الفصل الثالث
لا توحي مدينة بيروت — لأول وهلة — شيئًا يثير الفضول؛ يلاحظ أنها حديثة العهد بتعاطي التجارة دون أن يدلنا شيءٌ ما على أنها استطاعت جمع ثروات ضخمة.
إن مظهر المنازل الخارجي هو من أكثر المناظر بشاعة، والفكرة الأولى التي تتبادر إلى الذهن — إذا ما نظرنا بعين الاعتبار إلى الذين يقيمون فيها لأنها تنبئ عن حالتهم — هي أنه لا يمكن أن يكون في هذه المدينة سوى صناعيين غير ميسورين.
إن واجهات البيوت مبنية — على الغالب — بحجر غير منحوت، وقد أخذت الأيام على عاتقها مهمة تلوينها، يعاونها في ذلك الدخان والمطر والغبار. ولما كانت الأخشاب تُستعمل أيضًا كما أوجدتها الطبيعة؛ أي بلا صقل، فالأبواب والنوافذ تكون في أغلب الأحيان من لون الجدران.
أما ما يتعلق بتنسيق البيوت وترتيبها، فيجب أن لا نحسن الظن به. فعلى من يريد أن يلجها أن يحنيَ رأسه قليلًا أو كثيرًا تبعًا لقامته، وإذا أراد أن يطل من النافذة فعليه أن يزج جسمه بانحراف إذا كانت بدانته تفوق المعدل قليلًا؛ فعلو الشبابيك هو على الأكثر متر واحد، وعرضها خمسة وسبعون سنتيمترًا، يفصل بينها حاجز صغير. وهذا التدبير الذي يلجئون إليه ضروري لحماية الصغار؛ إذ إن هذه الشبابيك تقوم على ارتفاع عشرة سنتيمترات أو خمسة عشر سنتيمترًا من أرض البيت.
كل ذلك يرجع إلى العادة المتبعة في الجلوس على الأرض، حتى إن الدواوين التي تُصنع من فرش رقيقة جدًّا توضع على حصر. أما الذين أصيبوا قليلًا بعدوى البذخ فإنهم يضعونها على مقاعد لا يتجاوز علوها السنتيمترات الثمانية أو العشرة.
ومنذ مدة ليست بالبعيدة كان الزجاج يكاد يكون غير معروف في مدينة بيروت. أما الآن فإننا صرنا نجده في منازل الأغنياء …
إن الحواجز والمصاريع التي نجدها في الشرق لم نشاهدها إلا عند الأوروبيين. لقد اضطُروا — ليستطيعوا أن يعيشوا في هذه المنازل — إلى ترتيبها وتوسيع أبوابها ونوافذها بقدر ما يسمح لهم المكان والعرف المتبع.
ومع ذلك فقد لاحظتُ مثل هذه النوافذ عند الأتراك، ثم إني وجدت — طِبقًا للقاعدة التي تكلمتُ عنها في سياق مشاهداتي — أن كل شيء هنا يُناقض كل التناقض الأشياء التي تُصنع في أوروبا؛ وجدت أن صفائحها كانت مقلوبة رأسًا على عقب، فأعلاها في الخارج وأسفلها في الداخل، بنوع أنها تفسح في المجال لدخول حرارة الشمس والهواء، وتمنع الناظر من أن يرى شيئًا في الشارع أو أن يُرى. إن ذلك هو بالحقيقة شبه حاجز وليس «أباجور».
لا يجهل معظم قرائي أن حسن تنسيق المنازل ومحلات اللهو مجهول تمامًا في تركيا؛ نظرًا للإدارة الحكيمة التي اهتمت بتشييدها …
إن مدينة بيروت هي مضنية حقًّا، بالنظر إلى بيوتها التي تفصل بينها ممرات معوجة، وتربطها قناطر قامت عليها غرف تُضعف من نورها الذي لم يكن قويًّا بسبب تلاز شوارعها الضيقة.
