الفصل الخامس والعشرون
المراعي في أعالي لبنان صالحة، إلا أنها غير وافرة؛ وهذا ما جعل الحيوانات الداجنة قليلة في البلاد، وهذه القلة اضطرت الحكومة لمنح ملاكي بلاد ما بين النهرين ورعاتها حق إدخال ثلاثين أو أربعين ألف رأس من الغنم إلى سهول بعلبك.
إن الأكراد والتركمان يفعلون ذلك أيضًا، كما أن عددًا غير قليل من سادة العجم الأغنياء كانوا يتعاطَوْن هذه التجارة. والرعاة على اختلاف أنواعهم يجلبون قطعان الغنم العديدة يتَّجرون بها مع أهالي لبنان وأهالي مدن الساحل، وهم يدفعون لقاءَ حرية هذه التجارة ضريبةً ضئيلةً تجعلهم في حماية أمراء ضواحي البقاع؛ فينعمون حينذاك بأمان تام، وتكون ديونهم غير هالكة إذا ما باعوا مواشيَهم بثمن مؤجَّل تسهيلًا لتجارتهم.
وأغنامهم هذه ذات أليات ضخمة قد يبلغ وزن الواحدة منها خمسة عشر كيلوغرامًا. يعلفها الأهالي علفًا عنيفًا، وإذا ما مَلَّتِ الأكل أقبلوا عليها يحشونها حشوًا بأوراق التوت والنخالة، ويغسلونها يوميًّا بالمياه النقية فتبلغ أقصى حدود السمن. فكل عائلة لبنانية تعلف واحدًا من هذه الكباش لتدَّخر لحمه مئونةً للشتاء، فيُقلى ويُحفظ في شحمه المذوَّب، ومتى أقبل الشتاء تهبط القطعان التي تصيف في الجرود إلى الساحل؛ حيث يكون قد أعدَّ كل ملَّاك محلًّا ملائمًا لبياتها عنده طمعًا في سمادها الذي لا بد منه للزراعة على اختلاف أنواعها، وخصوصًا زراعة أشجار التوت. إن هذه الحيوانات اللبونة هي التي تمدُّ البلاد بالحليب والزبدة والجبن واللبنة.
وفي الجبل جِمال يبتاعها أهلوه من عرب الصحراء. أما البقر والمعزى فمن إنتاج البلاد نفسها، ومن جزيرة قبرص تُستقدم الحمير والبغال والخيول العادية. والبقر الممتازة ترد إلى الجبل من ضواحي دمشق.
لا ينتج لبنان وملحقاته من الحبوب (القمح، الشعير، الذرة، العدس، الكرسنَّة) إلا ثلث الكمية التي يستهلكها الأهالي، وإذا أصابت البلاد خصبًا كبيرًا فقد تستريح من اللجوء إلى الخارج — في طلب المواد الغذائية — مدة أربعة أشهر أو خمسة فقط.
ينتج كل مكيال من البذار من اﻟ ١٢ إلى اﻟ ١٤ مكيالًا. وفي السهول والأرض الجبلية الجيدة يغلُّ المكيال عشرين مكيالًا.
أما سهل البقاع فالمُدُّ الذي يُبذَر في تربته فتراوح غلَّته بين خمسة وعشرين وثلاثين مُدًّا.
إن تربة لبنان صالحة جدًّا لزراعة البطاطس، ومع ذلك فقلما يعرفها أهلوه، وإذا زرعت في بعض الضواحي فلكي تباع من الإفرنسيين. إن الشعب هنا — كما هي الحالة في جميع أنحاء تركيا — غير ميَّالٍ إلى التجديد، ومن شريعتهم: القديم على قدمه. ولهذا يفضلون على البطاطس ذات الغذاء الصحي النافع، خرُّوب قبرس وفول مصر الذي قد يصنعون منه خبزًا كريهًا.
تنتج القرى الساحلية — وعلى الأخص القرى الواقعة بين بيروت وصيدا — كثيرًا من الزيت. أما الحاصلات الأخرى التي تكثر في الجبل وضواحي بيروت، فهي العنب والتين والصنوبر واللوز والجوز. قد تنتج البلاد ما يكفيها من جوز ولوز، أما العنب والتين والصنوبر فيصدَّر بعضها إلى الخارج.
