق فترة ثلاث سنوات لم يسمح لي أن أعرف أسماء السياح الذين مرُّوا بطرابلس حتى عام ١٨١٢ معرفة دقيقة.
نقلت حينذاك قسمًا كبيرًا من المخطوطة المسمارية. وأما اللوحة رقم ٦ فقد ظننت أنها إغريقية، وهذا تقدير بحت أوحاه إليَّ الشكل المربع الذي حافظت عليه الحروف حتى يومنا هذا، وإن لم يكن يُستطاع تمييزها أو معرفة واحد منها. فهل تكون صفة اللغة المزدوجة التي أُطلقت على مخطوطات نهر الكلب عائدة إلى نوعَي حروف المخطوطات؟ يجب أن أعتقد ذلك. إلا أنها تصير غير قابلة التصديق بالنظر إلى المخطوطتين المسمارية والهيروغليفية؛ هذا إذا لم يكن تلازُّ هذين الأثرين (رقم ٨ و٩) قد حمل على اعتبارهما أثرًا واحدًا.
من الممكن أن يكون بعض العارفين قد اكتشفوا آثارًا للحروف المسمارية في أسفل وجوه اللوحة المصرية. أما أنا فلا يمكنني أن أجازف بأية فكرة من هذا النوع. إني أقول فقط إن هذه الافتراضات يمكن أن تفسر وتوضح من السَّيدَين بونومي وكاترفود اللذين اصطحبا إلى إنكلترا رسومًا جدَّ صحيحة عن آثار نهر الكلب، لا بل الطبعة نفسها عن الأثر ذي الرقم ٩.
والسيد بونومي — وهو نحات ومهندس مشهور متخصص بدراسة الحروف الهيروغليفية — لم يدَّخر، ولا ريب، بعد أن نقل طائفة كبيرة منها أثناء تجواله والسيد شامبوليون، شيئًا من وسعه ليقرأ كل ما تُستطاع قراءته في نهر الكلب.
ونظرًا للمعلومات الوثيقة التي أدليا بها لم تبقَ لي فائدة تُذكر من نقل بقايا هذه المخطوطات؛ ولهذا اكتفيت بنقل صور الوجوه التي لم أتمكن من الحصول عليها، إلا أثناء الليل، بعد أن استعنت بمشعالٍ أراني خطوطها ناتئة لأنها تكاد تكون مَمحوَّة.
- أولًا: لأن عملية المحو تُعرف من آثار الأدوات التي استُخدمت لهذه الغاية. ثم لو كان المحو متعمَّدًا لما بقي ما نراه الآن من مخطوطات هيروغليفية لا تزال محفوظة. أما الذي أظنه أنا فهو أن المحو ناشئ عن طبيعة الصخرة، فهي أشد صلابة في ناحية منها في الناحية الأخرى.
- ثانيًا: لأن الإطار لا يزال في حالة حسنة.
- ثالثًا: لأن تلف اللوحات العجمية في تناسبٍ تامٍّ مع تلف الألواح المصرية،
وإذا ما وجدنا بين الأولى لوحة رقم ٩ في حالة أقل تلفًا من
الباقية، فذلك لأنها استفادت من عرق أكثر صلابة من بقية أجزاء
الصخرة، ثم لأن هذه اللوحات تقع في مكانٍ منحدر وفي مأمن من
الشتاء.
إن افتراض عملية المحو لا يمكن التسليم به؛ إذ يقدر كل رحالة مُطَّلع على علم الحروف الهيروغليفية — ولو قليلًا — أن يرى لأول الْتِفاتة وجه واسْم سيسوستريس في القسم الباقي من خطوط النقوش المصرية وحروفها. ما كاد الدكتور باريزه — الذي توجَّه معي إلى نهر الكلب — يرى اللوحة ذات الرقم ٨، حتى قال لي وهو يشير إلى الوجه: إنه رعمسيس. والسيد بونومي كان من هذا الرأي، وقد قال لي إنه أدرك ما ترمز إليه هذه الآثار المختلفة، وقد رسم لي صورة رأس أتأسف لعدم حفظي إياها.
