الفصل التاسع والعشرون
قلت سابقًا إن سكان لبنان هم الموارنة، والروم الكاثوليك، والروم الأرثوذكس، والدروز، والمتاولة. أما الملل الأخرى التي نجدها في تلك الجبال كالمسلمين، واليهود، والأرمن الكاثوليك فضئيل عددها.
لسنا نعرف معرفةً لا تقبل الريب إذا كان الموارنة أتَوْا إلى لبنان من بلاد ما بين النهرين أو من فلسطين. ومهما يكن من أمر فأرجِّح أنهم من أصل جنوبي أكثر مما هم من أصل شرقي، رغم الآراء التي تؤيد الفكرة الأخيرة. وهنالك رأي ثالث، يمتُّ إلى الأول بصلة، ينبئنا أن الموارنة وُجدوا — في القرن السادس — في مدن حماة وقنسرين وأفاميا، وأن مار مارون — الذي يقال إنه وُلد في بلاد ما بين النهرين — سكن تلك البقاع قبل ذلك بقرنين.
وعلى كلٍّ فهاكم ما ترويه التقاليد حول هذا الشعب المعروف بالشعب اللبناني اليوم.
ويقال — بِناءً على زعم الكثيرين — إن عدد الموارنة كان كثيرًا لا يستهان به في الهند، وإنهم كانوا يعيشون فيها سعداء مستقلين، لا يعكر صفوهم معكر؛ نظرًا لأعمالهم الزراعية التي كانوا يقومون بها، ومراكز إقامتهم المنيعة التي لا تُقتحم.
أوفد البطريرك حنا الحلو والمطران يوسف إسطفان — مؤسس عين ورقة — إلى تلك البلاد، سنة ١٨١٣، راهبَين اضطُرَّا إلى التوقُّف في بغداد بسبب الحيرة التي وقعا فيها، لا لعدم توفر الأسباب المؤيدة لوجود هؤلاء النصارى الذين يقال إنهم يتحدرون من الموارنة، بل للصعوبات التي اعترضت وصولهما إليهم، فعادا على أعقابهما. ومذ ذاك لم يقم أحد بمحاولةٍ أخرى من هذا النوع.
وأشد الآلام التي قاساها الموارنة، في الآونة الأخيرة هي — بلا ريب — تلك التي تلت سقوط فخر الدين. لقد استنزفت بادئ ذي بدء جيوبهم من جراء دفعهم نفقات أميرهم الضخمة. وعندما حدث الانقلاب وما تلاه من نتائج سيئة سُحقوا تمامًا؛ ففي تلك الآونة توطدت — بنوع خاص — العلاقات القائمة بين الموارنة والفرنسيين؛ لأن مصيرهم البائس لم يكن يريهم خشبة النجاة إلا في تدخُّل ملك فرنسا — لويس الكبير — الذي ملأت شهرته قلوب مسيحيي لبنان ودوَّت في جميع جبالهم.
وبهذه المناسبة (١٦٥٩) أخذ الملك على عاتقه حماية البطريرك، وجميع الأساقفة والإكليريكيين والعلمانيين الموارنة، ثم توسط سفير فرنسا في القسطنطينية للمحافظة على هذا الشعب وحماية مصالحه.
ويظهر أن الموارنة ظلوا في قلق وخوف، كما يتبيَّن ذلك مما نشره دي لاروك من براءات ملكية ترجع إلى عام ١٦٩٧ حول مساعي أمراء لبنان وبطريركه في تغيير أسلوب الحكم المجحف بحقوقهم.
ففي عام ١٦٦٢ عين أحد أفراد آل الخازن — وهؤلاء هم من أعرق وأشرف عائلات الجبل — قنصلًا لفرنسا في بيروت. وكان القصد من هذا العطف أن يخول أحد الموارنة الأقوياء بعض السلطة ليعاضد إخوانه ويرعاهم.
وقد فهمت من أحد أساقفة هذه العائلة أن الكنيسة الأولى، التي شُيدت في كسروان — يوم كان يأبى تعصب المتاولة الأقوياء، حينذاك، أن يكون للمسيحيين مكان عام يصلون فيه — كانت في منزل قنصل فرنسا. فهذا القنصل الخازني جعل مقره الصيفي في الجبل، فكان ذلك المكان مصيفًا وكنيسة في وقتٍ معًا؛ وهكذا أتاح لبني مِلته ممارسة طقوسهم الدينية.
