الفصل السابع والعشرون
الآثار القديمة في لبنان: عين القبو، فقرا، صنين، جبل الكنيسة، فيطرون.
***
قمتُ بجولتين إلى بعلبك سلكتُ في أولاهما طريق القوافل، وفي الثانية طريقًا أخرى خططتها لنفسي؛ ولهذا أنصح السائحين الذين يريدون أن يذهبوا من بيروت ليزوروا هليوبوليس القديمة، أن يتبعوا هذه الأخيرة؛ فطريق مار موسى التي أعنيها تقصر عنها مسافة أربع ساعات، وهي فيما عدا ذلك أقل رداءة، وهذا ما يجعلها مفضلة على غيرها. وإذا ما اتبعنا الطريق التي تتبعها قوافل دمشق نقوم بدورة كبيرة، وفي ذلك إضاعة وقت للسائح لا غير؛ فهو لا يرى إذا ما سلك هذه الطريق إلا «المغاور المزينة»، إنه مشهد مخيف يطل على وادي البقاع وهو على مسافة بعض دقائق من قب إلياس.
وتحت هذه المغاور نجد أنقاض بنيات دارسة ذات اتساع غير قليل يبلغ تقريبًا الثلاثة عشر مترًا. وقد كانت الآلهة حارسة هذا الوادي الخصيب تسكن هذه الهياكل، ولا شك في أن الحُجُر الثلاث كانت مقرًّا لتماثيلها.
إن المسلمين يحترمون — كالمسيحيين أنفسهم — النبي إلياس؛ ومن هنا نتجت كثرة الزيارات التي يقوم بها أبناء الطوائف — على اختلاف أنواعها — إلى هذا المكان. لقد شُيد على مقربة من ضريح النبي مسجدٌ يعيش سدنته من الصداقات التي يمنُّ بها الذين يترجون الظفر بأمانيهم بشفاعة هذا القديس عند زيارتهم مقامه هذا؛ فتقاليدهم تؤكد لهم أن أشلاء النبي ما زالت حتى اليوم في هذا المكان. والغريب أن هذا الاعتقاد لا يمنع المسلمين والمسيحيين من أن يشفعوا عادةً اسم مار إلياس بلقب الحي.
تنبئ خريطة البقاع عن وجود عدد كبير من المقامات المكرَّسة للأنبياء، وهذا ما يؤكد تقديس المسلمين لهذا الوادي.
والزعم الأشد غرابة هو أن ضريح نوح — الذي سأتكلم عنه — موجود أيضًا في هذه البقعة. وهذا ما جعل لهذه الأمكنة شأنًا عظيمًا في نظر الشعب. تؤيد ذلك الخطوط العربية التي تكسو جدرانها الداخلية؛ فهي تخبر عن أسماء عديدة احتلت مكانًا خطيرًا في التاريخ.
وإخال أن كثرة هذه المزارات قد نتجت عن منازعات طائفية؛ فكل شعب فاتح شاء أن يعزز بدوره أولياءه، فقوَّض لهذه الغاية الأمكنة التي كرست لمعتقد غير معتقده أو حوَّلها لأوليائه؛ فالتنازع في جميع الأعمال هو أول خاصة من خواص الشرقيين.
ولا أنصح السائحين أبدًا أن يذهبوا ويرَوْا آثار مشيمشة التي تبعد مسافة ساعة ونصف عن مار حنا؛ فهنالك أربعة نواويس تثير بعض الفضول، وأهمها اثنان يبلغان المترين في الطول والعلو. وإذا ما رغبنا في التفتيش عثرنا على بقايا آثار مبعثرة هنا وهنالك، ولكن كل ما نراه في ذلك المكان يبدو لنا غير منسق، وميزته الوحيدة هو أنه عتيق ليس إلا.
يجد المسافر من زحلة طريقين تمكِّنانه من الوصول إلى بعلبك. سلكت هذه الدربين دون أن أجد أثناء عبوري شيئًا يستحق الالتفات إذا استثنينا مخطوطة أبلح العديمة الأهمية، والمسجد الصغير الذي يبعد مسافة نصف ساعة من مدينة الشمس. لست أشك في أن هذا المسجد وجوامع المدينة كلها قد شُيدت بحجارة الهياكل المختلفة التي قامت في بعلبك؛ وذلك لأننا نرى في جدرانها جميعًا أعمدة يختلف بعضها عن البعض الآخر في الشكل والنوع.