إن عدم استطابة الشرقيين الثمار هو — بلا ريب — السبب الأول في ندرة الجيد منها. أما السبب الثاني فقلة اكتراثهم بها؛ فهم لا يهتمون بإتلاف الحشرات التي تُفسد عليهم أعمالهم الزراعية، ولو فعلوا لأضافوا إلى محاصيلهم منتوجًا جديدًا يستفيدون منه في تغيير ألوان معيشتهم، أو يبيعونه فيتضاعف ريع عقارهم، ولكنها اللامبالاة التي يتصفون بها في جميع شئونهم.
ومن حيوانات هذه البلاد الخفافيش ذات الحجم الكبير، المنتشرة انتشارًا ذريعًا في ضواحي بيروت. إنها تهاجم المدينة كل ليلة، وتغشى المزارع والحقول لتعيث فيها فسادًا حتى الصباح، محدثة أجسم الأضرار. ويا لتعاسة التاجر الذي لم يؤشب نوافذ دكانه بشريط حديدي!
وإثباتًا لما قلت عن وفرى هذه الحيوانات أسرد هذه الحادثة التي وقعت في بيروت، وقد رواها لي عدة أشخاص مؤكِّدين وقوعها.
اشترى تاجر كمية كبيرة من الزبيب وتركها مكوَّمة في مخزنه، وذهب إلى دمشق لاستيراد المشمش المجفف الذي تصدِّره هذه المدينة بكثرة، وطالت مدة إقامته أكثر مما تقتضي صفقته التجارية؛ فدُهش أشد دهشة عندما دخل حانوته بعد عودته ووجده خاليًا خاويًا، فتبادر إلى ذهنه — طبعًا — أن أحدًا قد سرق الزبيب؛ فرفع شكواه إلى الوالي، فأمر بالبحث والتدقيق والكشف الحسي، فلم يسفر ذلك عن نتيجة. لم يهتدوا إلى أي كسر؛ فالقفل لا يزال كما كان، وشبابيك المخزن لا تزال قضبانها الحديدية مشتبكة لم تُمس، فلم يبقَ إذنْ سوى القيام بتحريات في المدينة، وهذا ما وعد الحاكم بأن يهتم به كل الاهتمام.
يصعب جدًّا أن تُطمس آثار جريمة كهذه في مدينة صغيرة كبيروت، ومع ذلك لم يُعثر على أثرٍ ما لهذه الصفقة الكبرى من الزبيب.
وبعد مرور شهر وأكثر على الحادث الذي لم يظفر التحقيق بجلاءِ غامضه — ولو بعض الشيء — دخل بعضهم عَرَضًا إحدى المغاور العميقة الواقعة في طرف المدينة الغربي، فرأى فيها بذور العنب كومًا كومًا، ولما توغل في المغارة وجد أكداسًا أكثر ضخامة؛ فأذاع خبر ما رأى وشهد في مغاور الروشة.
وسار التاجر وهو لا يدري إلى أين — مع الحاكم — واستغرب هذه النزهة. ولما انتهيا إلى شط البحر، ذهب بعض دهشته عندما وقف أمام مغارة عميقة، فظن أن السارقين يختبئون فيها، وأن الواليَ قد استصحبه ليُريه غرماءه. وكم كانت دهشته عظيمة عندما أَرَوْه أكداسًا كبيرة من البزور وقالوا له: هذه هي الآثار الدالة على السرقة، وهنا يسكن مرتكبوها.
فصاح اليوناني مستغربًا: ولكن أين هم؟
فأجابوه: في كل مكان من هذه المغاور العميقة، إنهم مختفون في ثناياها وأخاديدها.
ولما كشفوا له عن سر الحادث، خاف التاجر وظن المغارةَ مرصودة … وظل مدة طويلة لا يصدِّق ما حدث، ولكنه صدَّق بعد حينٍ أن الخفافيش هي التي سرقت بضاعته، بعد أن رأى بعينيه آثارها؛ رأى منها كمية كبيرة لا تزال باقية، ففهم للحال أن الحادثة ليست صعبة التصديق، ولا سيما إذا عرفنا أن الجرذان المنتشرة في مدينة بيروت انتشارًا هائلًا لا تتأخر عن نجدة زميلاتها ذوات الأجنحة في مثل هذه الغزوة، فهما حلفان في محاربة تجار الثغر.