فاضطرار المرء إلى أن يسمِّر نظراته برجليه — وهذه إحدى محاسن المتاعس — يَحُول دون رؤية بنايات بيروت الكريهة. ولمَّا كان المسافرون يشعرون ببعض الغبطة عندما ينجون من خطرٍ ما، فإنهم يهنِّئ بعضهم بعضًا في نهاية كل مرحلة في هذه المآزق الحرجة.
إن استهتار الأتراك بكل ما يمت إلى السلامة العامة بصلة هو شيء لا يُغتفر لهم، ولا سيما إذا ما نظرنا إلى الوسائل المتوفرة لديهم للاهتمام بها دون أن يكلفهم ذلك أقل نفقة؛ لقد كان بوسعهم أن يسخِّروا أناسًا لسد ثغرة في حائط، إلا أنهم لا يفعلون ذلك إلا بعد وقوع عدة حوادث مفجعة وإزهاق عدة أنفُس.
والذين لا يعرفون بيروت قبل حكم محمود بك يظنون أني أتعمد هذه المبالغات. ودفعًا لهذا الظن أقول: ما علينا إلا أن نبتعد قليلًا عن الشارعين اللذين يتفرعان عن البحر، حتى نلاحظ أنه يجب على المارة أن يدرسوا طبيعة البلاط درسًا مدققًا ليسلموا من الانزلاقات العديدة التي قد تنتج عنها وتكسر عظامهم.
وصف سائحون كثيرون الحوانيت التركية، أما أنا فحسبي القول إنها تشبه تمامًا شوارع البلاد وبيوتها ومنازلها وحوانيتها.
إننا نعلم أن أصحاب الدكاكين يقعدون القرفصاء؛ فالدكاكين لا تعلو عن الأرض إلا بمقدار متر واحد، أما داخلها فمجهز برفوف تُبسط عليها البضائع، وأوسع حركة يستطيع أن يأتيَها صاحب الدكان هي أن يميل يمينًا أو شمالًا، أو يقف على رجليه عندما يريد الوصول إلى الرفوف العليا، أما المشترون فيقفون أمام الواجهة التي توازي الدكان عرضًا وارتفاعًا.
فالقهوة في الشرق تُصب للضيوف — كما نعلم — في جميع المناسبات؛ تُصب عند الباشوات وعند الفقير المعدم. وقد اضطُر الأوروبيون الذين يسكنون تركيا إلى اتباع هذه العادة، حتى إنه إذا لم تقدَّم القهوة لابن البلد فلا يعزو هذا الأخير المنسي ذلك الإهمال إلى عدم التهذيب، بل يعتبر أن كرامته قد جُرحت. وهذه العادة تفشت كثيرًا حتى تسرَّبت إلى جاليتنا، فأصبح النزق الفرنسي يدفع الكثيرين منا إلى التذمر من عدم تقديم القهوة لهم في بيوت أوروبية، عازين ذلك إلى قلة الاعتبار والاحترام.
إن عظمة الدارات وجمال الينابيع لم تعرفها بيروت أيضًا. وإذا كان هنالك فسحة دبَّرتها يد القدر في هذه المدينة، فإنها تصبح محلًّا تكدس فيه البضائع.
أما في المساء فتكون المقاهي مطروقة جدًّا، وقلما تمتد السهرة إلى ما بعد العشاء؛ إذ تقام الصلاة بعد انقضاء ساعة ونصف من غياب الشمس؛ إنها الفترة القصيرة التي يقوم بها القصاصون العرب ولاعبو الكركوز بتحريك مواهبهم وإلهاب قرائحهم.