قمت بعدة جولات من زحلة، فوفقت إلى بعض الاكتشافات. وأهم ما اكتشفته — حسبما أرى شخصيًّا — كان الضريح الروماني الذي يسميه العرب: الجب (البئر) لأن نبعًا يتدفق هناك من فم السرداب.
يبلغ عرض هذا الأثر ثلاثة أمتار وسبعين سنتيمترًا، ويبلغ طوله حتى خد الباب ستة أمتار وخمسًا وستين سنتيمترًا، ومن هذه الزاوية حتى الزاوية الخارجية ثلاثة أمتار ونصف المتر، أما علوه فنحو ستة أمتار. إنه كان — ولا شك — مدفن إحدى العائلات الميسورة، وقد وُضع تحت حماية الآلهة التي كانت ترتع في الحجر الثلاث.
تأسفت لعدم استطاعتي النزول إلى السرداب لأن مياه النبع لا تجف إلا في أواخر الصيف.
وإلى الجهة الجنوبية من حصن نيحا تبدو أنقاض إحدى المدن، وعلى مسافة عشر دقائق منها ديماس لم نتمكن من الدخول إليه لأنه كان محاطًا بسور. إن منفذ هذا الديماس مزين بعمودين مزدوجين، ونجد على بضع خطوات شبه مسلة طولها حوالي المترين، كانت — ولا شك — تقوم في أعلاه، وفي رأس هذه المسلة رسم حندقوقة.
أما الفرزل — وهي مدينة قديمة جاء ذكرها في كتب الصلاة عند الروم — فما هي اليوم إلا قرية حقيرة، استعان أهلوها بحجارة أبنيتها القديمة على تشييد كنيستها، وإذ لم يستطيعوا هدمها لغموها وحطموا حجارتها الضخمة ليستطيعوا التصرف بها بسهولة.
نجد على جدران أحد بيوت الفرزل صورة رأس ممحوة رديئة الصنع، وفي أسفلها كتابة باسم محمد بن العباس تحمل تاريخ ٧٣٨ﻫ. وقيل إن محمدًا هذا أتى لزيارة هيكل نيحا. وهذا يدلنا على أنه صار إلى مسجد أو أنه اشتُهر بأعجوبةٍ ما.
وغربي المدينة نجد المغاور الشهيرة المنقورة في الصخر، وهي لا تزال كثيرة رغم اندثار بعضها بسبب الانهيارات. يتصل بعض هذه المغاور بالبعض الآخر، وتزعم التقاليد أن بعض النساك كان يسكنونها، والعرب يطلقون على هؤلاء اسم حبساء الفرزل.
كان هؤلاء النساك يملكون كنيستين أو معبدين: الأولى تقوم فوق المغاور، والأخرى تستوي والأرض. ولقد وجدت بين المقاصير — وهي كلها ذات شكل واحد؛ أي مقطوعة بشكل طربوش، ومتساوية الحجم — مقصورة كلست ثانية. وهنالك مقصورة أخرى استُخدمت غرفة للطعام، وتبلغ في أوسع مكان منها ستة أمتار وسبعين سنتيمترًا.
وتحت المغارة الأولى بقليل نرى ديماس الحبساء، وتقوم حوله تسع حجر فسيحة يبلغ علوها مترًا ونصف المتر، وفوق مدخل هذا الديماس حجرة فيها صخرة تنتهي بنتوء كأنه السن. ونرى في بعض المغاور حفرًا بشكل قوارير يرجَّح أنها كانت مستودعات المؤن. وهناك آثار أقنية صغيرة كانوا يتلقَّوْن بواسطتها مياه الشتاء أو يخزنون مياه نبعٍ ما.
ولما كان يستحيل علينا الدخول إلى جميع الحجر فلم نستطع التأكد من أن أولئك الحبساء كانوا يملكون أحواضًا كبيرة تُجمع فيها المياه. غير أننا نرى هنالك أثرًا نستدل منه أن ساقية كانت تجري في سفح الجبل.
نجد في هذا المكان ما يقارب ست طبقات من المغاور يقوم بعضها فوق البعض الآخر، وهي تبعد عن الفرزل مسافة ربع ساعة.