إن الثمرة الأكثر شيوعًا في بيروت هي ثمرة تين برباريا التي تُسمَّى في أفريقيا التين المسيحي؛ فهذا المحصول هو أحد عناصر الغذاء الهام عند جميع السكان بوجهٍ عام، وعلى الأخص عند الفقراء الذين يجعلونه غذاءهم الوحيد ويعيشون عليه طوال الصيف كله.
إن كمية الصبار الكثيرة التي تنمو في هذه البلاد لم تحمل السوريين على التفكير في تعميم دودة القرمز عندهم؛ فهم يكتفون من هذه النباتات بفائدة ثمارها، فما لهم ولأوراقها، وحسبهم منها فائدة أخرى، وهي أن يحيطوا بها بساتينهم فتكون لها خير سياج؛ نظرًا لأشواكها الحادة التي تتسلح بها.
لم يستعمل السكان هذا الفحم وقودًا، ولكنهم اكتشفوا فيه ميزة طبية، وهي شفاء الجراح الأكثر اتساعًا في ظرف أربعٍ وعشرين ساعة. إنهم يحوِّلونه إلى مسحوق ناعم تكاد لا تستطيع الأصابع أن تقبض عليه، ثم ينثرونه على الجرح الذي يُلفُّ بشاشة، فيندمل بسرعة عجيبة.
وهنالك عدة مناجم من الحديد في لبنان قلما استُثمرت؛ لأنهم لا يحسنون اختصار أساليبهم، ولا يغيرونها؛ فيستخدمون الحطب في صنعه، فتكلفهم تلك العملية غاليًا نظرًا لارتفاع ثمن الحطب عندهم. إن الحديد الموجود في لبنان من النوع الليِّن جدًّا، وهذا ما يجعله أفضل من الحديد الأجنبي لصنع نعال الخيل وعمل المسامير، والأعمال الأخرى في البلاد.
ويؤكدون أيضًا أنه يوجد عندهم مناجم ذهب وفضة ونحاس، غير أنهم لم يجرءوا قط على مسِّها. والسيد بروكي العالِم بالطبيعيات الموفَد من قِبل محمد علي إلى سوريا عام ١٨٢٣ وجد مواد هذه المعادن الثلاثة، ومواد من التوتيا أيضًا.
إن الأشجار التي يلائمها مناخ لبنان وتنمو فيه هي الأزدرخت الذي ينمو بسرعة ويبقى خشبه صالحًا مدةً طويلة. وهنالك نوع منه تنمو أغصانه المورِقة بشكل مظلَّة، فيوافق الطرق والممرَّات ظله الوارف؛ فتصبح كأنها أسرَّة.
ومن أشجار لبنان الجوز الذي أجهل بالفرنسية اسمه، وهو ذو صمغ طيب الرائحة، وقد سبق لي أن قلت إنهم كانوا يستعملونه ليدوِّخوا الأسماك في الأنهار والغدران عند محاولاتهم اصطيادها.
لست أعتقد أن توت هذه البلاد هو من نوع خاص؛ لأنه لا يعلو عن الأرض أكثر من ثلاثة أمتار أو أربعة. إنه ولا شك أكثر أشجار هذه الناحية أهميةً ونفعًا. وبقطع النظر عن فائدته الأولية في تربية دودة الحرير، فقضبانه التي تُقطع في الربيع — بقدر ما تدعو الحاجة إلى ورقه لعلف دود القز — تُستخدم للوقود، كما أن قشور هذه القضبان تقوم في علم الاقتصاد عند الفلاحين مقام قشور الخيزران في الأشياء التي تحتاج إلى ربط. إن أوراق الدفعة الثانية من ورق التوت — وهي تنمو في الصيف — تُطعم للمواشي. أما الخشب فقد سبق لي أن قلت إن النجارين يفضلونه على سواه من الخشب في أعمالهم.