ترجع شهرة أسرة بيت الخازن إلى الشدياق سركيس الذي والاه الحظ فحمى أبناء الأمير معن. والصغير الذي رُبي بين أولاد الشدياق سركيس أصبح فيما بعدُ أميرًا؛ فاتخذ مدبرًا له الرجل الذي قام مقام والده؛ وهكذا احتفظ آل الخازن بهذا المنصب؛ لأن خلفاء الأمير سلكوا مسلك والدهم، مدة مائتين وثمانيَ عشرةَ سنة، مشتهَرين بالمقدرة والاستقامة.
وما بلغت عائلة الخازن قبة مجدها وشهرتها حتى أخذت تعاني صروف الدهر وضربات القدر التي كانت تتوالى عليها بسرعة متتابعة. وعندما أفل نجمها تمكَّنت بفضل خدماتٍ قامت بها أن تكتسب عطف الرجال العظام في بلاد فرساي والقسطنطينية. إن هاتين الدولتين اتفقتا على مخالفة شرائعهما الخاصة ونظمهما لتُعيِّنا — كما سبق لي أن قلت — أحد مشايخ آل الخازن قنصلًا في بيروت، وقد لقبوه في باريس بالأمير.
إن البراءة الملكية الصادر في شهر تموز ١٧٠٨ تشير إلى براءةٍ أخرى سابقة لها يرجع تاريخها إلى سنة ١٦٦٢. أما آخر براءة فصادرة سنة ١٧٢١. وهنالك براءات أخرى عديدة قد اطَّلعت عليها عند الموارنة.
واطلعت على فرمانين سلطانيين صادرين عن الباب العالي؛ أحدهما من السلطان محمد يرجع تاريخه إلى سنة ١٠٧٤ﻫ، وآخر من السلطان مصطفى مؤرَّخ في ٢٣ شعبان ١١١٦ﻫ. وفي هذه البراءات السلطانية ود وعطف أكثر مما تعوَّدنا أن نقرأ في أمثالها؛ فالذين وُجهت إليهم يُدعون فيها أبناء الباب العالي.
غير أن آل الخازن جُردوا من مناصبهم حين نشبت الثورات في الجبل؛ ففقدوا على إثر ذلك منصب قنصلية فرنسا في بيروت. وقد عُهد بهذا المنصب بعد موت آخر قنصل من الموارنة إلى مدبِّر ماروني هو الشيخ غندور الخوري الذي قتله الجزَّار قبل أن يتسلم البراءة.
وإذا شئنا أن نبحث عن المنفعة التي تجنيها اليوم أعمالنا التجارية من تجديد مناصب القناصل والوكلاء، وجعْلها في عهدة شخصيات لبنانية أو رجالات شاطئ سوريا العظام، يتوجب علينا أن نلقيَ نظرة على حكومة هذه البلدان؛ لأن نفوذ الأشخاص يتوقف على تأثيرهم لدى هذه السلطات؛ فبعد أن خلق الأتراك الفتن وبثوا روح التفرقة بين الشعوب والزعماء، أصبحوا هم أسياد البلاد، وفقد الموارنة مكانتهم في الجبل. أما في المدن فقد أخذ الموظفون الكبار يفضِّلون التعامل مع الأوروبيين بدلًا من النصارى من رعايا السلطان، ولا سيما عندما راعى الفرنسيون البلاد وعرفوا أن المثل القائل: «الهدايا الصغيرة تغذِّي الصداقة.» قد وُضع خصوصًا للشرق.
يزعمون أن الحاجة هي التي توقظ فيهم شهوة القبض. أما أنا فلا أؤيد هذا الزعم لأني ما عرفت تركيًّا واحدًا لم يستقبل بفرحٍ متناهٍ عرض تقديم هديةٍ ما. إن خازندار داي الجزائر — وهو على جانب كبير من الثراء — لم يكن يرتدي غير الأجواخ التي كان يستقدمها له قنصلنا بلون رمادي مفضَّض. وكثيرًا ما كان يقول هذا الموظف: إن الأجواخ المعروضة في أسواق الجزائر لا تضاهي أجواخ باريس في القيمة والاتقان والجمال. وما إخالها حازت إعجابه العظيم إلا لأنها كانت تأتيه بلا ثمن.