وتجاه تلك نجد ثلاث مغاور أخرى مختلفة الأشكال؛ صُغْراها مربعة الحجم، ذات باب كبير، وقد أطلقوا عليها اسم المعصرة، وإذا ما حكمنا بالاستناد إلى الخرزة والجرن الذي يتلقَّى السوائل، يبدو لنا أنها خُصصت لهذه الغاية. أما المغارتان الأخريان — وهما أقل رحابة من الأولى — فتحتويان بعض التماثيل، وإحداهما ذات شقين، أما الأخرى فسقفها مثلث الشكل.
وتجاه البقاع جنوبي هذا المكان نجد — إذا ما سرنا في لحف الجبل الذي يحاذي المغاور بعد مسير عشر دقائق صعودًا — تمثالًا منقوشًا في الصخرة إلى جانب حجر ضخم هو على أهبة أن يهويَ من مكانه. فهنالك المقلع الذي تقتطع منه الفرزل حجارة البنيان.
إن صنع هذا التمثال متقَن، بَيْدَ أنه غير تام، وقد أُتلف تلفًا كبيرًا. يقارب هذا التمثال المتر حجمًا، وإني لأجهل السبب الذي حدا العرب إلى تسميته بالقسيس أو القسيسة.
والآن وقد جاء دور الكلام عن بعلبك، فسوف لا أسهب في وصفها لأن الكثيرين قبلي شاهدوها ووصفوها. سأتكلم عن البناء المقبَّب وحده؛ فهو قائم على بُعد ماية قدم شرقي الهيكل الصغير، تزين واجهته الشمالية أربعة أعمدة من الرخام الأبيض منحوتة على الطراز القورنثي. وحول هذا البناء تقوم — في الجهة الخارجية — أربع حجر تتألف منها زواياه الخمس وتتكئ على خمسة أعمدة من طراز أعمدة البوابة. وفي كل حجرة قاعدة خُصصت — كما يظهر — للتماثيل التي كانت تُنصب عليها. إن أعلاها مزدان بصفدة عقيق جميلة، لا تزال أربعة أعمدة وثلاث حجر قائمة حتى اليوم، أما بقية البناء العليا فقد تهدمت.
يطلق سكان بعلبك الحاليون على هذا البناء اسم كنيسة القديسة بربارة. وإذا قسنا هذه البناية ابتداءً من الباب يبلغ طولها إحدى عشرة قدمًا هندسية وعرضها اثنتي عشرة.
وتحت الهيكل الكبير قبة تبتدئ في الجهة الشرقية وتنتهي في الجهة الغربية. أما طولها فمائة وستون قدمًا هندسية، وعرضها ست أقدام. إننا نلاحظ على أغاليق عقد هذه القبة نقوشًا تمثل الآلهة، مثل هرقل وديانا … إلخ.
وعند دخولنا نجد إلى اليسار غرفة تبلغ إحدى وعشرين قدمًا طولًا، وسبع أقدام عرضًا. أما إلى اليمين فنمرُّ في مدخلٍ ينتهي إلى مسكن يبلغ طوله سبع عشرة قدمًا وعرضه سبع أقدام.
جميل أن ندرس في هذه المدينة المخطوطات المتعددة الموجودة على جدران الهيكل الكبير والمساجد المتعددة. ولقد اكتشفتُ هنالك اسم ملك فارسي لم يأتِ على ذكره المرحوم رولو، في كتابه الذي يدور موضوعه على سلالات الملوك. غير أني — ويا للأسف — فقدت نسخة تلك المخطوطة لأني بعثت بها إلى قاضٍ في بيروت لاعتقادي أنها كانت تحوي آية ظننت أنها مأخوذة من القرآن. ولقد قرأت عدة مخطوطات ترقى إلى سنة ٦١١ و٧٠٤ و٧٤٠ﻫ، نُقشت بأمرٍ من الحكام العرب.
وفي عام ١٠٨٣؛ أي ٤٧٦ﻫ استولى توتوخ سلطان بلاد العجم على بعلبك التي كانت يومذاك في يد المصريين، فعاد هؤلاء واحتلوها مرة ثانية عام ٤٨٤ﻫ.