وأقول أخيرًا إنهم ينتفعون بكل ما ينتجه التوت حتى بفضلات الأوراق التي استُعملت في تربية دود الحرير، كما أن براز هذه الدودة يستعمل علفًا للبقر، وكثيرًا ما تستلذه.
إن الفوائد العديدة التي تُجنى من شجرة التوت تدعو الفلاح إلى التضحية بجميع الأشجار الأخرى بدون شفقة؛ فإذا ما نبتت قربها شجرة — كما سبق لي أن قلت — تُقتلع حالًا خوفًا من أن تشاطر من هي أفضل منها عصارة التربة المغذية. وكلما بدا لناظر الفلاح اليقِظ مكانٌ ملائم لغرس التوت، يقتلع كل ما فيه من شجر ليغرس مكانه التوتة قرة عينه؛ وحينذاك تُسمَّد التربة باعتناء وتُحرث مرات في السنة. وبقدر ما تولى هذه الشجرة من عنايةٍ يزداد الفلاح يسرًا؛ لأن غلة هذه الشجرة تزداد بازدياد العناية بها.
وعندما يرَوْن أن الشيخوخة قد دبَّت إلى شجرة التوت (وهذا يكون في الثلاثين من عمرها إذا لم يُعتَنَ بها) يقتلعونها بلا شفقة، لينصبوا مكانها شجيرة من العائلة نفسها؛ فالعناية الحسنة والتدبير الأكثر ملاءمة لطبيعة هذه الشجرة يجعلانها أكثر خصبًا، وأوفر غلة، وأطول عمرًا.
وإذا تفقَّص بزر الحرير قبل نموِّ ورق التوت — وهذا ما يحدث في فصول الشتاء غير الباردة — فإنهم يغذونه بأوراق الخبازي إلى أن يؤتيَ شجر التوت أُكله.
وموسم الحرير في القرى الساحلية يسبق موسم الجرود زهاء شهرين؛ فينتهي في الساحل في أواخر أيَّار، وفي الجرود في أواخر تموز.
إن صنوبر لبنان يُنتج خشبًا يصلح لبناء المراكب البحرية، وهو يُستعمل جسورًا لسقوف البيوت يُستغنى بها عن القناطر الحجرية. وعندما يعمر الصنوبر يصبح خشبه كثير الصمغ ويعيش إذ ذاك مدة طويلة.
وهناك نوع من النمل في الجبل يؤلم لسعه ويُحدث انتفاخًا في البشرة.
إن الجبل يزخر بالخمور، وعلى الأخص في الوادي الذي يجري في أسفله نهر الكلب، وعلى الرابية المقابلة لمدينة بيروت. إن خمرة لبنان بيضاء صفراء بوجهٍ عام؛ ومن هنا جاءها الاسم الذهبي، ولكن الخمرة الحمراء معروفة أكثر من تلك، ولا سيما بعد أن عرفت بيروت المؤسسات الأوروبية وأصبحت هذه الإسكلة يرتادها الأجانب. إن المولع بعمل الخمور يمكنه أن يكتشف خمورًا فاخرة في لبنان شرط أن لا يؤمن بشهرة بعض القرى والمزارع؛ فهذه المحاصيل تختلف أجناسها في القرية الواحدة، حتى إنك لا تجد تجانسًا بينها خلال سنوات كثيرة. ولقد اختبرت ذلك بعد أن ذقت في كل موسم قسمًا من خمرة صليما الفاخرة. وفي كل عام كنت أحصل على صنف يختلف في اللون والطعم عما تَقدَّمه في الأعوام السابقة؛ فعلى المولع بأصناف الخمرة أن يتذوَّق عددًا كبيرًا من الخوابي، ثم ينتقي الجيدة منها.