إن المنحوتات لم تتعرض لأي تلف منذ زمنٍ ما، ولقد أحبط سعيي انتزاع اللوحة العجمية ذات الرقم ٩، ما لاقيته من مَشاقَّ عند مباشرة تنفيذه.
والصعوبة الكبرى التي تلمسونها أنتم في التوفيق بين الأدلة المختلفة المأخوذة عن آثار نهر الكلب؛ ناتجة عن تقلقل آراء السيد بانك ولافين؛ ذلك لأن الأول لا يتكلم مطلقًا عن الوجوه الفارسية مع أنها تبلغ الستة، واثنان منها ملتصقان بالآثار المصرية، ثم لأنكم قد تُحملون على اعتناق فكرة السيد لافين القائلة بمحو المخطوطة المصرية بأمر من قمبيز، وهي المخطوطة الهيروغليفية التي اطَّلع عليها السيد بانك.
إن الأدلة التي تشرفت بتقديمها لكم ورسم الأثر رقم ٩ الذي سبكه السيد بونومي تغنيني عن المخطوطة المسمارية.
إن الصخور التي حُفرت عليها آثار نهر الكلب هي من حجر قاسٍ كلسي أبيض اللون في الداخل، أما سُمرته الخارجية فناتجة عن تفاعل الهواء والماء.
إن الرسوم التي أجد لذة في إرسالها إليكم تُجيب على الأسئلة المدونة في رسالتكم الأخيرة. وأكرر هنا أني لا أظن مطلقًا أن ملوك العجم قاموا بمحو المخطوطات المصرية أو الهيروغليفية، وأن التلف الذي تعرضت له آثار نهر الكلب هو وليد الأزمنة.
إن المخطوطة اللاتينية الموجودة في جوف الصخرة نفسها تجد فيها سطرًا امَّحى. وهذه المخطوطة تنبئنا أن العرب سَمَّوْا ليكيس نهرَ الكلب لمشابهة الكلب للذئب المحفورة صورته عند الممر فوق الحاجز. ولما كان هذا التمثال أجوف فارغًا يعوي عند هبوب نوع من الرياح، فقد اعتقد العرب أنه كان مسكونًا، وعزوا إليه تهدُّم الجسر الذي شاءت أيادٍ غير لبقة أن تستبدله بالجسر الذي بناه الرومان فحملته مياه شتاء قاسٍ؛ وعند ذاك تقرر التخلص من هذا الكلب المشئوم، فدهور إلى قاع البحر.
وأضيف هنا نبذة من رسالة بَعث بها والدي إلى السيد ستزن تتعلق بالمخطوطة اللاتينية التي لم تُفهم بعد:علامَ التفريق بين أوريل وأنطونان التقي وكلاهما من حاشية إمبراطور واحد؟ فمن الجائز أن يكون لقب البريطاني لم يُمنح لأنطونان ولا لخلفه. إن كاركلَّا هو الذي ادَّعاه لأنه رافق أباه في حملته إلى بريطانيا. وهذا الملك أتى بعد ذلك إلى سوريا، واضطُر لأنْ يعبر هذه الطريق في الجبل سنة ٩٦ قبل المسيح، وكان يقصد الإسكندرية لينزِّه — حسب تعبير مونتسكيو — صولته وبطشه متلذذًا بمشهد عدد كبير من الرجال ذُبحوا في أحد الأعياد؛ ولذلك رُممت الطريق ووُسعت إما بأمرٍ من الإمبراطور، وإما لاكتساب رضاه عندما كان في أنطاكية.
حاولت مخطوطات إغريقية وعربية أن تخلد ذكرى الفاتحين الذين مرُّوا في هذا المكان، إلا أن الأيام قست على تلك الآثار التي أرادوا أن يتركوها لنعرفهم بها اليوم.
لقد أمليت بضعة أسطر من مخطوطة إغريقية وأنا ممسك بالصخرة بإحدى يديَّ، حاملًا بالأخرى مشعالًا لأتمكن من قراءتها. إن الكاتب الذي رافقني لا يُحسن اللغة الإغريقية إلا قليلًا؛ ولهذا لم يستطع القيام بمهمته على وجهٍ صحيح. وإني أشك في استفادتنا من نقل هذه المخطوطة.