إن الشرقيين بعيدون جدًّا عن التجديد، حتى إن المواضيع التي قلَّدوا بها المشاهد الصينية لم تتغير؛ فهي هي منذ أربعين سنة لا تزال كما عرفتها فيها. لقد حضرت هذا المشهد نفسه في أفريقيا واليونان وسوريا. إن لاعبي الكركوز يُقدِمون بعض الأحيان على الهزء بالشخصيات المحترمة والحوادث الحديثة العهد. وقد بدا لي أن عواقب هذا العمل تحمل على السخط والتقزُّز؛ إنه يئول إلى إفساد أخلاق الممثلين والمتفرجين الذين يضمون بينهم العدد الكبير من الصغار فتفسد أخلاقهم. ومن حسن الحظ أن هذا المشهد القذر قد أُلغيَ في الجزائر؛ حيث كان يقام بتمثيل ملذات من يتعودون أن يرتادوا المقاهيَ المغربية.
إن القهوة وتدخين النارجيلة وحضور ذينك المشهدين لا تكلف أكثر من عشرين بارة (عشرة سنتيمات).
وفي بيروت عدة خانات ينزل فيها الدلَّالون والسيَّاح والمواطنون. إنهم يحلون في غرف صغيرة، وهذا كل ما يرغبون فيه؛ إذ إن من المصيبة أن يجدوا غرفًا مؤثثة!
ولمَّا كان كل شخص يصطحب معه الأمتعة التي يحتاج إليها في سفره، فإنه يتمركز حالًا دون أن يلجأ إلى بائع المفروشات والسجَّادات.
يبسط المسافر سجادته على الأرض، ثم يرتب أمتعته، ويبدل ثيابه بسرعة وجرأة لأنه تعود ذلك، ثم ينزع من أجربته الحوائج التي تزود بها، فإذا به قد استقر على أحسن ما يرام.
إن السجَّادة والعباءة والأجربة هي أشد ما يحتاج إليه المسافر؛ فالأولى تقوم مقام السرير، والثانية يجعلها لحافًا، والثالثة تُحشى بثياب التبديل فتقوم مقام المخدة. أما الخُرْج فينوب عن الصندوق أو الحقيبة، فتُجعل فيه أدوات المطبخ والمؤن البسيطة. وهذه الأمتعة التي يصطحبها المسافر توفر الكثير من النفقة، فلا يدفع المسافر إلا بدل الزرابة.
إن المسجد الكبير لا يتميز إلا بطراز بنيانه المسيحي. يعود بدء عهده إلى زمن الصليبيين؛ إذ كان كنيسة على عهد القديس يوحنا، كما تكلمتُ عن ذلك في فصل سابق، وأقول الآن: إن هندسته تشبه هندسة تلك الأبنية التي هي من نوعه، ولا تزال بعض بقاياها قائمة على الشاطئ الواقع بين يافا والكرمل.
ويزعم أبناء البلاد أن كنزًا كبيرًا مدفون هناك. ومصدر هذا الزعم ضعف عقلية الشرقيين بوجهٍ عام؛ فجميع الأبنية القديمة تخفي — حسب زعمهم — كنوزًا تقدَّر بمبالغ ضخمة.
أما المساجد الأخرى فلم توحِ إليهم زعمًا خاصًّا؛ لأنها — كما يظهر — قليلة الدوطة … ولا يمكننا أن نقارن بينها وبين مساجد المدن التركية الأخرى التي تملك بعض المدخول المخصص للنفقات الدينية.
تدخل الكتب أيضًا في عداد الهبات التي تقدَّم للمساجد بغية تثقيف الشعب الإسلامي القليل المطالعة بطبيعته. وهذه الكتب تكون عادةً مصاحف وشروحًا وكتب عبادة أخرى.
وفي هذه المساجد يفتش الدراويش عن أسباب الارتزاق، وعن ملجأ يأوون إليه عندما يهبطون المدينة، وقد تكون أيضًا ملجأً للذين لا يرتحلون، أو للمعتوهين. إنها تُستخدم كبيمارستان للذين فقدوا عقولهم أو خُلقوا مجاذيب.