لا تكثر الطرائد في لبنان، وهذه القلة ناتجة عن الطريقة المبيدة التي يتصيَّدون بها. إن الأمير بشيرًا تعوَّد أن يقوم كل سنة برحلة أو رحلتين في الناحية بين دير القمر وصيدا، وكل مرة كان يصطاد ببزاته من ثمانماية إلى تسعماية حجل. وقد اقتفى أثره الأمراء الآخرون باتِّباعهم هذه الطريقة في صيد هذه الطيور. أما طريقة الصيد الأكثر تداولًا من غيرها في الجبال، فهي تعويد الحجال طلب غذائها من محلات معينة، ثم مفاجأتها في تلك الأماكن، بعد التثبُّت من مثابرتها على الذهاب إليها.
إنهم يغدون إليها مبكِّرين ويكمنون لها في الدواميس (الستارة) التي هَيَّئُوها لهذا الغرض، ثم ينتظرون الفرصة المؤاتية ليُطلقوا نار بندقيتهم. وكثيرًا ما يصرعون بطلقٍ واحد من العشرة إلى الخمسة عشر حجلًا عتيقًا أو فروجًا. والصيادون الذين لا يمكنهم أن يبنوا دواميس أو يقبعوا فيها لقلة جلدهم، يستخدمون رقعة كرقاع الشطرنج ذات لون أبيض وأسود تعرض لنظر الحجال بنصبها على قضيب كالراية، فيجتذبونها بها ويطلقون النار عليها من خلال ثقب يُعدونه لإخراج فم بندقيتهم منه. وقد أكَّدوا لي أن هذه الرقعة تمثل للحجال جلد النمر الهندي الذي يجذبها رقطه.
تزخر جبال لبنان بالنباتات العطرية. والعرعر ليس بقليل الوجود في جهة صليما.
الدم نقي جدًّا في الجبل، وقلما تنتشر فيه الأمراض السارية. والذين تظهر عليهم أمراض البرص — وهذا نادر جدًّا — يذهبون إلى دمشق ليتنعَّموا بفوائد مياه هذه المدينة، إما بالشرب منها، أو بالاستحمام بها. إنها تخفف وطأة الألم حين بلوغه الحد الأعلى، وتشفي منه إلى الأبد إذا عولج بها المريض حالًا. ولكن يجب أن يعاود المريض استعمال الدواء، وإلا فلا تلبث أعراض المرض أن تفشوَ ثانية؛ ولذلك نرى البُرْص يقيمون في المدينة ويعيشون من الصدقات.
إن مادة التلقيح أُدخلت إلى سوريا منذ سنوات طويلة، والفضل في هذا يعود إلى المرحوم السيد بيير لورالا. ونظرًا للحظوة التي لاقاها هذا السيد عند الأمير بشير والمساعدة الناتجة عن صداقته لمواطنه المرحوم المطران غندولفي — نائب الكرسي الرسولي — استطاع الحصول على الامتياز المطلق في إجراء عملية التلقيح، كي لا يتعرض الأهلون لسوء نية من أتَوْا يتمرنون بهم وهم ليسوا من ذوي القدرة والاختبار، ولا يعيرون عملهم اهتمامًا وعناية كافيَيْن.
وإذا أثبت بعض المعلومات عن الطاعون فما أظنها تكون في غير محلها، ولا سيما أنها تفيد لتقرير قضية اختلفت فيها آراء الأطباء؛ قال بعضهم إن هذا الوباء ينتج عن تأثير الهواء ويخضع للفصول أو شدة الحرارة أو البرد، وذهب فريق إلى غير ذلك.
لاحظت فيما مضى أنهم لم يكونوا يحتاطون للأمر لدى وصول الرسائل، لا بل جميع الأشياء التي تلتقط بسهولةٍ هذا الداء عندما يكون متفشيًا في القسطنطينية؛ لأنهم لم يكونوا يخشَوْن قط أن يصابوا به مباشرة.
أما في المدن الكبرى فأسباب العدوى أكثر انتشارًا؛ لأن مخلفات الأجانب تسلَّم إلى وكيل من قِبل السلطة كما هي، فيكون مضطرًّا إلى أن ينتظر مداعاة الورثة أو الأجل المعين في القانون.
ومع ذلك فحالات عودة الداء أكثر من سنتين متواليتين عند توافر هذه الأسباب، هي قليلة جدًّا. وقد كان بوسعنا الاستنتاج أن خطورته تتضاءل متى طال عليه الزمن لو لم نلاحظ أن الإصابة الثانية كانت تقريبًا دائمًا أشد من الأولى.
