الفصل الثالث والثلاثون
كان الجزار سياسيًّا داهية بقدر ما كان ظالمًا غدَّارًا، فلم يفته ما تضمر بعض الأسر اللبنانية للبعض الآخر من أحقاد يذكيها التنافس؛ فعمل بلباقته على إنماء تلك الحزازات في نفوسهم. وكان يعرف نيات آل شهاب ومطامعهم السياسية فيتملَّقهم تارة ويخدعهم طورًا، يعلِّلهم ويؤملهم، أميرًا بعد أمير، بكرسي الحكم.
ووفقًا لهذا المنهج الذي نهجه الجزَّار كانت تُباع خلعة الولاية بالمزاد العلني، وكان الأمير الكبير مضطرًّا — لأجل المحافظة على كرسيه — إلى أن يقبل بتأدية الثمن الذي كان يتقدم به من الجزَّار سائر أفراد تلك العائلة، على الرغم من جسامة المبلغ البالغة الحد. كان للخلعة ثمن باهظ لا بد لباشا عكا من أن يقبضه — كل عام — من الزائد الأخير.
وبسبب هذه المزايدة سعى الأمير بشير في قتل عمه الأمير يوسف؛ فمات هذا مخلفًا وراءه ثلاثة أولاد غير مجتمع أشدهم. كان بوسع أقاربهم — لو خُلقوا أقلَّ جشعًا — أن يمدوا لهم يد المعونة وينتظروا بلوغهم سن الرشد، ولكن تهافُتهم على كرسي الولاية وطمعهم بها حدا الأميرين حيدر وقعدان — عم أبناء الأمير يوسف وابن عمهم — أن يطمحا إلى الحكم؛ فحاربا الأمير بشيرًا الذي كان يمقته الشعب واستطاعا التغلب عليه. فالتجأ الأمير بشير إلى عكا، وطلب المعونة والمدد من الجزار، فأمدَّه بسبعة عشر ألف رجل حارب وإياهم في الجبل أكثر من سنة دون جدوى؛ فاضطُر الجزار إلى سحب جيوشه، ولكي يقهر الأميرين حيدر وقعدان عرض على «مناصب» لبنان أن يعيد إليهم أمراءهم الشرعيين — أولاد الأمير يوسف — فهبَّ أبناء الأمير يوسف وطردوا عمهم وابن عمهم وحكموا البلاد بهدوء وسكينة، ولكن مدة سنة فقط.
ثم حاول باشا عكا — الذي لم يفتأ يثير الفتن والتفرقة في الجبل — أن يعيد الأمير بشيرًا إلى كرسي الحكم، بعد أن بقي هذا الأمير ثلاث سنوات لا يقوم بعملٍ ما غير تربُّص الدوائر بخصومه، فأمده من جديد بجيوش لم تكن أكثر توفيقًا من التي أمده بها من قبل؛ فالشعب كان لا يزال كارهًا للأمير بشير، مُصرًّا على عدم القبول بولايته؛ فغضب الجزار على بشير وألقاه وأخاه حسنًا في غياهب سجن عكا، واعترف لمن لم يتمكَّن من طردهم بحق حكمهم الجبل.
خال أعداء الأمير بشير أن الباشا سيقتل الأخوين. بَيْدَ أن الجزار — وهو ذلك اللبق الحاذق — لم يكن ليهرق نقطة دم ما زال يأمل بوسيلة يستدرُّ بها المال.
وبعد سنتين فاوض سجينه بالعودة إلى الحكم؛ فالشعب لم يعد يُكنُّ لأمرائه الحاكمين ذلك الولاء القديم، فالفرصة إذنْ مؤاتية. عرض الجزار على الأمير بشير وأخيه أن يجعلهما سيِّدَيِ الجبل شرط أن يدفعا له خمسين كيسًا كل شهر (٣٧٥٠٠ فرنك)، وأن يتركا أولادهما عنده رهائن.
وعندما درى الأميران حسين وسعد الدين — ابنا الأمير يوسف — بما يعدُّه ويدبِّره لهما الجزار من مكايد، هربا قبل أن تدركهما أظفاره الدامية؛ وهكذا حكم الأمير بشير الجبل ثلاث سنوات لم تقم بها في وجهه صعوبة.
والتمس الأميران الهاربان نجدة باشا دمشق فلم يظفرا بطائل؛ فحوَّلا وجههما شطر باشا طرابلس فخابا أيضًا. والجزار الذي يجني ثمارًا طيبة من تعاقب الأمراء على كرسي الحكم كان يحاول دائمًا إقلاق بال الذين نصَّبهم هو؛ فعرض مساعدته على أبناء الأمير يوسف، بعد أن نشدوها عند غيره ولم يجدوها، فقبلوها وهرعوا إليه. وعندما جاء سيدني سميث لنجدة هذه الفرضة (عكا) التي يحاصرها الفرنسيون، كان هؤلاء الأمراء لا يزالون يساومون ويعللون بالآمال.