يطوف هؤلاء الدراويش في الشوارع بألبسة غريبة، وعلى رءوسهم طرابيش طويلة، وقد يتسلح بعضهم بحراب، ويحملون في أيديهم صحيفة ضخمة تشبه شكلًا نصف جوزة أو لوزة. أما الذين يفتقرون إلى قليل من الذوق فإنهم يستغنون عن ارتداء الثياب، ويكتفون بصلب أيديهم على صدورهم أو تركها مدلاة كرقاص الساعة.
إن رحالةً لبيبًا شاء أن يعتنق الدين الإسلامي عندما رأى الاحترام الذي يُحاط به المعتوهون في تركيا فيخفف من بؤسهم وتعاستهم؛ فهم يحترمون ويجلونهم لأنهم — في نظرهم — أشخاص مُنحوا امتيازًا دون غيرهم، فالله لم ينتزع عقلهم إلا لأنه كان راضيًا عنهم. غير أنه يمكنني أن أضيف أن هذا الشعور لا يرد الموت عن هؤلاء الأولياء المساكين الذين يقضون في كثير من الأحيان لعدم الاهتمام بهم. إنه جسد ينطفئ، هكذا يقولون. أما القسم الجوهري — يعني الروح — فقد أصبح منذ زمن طويل عند أقدام خالقه.
تخيَّل أحد هؤلاء الدراويش — وقد أصيب بمرض جنون السلطة — وسيلة فيها بعض شفاء لجنونه هذا، وهي سهلة التنفيذ؛ اشترى من الأباريق الصغيرة مقدارًا سمحت به ميزانيته، ولكي يملك منها أكثر عدد ممكن انتقاها مثلومة ومشقَّقة ومصدَّعة، وبعد أن ملأها ماءً صفَّها على منضدة صغيرة لعوامِّ المسلمين، ليتناول كلٌّ منهم واحدًا منها يستعمله عند الوضوء، ثم قعد قربها يلقي على المصلين أوامره، فكان يقول لمن يمد يده إلى الإبريق الأصفر: خذ الأحمر. وإلى الآخر: دع هذا وخذ ذاك. وإلى الثالث: دونك المستدير أو المشعث، أو الذي ليس له رقبة … إلخ. وكان الحاضرون يتأمَّلون ويتساءلون عما حدا هذا الرجل على القعود منهم هذا المقعد، دون أن يفهموا لأول وهلة ما هو الباعث على ذلك، وأخيرًا عرفوا أنه كان موظفًا وعُزل …
إن منائر بيروت تشبه كل الشبه منارات البلدان الأخرى، وهي قائمة كالشمعدان. أما السراي — أو مركز الحاكم — فليست سوى خربة مقوضة، ومع ذلك فمن يتأملها يمكنه أن يحكم على ما كان عليه سابقًا قصر فخر الدين؛ لقد اقتبس هذا الأمير الكثير عن الأوروبيين في بناء قصر مدسيس، فأضفى على قصره تجميلات كثيرة دلت بحق على أنه أحسنَ الاقتباس.
أما المحكمة فهي في الواقع بيت سكن القاضي، وهو قصر العدل في تلك البلاد، وهنالك تُعرض المظالم على اختلاف أنواعها.
والبوليس يتلقَّى الأمر من «المتسلم» المكلف توزيع العدالة. وإذا جاز لي أن أتلاعب في الكلام قلت: إنها الوظيفة الوحيدة التي يحسنون القيام بها على حقها، لأننا نجد أنفسنا دائمًا معرَّضين لضربات العِصِيِّ المتعددة …
وفي السراي سجنان، يطلَق على أحدها اسم «الزندان» وهو عبارة عن محل رطب تعشش فيه البراغيث. إن خشية تطبيق هذه العقوبات القاسية — بل الظالمة في أكثر الأحيان — تقلل كثيرًا من الجرائم وتحمل على التحفظ الشديد.