لا شك أن معرفة الجميل هي التي حبَّبت الموارنة بنا. ومع ذلك فهنالك من يزعم أن مودتهم ليست إلا رابطة قوامها المصلحة، وهي تتبدَّل بتبدُّل الحكم القائم عندهم؛ فموالاتهم لنا تتوقف على موالاة الحكم القائم عندهم وعدمها. لقد وجدتهم على الغالب في كثير من المناسبات غير ودودين، لا يُظهرون أي مبالاة. وتلك الامتيازات التي اكتسبها الفرنسيون في استمالتهم ومودتهم قد شاخت … فكم مرة لاقيت منهم مقاومة ومناهضة في الخدمات المتوجب قضاؤها! فلا أدري، إذا كان لا بد لي شخصيًّا من الثناء على الموارنة، كيف أستطيع ذلك وأنا لم أشعر — أثناء قيامي بمهمتي الرسمية — بالعطف الذي كنت أتوقعه منهم. إن الأمراء والإكليروس، أو بكلمة وجيزة رجال الدنيا والدين لم يعاملوني المعاملة التي كنت أتأملها وأرجوها. إن الشعب الماروني بوجهٍ عام طيب بمقدارٍ ما، وخيره ذلك القروي الساذج الذي لا يزال يحافظ على عاطفته، ويتمسك بتقاليده التي لم تستطِعْ الأيام أن تفسدها. إنه يرى فينا — كما لاحظ السيد لامرتين — «حماة اليوم ومحرِّري المستقبل.»
نعمت بنفوذ وتأثير قويين في الجبل، فكثر فيه عدد أصدقائي بعدما قمت بقضاء حاجاتهم وقدَّمت لهم الخدمات التي كانت تسمح لي مهمتي بتأديتها، وعلى الأخص تلك الحماية التي كانت تمنحها فرنسا لرجال الإكليروس الماروني. وقد كنت أطبِّقها بحذافيرها بلا هوادة؛ فإنما هؤلاء ينشدون حمايتنا لهم عندما يقومون بأعمالهم الدينية، فلو كنت حصرت خدماتي في نطاق الدين فقط لَمَا كان في استطاعتي أن أتمتع بأية شعبية في لبنان، وكان شأني شأن بعض القناصل الذين لم يتعدَّوْا نطاق الأوامر التي كانوا يتلقَّوْنها، فبمشاركتي رجال الإكليروس آراءهم وتنفيذ رغبتهم حملتهم على أن يشعروا ويلمسوا حسنات رعاية فرنسا. ولقد منحت جميع مكاري الأديرة «تذاكر» تمكَّنوا بواسطتها من النزول إلى المدن وشراء حاجاتهم دون أن يخشَوُا السخرة التي كانت تتناول المكارين ودوابهم.
وهناك عدة مؤسسات دينية أذنتُ لها — بعد أن فتكت بمحصولاتها الحيوانات البرية المتلفة — بحمل الأسلحة النارية، حتى إني سعيتُ في السنين القاحلة في إعفاء جميع الديورة من دفع ضرائب الحبوب التي توازي — على وجهٍ تقريبي — سدس قيمتها الحقيقية. وأخيرًا فإن دار القنصلية الفرنسية كانت ملجأً لهذه الديورة، فكم من مرة أمدَّتها بمساعدات استغنت بها — في بحر سنة مجدبة — عن شراء منتوجات هذه البلاد وقد أغلت ثمنها الفائدة الباهظة التي كان يتقاضاها من يسلِّفون عليها.
يريد الخاصة من ناس هذه البلاد أن ينعموا هم أيضًا كإكليروسها بالحماية الفرنسية، ولا غاية لهم من هذه الحماية إلا التخلص من دفع ميرة أملاكهم، وعدم محاكمتهم أمام محاكم بلادهم في دعاويهم العديدة، وما أكثرها عند الطبقات المرموقة المطبوعة على التنازع والخصام.
وأخيرًا، وجدت بعد إقامتي مدة طويلة في تركيا أن براءات الحماية ما هي إلا امتيازات تنجِّي صاحبها من العقاب. والأشخاص الذين يحصلون عليها بطريقة مغايرة للقانون يكونون بالطبع ممن لا يردعهم رادع، بعد أن يرَوْا أنفسهم محميين. إنهم يقومون بأعمال خطرة مغايرة للقانون، ويفترون على البشر، ويرتكبون جميع ضروب المظالم؛ فيتبعون السلطة — بصورة متواصلة — بدسائسهم التي يدبرونها لها.