وقُضي الأمر فلم يتمكن الأمير بشير من الصمود أمام مهاجمة قوات الجزار والأمراء له؛ ففرَّ إلى عكار الواقعة على مقربة من طرابلس، فتعهد قائد الأسطول الإنكليزي بحمايته لدى الوزير الكبير؛ وهكذا أبحر الأمير على ظهر البارجة ليلتحق بالوزير الكبير، فأدركه في العريش.
إن توصية السيد سميث مهَّدت السبيل للأمير، فاستُقبل استقبالًا جميلًا، ووعد بالاهتمام بقضيته فور نهاية الحملة المجهَّزة ضد الفرنسيين.
وبِناءً على هذا التأكيد عاد الأمير إلى عكار. وبعد أن قضى فيها ثلاث سنوات قام بثورة أدَّت به فورًا إلى القبض على زمام الحكم، استدعاه الأهالي الكارهون لأولاد الأمير يوسف لأنهم فرضوا ضرائب باهظة — إرضاء لباشا عكا — ثم كانت الثورة عليهم، ففرَّ هؤلاء إلى بيروت.
وبعد هذا الحادث نشبت حرب بين الأمير بشير والأمراء المطرودين الذين عاضدتهم جيوش الجزار، ولكنهم ما لبثوا أن سئموا القتال فتهادنوا، واقتسموا فيما بينهم حكومة لبنان وكسروان.
وهلك الجزار فلم يُحدث موته أي تغيير في هذه المهادنة، لا بل ساعد على توطيد دعائمها.
ومما يقال حول هذه الحوادث الخطيرة إن الأمير الكبير رأى فرصة وجود الإنكليز في مصر مؤاتية له، فاغتنمها وتخلَّص من أعدائه ومزاحميه، فالقومودور سيدني سميث كان قد فاوضه واتفق معه على موقف معين يقفه حيال إنكلترا.
ومن جملة الرسائل التي تلقَّاها الأمير، رسالة من السيد أولدريدج صادرة عن لندرة، مؤرَّخة ١٣ آذار ١٨١٩، وهي تنطوي على تفاصيل هامة حول هذا الشأن.
ذكَّر السيد أولدريدج الأمير في رسالته هذه باستقباله إياه في قصره بدير القمر، عام ١٧٩٩، ثم استقباله مرة أخرى لم يذكر وقتها إلا بالإشارة إلى الهدية التي قُدِّمت له، وهي بندقية في منتهى الدقة والجمال يُظن أن الفارس جون بانكس أودعها المتحف البريطاني فيما بعد. وقد قوبلت هذه الهدية بإرسال بندقية إلى الأمير الكبير مرفقة بقطعة من نسيج دقيق عام ١٨٠١.
ولكي يُظهر هذا الضابط ما ناله من حظوة، وما امتاز به على الذين رافقوا السر سيدني إلى جبل لبنان، فقد ذكَّر الأمير بزيارته الثانية له، حين رافق إلى قصره الضابط يواريت الذي جُرح في إحدى المعارك.
ثم دخل الموضوع وعرض على الأمير بشير عقد مخالفة تجارية، مبينًا له جميع الفوائد والمنافع التي يمكن البلدان أن يجنياها منها إذا عُقدت.
وبعد تفصيلات عديدة ختم رسالته بهذه العبارة ليُطمئن الأمير الذي قد يخالجه الحذر والخشية، فقال له: «إن انتصارات اللورد ولينغتون الذي قاد جيش إسبانيا، قد أوثقت وغلَّت تمامًا أيدي بونابرت، فحالت إلى الأبد دون إحراجه موقف أصدقائنا في مصر وسوريا.»
وفي غضون ذلك نُكب الجبليون وأهالي سوريا بموت سليمان باشا الرجل الطيب، فخلفه عبد الله بك ابن كاخيته وعمره اثنان وعشرون عامًا، فافتتح أعماله بذبح من أحسن إليه، ألا وهو مدبر سلفه الأول، ملحم حايم الإسرائيلي الذي وُهب مقدرة لا تُجارَى في الأعمال الإدارية.
إن هذا الوزير الشاب الذي استسلم إلى نزقه ما لبث أن اتبع سياسة الجزار في قضايا الجبل، فضاعف الستماية كيس، بل زاد على تلك القيمة مبلغًا ضخمًا يقدَّر بألفين ومائتي كيس.