ومكروبات الطاعون — إذا ما ظهر هذا الداء في السنة الثانية والثالثة — تكون، ولا شك، قد حفظت في بلدة إسلامية أو درزية؛ فالتدابير التي اتُّخذت في لبنان المسيحي كانت كافية حتى الآن لتطهير الأمكنة التي تسربت إليها العدوى.
يأتي الطاعون عادةً من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب (عدا الحالة التي يأتي بها من مصر)، وهذا ما يجعل بيروت لا تخشى إلا طاعون دمشق.
والذين لاحظوا أن الطاعون يصل إلى الشاطئ عن طريق بعض الأماكن خاصة، قد ظنوا أن الطبيعة الجوية لها بعض التأثير في انتشاره.
وعندما كان ينتشر الطاعون في سوريا كانت الرياح الغربية والجنوبية تضاعف شدته، فيزداد عدد الوفيات زيادة محسوسة.
تخف وطأة الطاعون في أوقات معينة، وهي ذات صلة وثيقة باتساع الأمكنة أو مناخها المألوف. إنه ينقطع عن بيروت خلال شهر تموز، ومع ذلك فإن إصابة واحدة قد وقعت في ١٦ آب. أما في الأماكن المرتفعة فيستمر الطاعون حتى تشرين الثاني، لا بل إلى ما بعد هذا الشهر، إذا كان فصل الخريف معتدلًا؛ وهكذا استقر نحو سنة كاملة في لبنان عام ١٨٢٦ بعد أن تنقَّل بين جميع مناخات هذا الجبل.
وعام ١٨١٧ كان الطاعون متفشيًا في الجزائر بعد أن انقطع عن زيارتها حوالي خمس عشرة سنة، فخرَّب ودمَّر طوال ستة عشر شهرًا، على الرغم من أنه لا يثبت عادةً أمام حرارة الشمس القوية، أما في هذه السنة فقد شعروا — عند اقتراب هذا الفصل — بنقصٍ ملموس في الوفيات.
ولوحظ أيضًا أن الطاعون كان يصيب بعض طبقات من الناس دون غيرها، وأن الأجانب هم الذين كانوا يصابون بادئ ذي بَدء، ومثل هذه الحالات تلاحظ في المدن الكبرى.
ففي بحر سنة واحدة (وأظنها سنة ١٨١٣) مات بهذا الداء في أزمير جميع الحمَّالين تقريبًا.
إن الطاعون مؤذٍ وحليم؛ فتارة يودي بحياة عيال كاملة، ويعدي عند أقل احتكاك، وطورًا يقتصر على شخص واحد من أهل البيت الذي دخله، على الرغم من أن الأشخاص الباقين لم يَلجَئُوا إلى أية وقاية.
ويؤكدون أن المصابين بالطاعون يخافون بعض الثمار وعلى الأخص الخيار. إلا أن أنفسهم تشتهي البرتقال والحامض لأن الأحماض توافقهم.
إن أبناء البلاد يضعون على بثورهم لزقات تكون إما من العنب المجفَّف الأسود ودهن من ألية الخروف، وإما من الخبَّازى والحليب ولب الخبز والزعفران، وإما من البزاق الأصفر؛ فالدمامل تشفى وتتلاشى في بعض الأحيان بعد استعمال هذه الأدوية. أما العرق الذي ينضح بغزارة فهو علامة طيبة تدل على نجاة المريض، وإذا لم يعقب فتح الدمامل العرق فإنهم يلجئون إلى بضعها فتُشد ليسيل قيحها بطريقة الفتائل والمراهم العادية.
إن الجبليين معرَّضون دائمًا لحبة يدعونها حبة الكي، وهي لا تشفى إلا بحرقها. أما أعراضها فهي الصعوبة في البلع، ورائحة اللهاث الكريهة، والبثور في الفم، وفي بعض الأحيان البثور في الأمعاء. إن كيًّا بسيطًا في مقدمة الرأس يشفي منها تمامًا.
شاهدت عدة مرات متحجرات منها في جرود لبنان.