وعام ٥٢٦ﻫ، خضعت بعلبك لمحمد أمير دمشق الملقب بشمس الدولة. ثم في عام ٥٣٣ﻫ، سقطت بين أيدي عماد الدين زنكي وكانت يومذاك لدمشق. وبعدئذٍ احتلها مجير الدين عبس.
وعام ١١٥٧؛ أي ٥٥٢ﻫ، احتل بعلبك نور الدين قطب الدين. وفي هذا العام نُكبت سوريا بزلازل أرضية عنيفة. وفي سنة ٥٧٠ﻫ، استولى صلاح الدين على بعلبك، ثم خلفه في الحكم الأمير مجد الدين بهرام شاه عام ٥٨٩، وبعد ذلك خضعت للمغول وحكمها هولاكو خان.
وفي عام ١٠٢٥؛ أي ٤١٥ﻫ، احتل بعلبك صالح بن مرداخ زعيم العرب الكلابيين.
وعام ١٤٠٠ أي ٨٠٣ﻫ، سقطت بين يدي تيمورلنك.
إن بعلبك تخضع لدمشق وهي إقطاعة منها. وقد تسلم آل حرفوش — أمراء المتاولة — زمام حكمها، وهي الولاية الوحيدة التي عُهد بها إلى هذه الأسرة مع بعض الصلاحيات التي كانت لها في ضواحي صور؛ فآل حرفوش هم أول من سكن هذه الناحية من سوريا، وقد قلَّ عددهم اليوم.
يسيطر المتاولة على قسم من البقاع واسع جدًّا، وهو أخصب أرض مروية في سوريا. ومع هذا الخصب والريِّ فلا يُزرع منها ما يكفي لسد رمق شعب بائس قليل العدد.
إن التلال القائمة حول السهل، والتي كانت أشهر جميع أنحاء سوريا في إنتاج أطيب العنب قد خربت وأُتلفت بلا شفقة بِناءً على أوامر الأمير الحاكم ليمنع الدمشقيين من استئجارها.
فلو لم يُحسن آل حرفوش الاستفادة من العلاقات التي تربطهم برعاة بلاد ما بين النهرين العرب، لَمَا استطاعوا القيام بنفقات أتباعهم المسلحين، ولكن مقايضتهم مع أولئك الرعاة كانت تدر عليهم كثيرًا من الخيرات وتمهِّد لهم سبل المعيشة.
وإذا ما اتجهنا إلى بعلبك مارِّين في منتصف الوادي أُعجبنا بذاك النشاط الذي نلمسه في حراثة الأراضي المزروعة حبوبًا. أما التشجير فلا يبالى به منذ سنوات عديدة؛ فالعناية بغرس الأشجار تتلاشى وتزول رويدًا رويدًا بقدر ما نبتعد عن حدود دولة لبنان.
يشعر الناظر بغبطة لا حدَّ لها إذا ما ألقى نظرة على سهل البقاع من قب إلياس. أما إذا ما تطلع من بعلبك فإنه يتألم ويحزن؛ فمتى تركنا أراضيَ تلك الولاية لا نرَ إلا حقولًا يغطيها العوسج والأشواك؛ فالعين التي تتعب من رؤية هذا المشهد المؤلم ذي النمط الواحد، لا تجد أمامها لتُفتن بعض الافتتان إلا مشهد بعض الروابي القاحلة التي يخالها الناظر — نظرًا لتكوينها الغريب — حجارة قبور مخروطة الشكل. ومنذ حينٍ غامر أهالي جبة بشري وزحلة في شراء عقارات من المتاولة الذين أصبحوا كثيري التخوُّف فجنحوا إلى السلم وصاروا أقل ميلًا إلى المنازعات.
كان أمراء آل حرفوش قديمًا يكيد بعضهم لبعض ويشنون فيما بينهم غارات مستمرة. ولكي يواصلوا منازعاتهم الظالمة ويمدوها بما تحتاج إليه من عتاد وغيره، أثقلوا كاهل المزارعين بفرض الضرائب الغاشمة عليهم؛ وهذا هو سبب التبايُن الذي كنا نلمسه ما بين حالة زراعة هذين البلدين. إن الأمير بشير — رغم طابع حكمه الجائر ولجوئه إلى الأساليب العنيفة ليوطد زمام سلطانه — كان يتقيد ببعض الأصول التقليدية التي تضمن الحقوق الشخصية ضمانة كبرى.