ولا بد من القول هنا إن تعطُّش الباشا للذهب قد نتج عن الضريبة الفادحة التي قُضي عليه بدفعها لينال العفو، بعد عصيانه على الدولة عام ١٨٢٣، في حين أنه لم يكن يدري أن الأمير بشير قد قاسمه نقمة الدولة عليه، ثم لم يسهم بشيء في سبيل الحصول على العفو والغفران.
كان مصير الأمير مرتبطًا بمصير هذا الباشا. ظن الأمير أن مركز الباشا وطيد لا يتزعزع، وهو لا يتزحزح من منصبه. فما كاد يشعر بترجرج موقف الباشا حتى غادر البلاد ميممًا مصر، فوجد فيها ملجأً منيعًا يحتمي به. فمحمد علي الذي سبق أن ربطته بالأمير علاقات قوية ساعده بكل ما أوتي من نفوذ؛ وهكذا عاد الأمير بشير إلى تولِّي حكم الجبل، على الرغم من أن الباشوات الذين حاصروا عكا أسندوا منصبه إلى الأمير عباس.
ورأى الأمير الكبير أن البلاد تحركها أحزاب تناصبه العداء، فازداد تخوُّفه، ولا سيما حينما وجد الدروز منضمين — هذه المرة — إلى أقربائه وذويه الذين يتآمرون على دكِّ سلطانه.
أما أعمال تسلُّق الأسوار فهذه حركات لا يحسنون القيام بها أبدًا، وهذا ما يجعل مدة الحصار لا نهاية لها؛ ولذلك ظل إبراهيم باشا يحارب ثمانية أشهر حتى استولى على مدينة عكا، رغم أنه لم يدع فيها حجرًا على حجر.
أما الشيخان بشير جنبلاط وعلي العماد فلقيا هذا الحتف بعد أن صودرت أموالهما، كما صودرت جميع أملاك الأمراء الذين كانت لهم إصبع في المؤامرة. ثم إن الأمير الكبير فقأ أعينهم وقطع ألسنتهم. فعل بهم ما كانوا قد أقسموا على أن يُنزلوه به إذا ما انتصروا عليه وظفروا به.
لزمت أكثرية النكديين الحياد التام في هذه المعركة الفاصلة، فظلوا في مناصبهم ونعموا بثقة الأمير؛ وهكذا كانت هذه الثورة بدء عهد توطيد سلطة الأمير بشير، وإن ظل يَلقى مع ذلك بعض الصعوبة في إرضاء عبد الله باشا الذي كان يتعبه في مطالبه. كان الباشا لا يقنع بأخذ ما يبتزُّ من مال، بل يريد زجَّ الأمير في جميع حروبه مع الإقطاعيين الذين ينكرون عليه سلطانه.
لم يكن في استطاعة الأمير رفض مطالب الباشا، فسخَّر رعاياه، معتمدًا على ولائهم له بعد أن تألَّبوا عليه، ولكن تكليفهم دفع ضرائب باهظة — بعد نفقات حروب متواصلة شاركوا فيها بقسط وافر من أرواحهم — قد ساءهم كل الإساءة؛ وهكذا كان يضحي الأمير بمحبة شعبه له ليحصل على رِضَى الباشا، بينا هذا الباشا كان يتطلب منه الشيء الكثير، فكل ما كان يقدمه له الأمير لم يكن يرضيه ويُشبع نهمه.
استمرت هذه الخصومة بين الباشا ومحمد علي مدة طويلة تقرر في نهايتها مهاجمة ولاية عكا، وكان تنفيذ هذه الخطة في شهر تشرين الثاني ١٨٣١.
كان الأمير يخْلص كل الإخلاص لمحمد علي، وعلى الرغم من أنه شاء أن يتصرف هذه المرة بلباقة وحكمة، فقد كشف عن سريرته بسرعةٍ ما عوَّدنا إياها، ولم يكن يأتيها لولا اتفاق سري بينه وبين إبراهيم باشا.
وأخيرًا قدم، فاستقبله القائد الأعلى للقوات المصرية استقبال رجل محالف له، لعلمه كل العلم أنه لن يتسنى له أن يكون سيد سوريا بدون مساعدة الجبل ومعونته؛ وهكذا أبقى إلى جانبه الأمير بشيرًا حتى ذهابه إلى طرابلس وحمص؛ لأنه كان محتاجًا إلى ما يمده به من مؤن وذخائر يحتاج إليها هناك.
ولقد قام الأمير بمهمته بنباهة، وأدرك الباشا في بعلبك.