ويظهر أن البوليس لم يغير أساليب المحافظة على الأمن؛ فهو لا يزال يحافظ على عقيدته القديمة وأسلوبه البالي. وهاكم على الأقل دليلًا يثبت أن الطريقة المتبعة في القرن السابع عشر لا تزال تطبَّق اليوم:
وكما هي الحالة في جميع أنحاء الشرق، ترى أسواق مدينة بيروت تزخر بالكلاب. إن المشاجرات التي تقع في الأحياء لا يُحس بعقباها إلا المارة المحايدون الذين يخرجون من مأزق هذا النزاع المحلِّي ملطخين أو ممزقي الثياب. وما أسعد المتقاتلين المدفوعين بحماستهم الشديدة إذا لم يسمحوا لأنفسهم أن يَعَضَّ بعضهم بعضًا!
كان أمراء الجبل يترددون — بوجهٍ خاص — إلى مدن الشاطئ في أثناء الاحتلال المصري؛ لأن إبراهيم باشا كان قد وَكَلَ إليهم مهمة القيام بحمايتها؛ وعليه فإنه لم يكن يرى سوى مسيحيين مسلحين. وهذا ما كان يؤلم أهاليَ المدينة أعداء أبناء لبنان؛ فقد كانوا يتمنَّوْن لو يوليهم الباشا عناية السهر على مدينتهم.
وفي ذات يوم كان أحد هؤلاء الأمراء مارًّا بالأسواق ممتطيًا جواده، فإذا به يصادف على الجانبين — وفي كل لحظة — كلابًا ممددة على البلاط، ولما أعيته الحيلة في اجتنابها قال في ساعة فقد فيها صبره: ما أكثرَ الكلابَ في هذه المدينة! فأجابه حانوتي جرحته هذه الملاحظة؛ إذ ظن أنه يعنيه: لقد نطقتم بالحق يا صاحب السعادة، ولكن تأملوا قليلًا تعلموا أن أكثرها غريب …
إن المدارس العامة قليلة جدًّا، ولا يُعلَّم فيها إلا القراءة والكتابة بدون اتباع قاعدة، والأولاد الذين يُراد أن يتلقَّوْا دروسهم يتعلَّمون قراءة القرآن. ولمَّا كان هذا التعليم يُتعب الأطفال الذين قلما يُقدِّرون جمال الأسلوب، فإنهم يَعِدُونهم بأجمل الأماني التي تُحقَّق — بدون مطل أو خلف — يوم يصرِّح المعلم بأن تلميذه ختم الكتاب الكريم؛ عند ذاك يعطي الأبُ الشيخَ بخشيشًا ويدعوه إلى حفلة الغد.
إن الشيوخ أو سدنة المساجد هم أيضًا مَدعُوُّون إلى هذا الاحتفال، فيقومون في أثناء هذا الطواف الاحتفالي بتمثيل روايتهم الدينية، بعد أن ينضم إليهم المتعصبون الذين يوهمون الناس أنهم وقعوا في غيبوبة، ولكي يفيقوهم فإنهم يهزُّونهم بعنف على نغم الطنبور الذي اصطحبه تلاميذ الشيخ وهم يغنون، وذلك ما يؤلِّف مع الموسيقى الأخرى وصراخِ النساء وضجيجِ الجمهور أخوفَ ضجة يمكن أن يتصوَّرها العقل.
نجد أحيانًا — وهذا ليس بالغريب — شُبانًا من المسلمين يدرسون النحو على علماء مسيحيين؛ نظرًا لتفوُّق الأصول الحديثة التي اتبعها هؤلاء بعد أن وضع أصولها مطران ماروني في حلب. إن فائدة هذه الطريقة ظاهرة لأنها تُعلِّم بسنتين ما لا تستطيع أن تُعلِّمه الكتب الأخرى في عشر سنوات.