ولما ارتقى الباب لاون العاشر إلى السدة الرسولية، ذهب أحد هؤلاء البطاركة — وفقًا للقانون — لكي يجدد خضوعه للكنيسة البطرسية واعترافه بعقائدها. وعام ١٥٩٦ أوفد إليهم البابا أكليمنضوس الثامن، الأب جيرولامو دنديني المنخرط في سلك الجمعية اليسوعية لينظر في فض بعض الشئون المختلف عليها، والقائم الجدل حولها. ولما كان النظام الكنسي لم يكن قد استقر بعدُ بصورة نهائية فقد طلب البطريرك يوسف من الكرسي الرسولي أن يصلحه بما له من سلطان، فيقطع دابر الخلاف. رفع هذا الطلب إلى البابا أكليمنضوس الثاني عشر، والتمس منه أن يوفد لهذه الغاية زائرًا رسوليًّا إلى جبل لبنان.
وبالاستناد إلى هذا الطلب قرَّر المجمع المقدس بتاريخ ٢٤ تموز سنة ١٧٣٥ وجوب إيفاد قاصد رسولي من قِبله ليشترك مع البطاركة ورؤساء الأساقفة والأساقفة الموارنة، فيعقد مجمعًا مليًّا تُبحث فيه النقاط المستوجبة البحث، ويلغي كل ما طرأ على الطقسيات المارونية إذا كان يضاد العقيدة الرومانية. أما القضايا العويصة الحل فيُحفظ حق الفصل فيها للمجمع المقدس.
وبِناءً على ذلك أوفد البابا المونسنيور السمعاني حافظ مكتبة الفاتيكان، وهو ماروني لبناني، بعد أن منحه صلاحية مطلقة في بحث هذه الشئون وحلها، فاستُقبل بسرور عظيم.
التأم المجمع في دير القديسة مريم في اللويزة من كسروان بتاريخ ٢٨ أيلول سنة ١٧٣٦، وأنهى أعماله بتاريخ ٣ تشرين أول، وطُبعت مقررات المجمع اللبناني في دير الروم الكاثوليك — دير مار يوحنا بالشوير، حيث يوجد مطبعة عربية — على نفقة قنصل فرنسا في بيروت، وهو من آل الخازن.
وخلال تلك الفترة تُوفِّي البابا فلم يعمم ولم ينفذ ما قرره المجمع في جبل لبنان إلا عام ١٧٤١ على عهد خلفه بندكتوس الرابع عشر.
لقد نُشرت قوانين المجمع وعدة قوانين أخرى، ولا تزال الكنيسة المارونية تتقيد بها حتى يومنا هذا.
ومنح المجمع البطريرك حق تعيين المطارنة في الأبرشيات التي تفتقر إليهم. وإذا ما سيم مطرانٌ ما بصورة صحيحة فلا يعود بالإمكان حرمانه الامتيازات التي يتمتع بها إلا في حالة اقترافه ذنبًا كبيرًا نص عليه القانون الكنسي.
ومنح البطريرك أيضًا حق استيفاء العشر، وقَبول الهبات، والقيام بزيارة الأبرشيات الخاضعة له، كل ثلاث سنوات، وتكريس الزيت المقدس وتوزيعه على الأبرشيات السبع، كما أنه ترك له صلاحياته القديمة التي أقرها العرف والتقليد.
ومنع تلك العادة المريبة وهي سكنى الرهبان والراهبات في محل واحد، أو اتصال بنايات الأديرة التي تضم هذين الجنسين، وحظر كل علاقة أو مواصلة بينهما.
وأوعز إلى كل مطران — بوضوح كلي — أن يقيم في دوائر أبرشيته وألا يغادرها إلا بإذن من البطريرك وفي حالة الضرورة القصوى.
إن وفاة البطريرك يوسف الخازن في ١٣ آذار ١٧٤٣ فسحت في مجال الشقاق؛ فانتُخب بطريركان مارونيان لكرسي أنطاكية. إلا أن الأب الأقدس استطاع لحسن الحظ — ببراعته وحكمته ومقدرة موفده الأب جياكومو دي لوقا، رئيس القدس القديم — أن يضع حدًّا لهذه البلبلة؛ فألغى انتخاب المتزاحمين غير القانوني، وأحل رئيس الأساقفة — سمعان الدمشقي — محلهما. إن هذا الانقلاب انتهى بسلامة، ولكن بعد جهد، بمعاضدة الأمير الدرزي وقنصل فرنسا في صيدا على إثر اجتماع عام عُقد في حريصا بتاريخ ٧ تشرين الأول سنة ١٧٤٣ وحضره جميع رجال الإكليروس الماروني.