وفي بيروت حمَّامان، يقع الكبير منهما قُرب السراي وهو قديم العهد، ظهر أن الإسماعيليين ضربوا صفحًا عنه كما ضربوا صفحًا عن المسجد الكبير. إن الحمامات لم تخصص فقط لتطهير المسلمين، بل لها أيضًا أهمية كبرى في حقل الطب العربي … فهناك يتعرَّض المرء إلى الْتِقاط الأمراض الجلدية، وغالبًا ما تكون هذه الأمراض معدية، وأولها وأسرعها عدوى الجرب، الكثير الانتشار في البلاد.
أما مَنْ يريد الاستحمام فلا يتكلف إلا انتزاع ثيابه فوق أحد المقاعد الخشبية الكبيرة القائمة حول الغرفة الأولى، ثم يستعيض من ثيابه بمنشفة يشد بها وسطه. الغرف مشتركة بين الجميع، إلا أنه يمكن الاختلاء في إحدى المقاصير القائمة في الزوايا الأربع. وما من شكٍّ في أن المستحِمَّ يكون مرتاح البال وفي حرز حريز متى علَّق منشفة على الباب كأنها ستار له.
حاول ساذج ذات يوم أن يختبر صحة الزعم بأنه لا بد مِن أن يُجَنَّ مَن يستحم بعد أن يأكل سمكًا ولبنًا، ولما وجد أن عقله لا يزال في رأسه رغم قيامه بإنفاذ هذه الشروط الثلاثة، دفعته لذة هذا الاكتشاف التي استولت عليه إلى وسط الشارع، ليعلن ذلك بسرعة؛ فخرج عاريًا وهو يصيح: انظروني، لقد استحممت بعد أن أكلت سمكًا ولبنًا، ومع هذا فإني لم أُجَن.
إلا أن عريه الكامل كان ينقض زعمه بأنه لا يزال يملك عقله …
إن لمسيحيِّي بيروت ثلاث كنائس، وأكثر هذه الكنائس رحابة وجلالًا هي كنيسة الروم. لقد شُيدت وكنيسة الموارنة في وقتٍ واحد، على عهد أمراء الجبل الذين كانوا — رغم تظاهرهم بالإسلامية والدرزية — أكثر تسامحًا من سواهم. إن كنيسة الروم في بيروت هي أجمل كنيسة مسيحية في أنحاء المملكة العثمانية.
وعام ١٤٥٥ حدثت على يد المتعبِّدين الذين يخدمون الكنيسة أعجوبة تمت بها شهرة قداسة هذا المأوى.
أوَهل يُعقل أن يكون المؤلفون قد خلطوا بين هاتين الأعجوبتين؟!
إن بيروت تتقدم باطِّراد وتوشك أن تُعد بعد الإسكندرية وأزمير؛ لقد أُنشئت فيها قنصليات لجميع الدول تقريبًا، ومؤسسات تجارية، وفنادق، ومحلات مجهزة على أكمل وجه، وأخيرًا ملاهٍ فخمة لا مثيل لها إلا في الأساكل الخطيرة.
حاولت أن أقوم بمشروع تأسيس خان إفرنسي يضم بين جنباته دار القنصلية، ومحلات التجارة، والمكاتب، ومخازن تجَّارنا حتى معبد بلادنا أيضًا. وحكومة الملك التي كانت تشجع دائمًا مؤسساتنا في تركيا أرصدت لي — بعد تأييدها هذا المشروع — مبلغًا كافيًا للشروع فيه، إلا أن السلطة المصرية التي كانت تستخدم جانبًا من هذا الخان لاستيداع الملح — وكان يمكنها أن تودعه محلًّا آخر — قد أصرت على رفضها منحَنا هذا المركز رغم المفاوضات المتعددة التي قمتُ بها حتى لدى نائب الملك.
ولقد اتخذت من هذا الرفض مقياسًا لأقدر العواطف التي يكنُّها لنا المصريون، وإني لم أخطئ قط في الأحكام المختلفة التي أصدرتها على أصدقائنا المزعومين على ضفاف النيل.