الفصل الرابع والثلاثون
إن غياب الأمير وابتعاد القوات التي تؤيده وتأتمر أمره قد حملا الحزب الدرزي على الاعتقاد بأن الفرصة سانحة له ليستعيد السلطة التي فقدها؛ فالرُّوَّاد الذين أُوفدوا إلى إسطمبول عادوا يخبِّرون أن جيوش السلطان المعظم ستدخل سوريا وتقدم لهم المعونة التي ينشدونها.
فلو لم يعلن الأمير بشير ولاءه لإبراهيم باشا لانضم الدروز إلى إبراهيم، ولكن صيرورة خصمهم حليفًا لمصر قضت عليهم بأن يوالوا الدولة العثمانية.
وما كاد إبراهيم باشا ينتهي من حمص حتى أخذ يهتمُّ شخصيًّا بقضية الأمير بشير؛ فقصد بيت الدين على رأس أربعة آلاف رجل مهددًا بهم من هنالك دير القمر. إلا أن الدروز غادروا البلد لأنهم لم يكونوا يتوقعون قدوم القائد المصري ومحاربتهم له، فنُهبت بيوتهم كلها.
تلك كانت الخدمة الوحيدة التي فاز بها الأمير من محمد علي لقاء موالاته له. أما الجبل فلم ينَلْه شيء من عطف محمد علي؛ لأنه كابد تضحيات كبيرة أثناء الاحتلال المصري. ومذ ذاك بدأ اللبنانيون وزعماؤهم يَكرهون المصريين بعد ما كانوا يرغبون فيهم.
ما اكتفى الأمير بشير بخدمة مصالح مصر بما يسَّره له موقفه، بل بذل كل ما أُوتيَه من نفوذ وقوة. لاقى الأمير — كما رأينا سابقًا — كثيرًا من الاضطهادات قبل ثبوته في كرسي إمارة لبنان؛ فهو يقدِّر — إذنْ — قيمة مساعدة صديق قوي حق قدرها. اهتم خلال سني حكمه بخلق أصدقاء له والاعتماد على رجال يحمونه، فربطته علاقات وثيقة بجميع رجالات سوريا العظام. كان يخطب ودَّهم إما بهدايا يقدمها لهم، أو بقضاء بعض خدمات دعت الحاجة إلى أن تُطلب منه، في زمن لم تكن فيه سلطة سوى اسم بلا مُسمًّى. فكل باشا وكل آغا أو زعيم كان بوسعه أن يؤلف حزبًا ويعلن استقلاله؛ فتنتج عن ذلك الحروب. والحزب الذي يُغلب على أمره لم يكن يجد ملجأً ومعتصَمًا له إلا في الجبل الدرزي. على أن حصانة هذا الملجأ ومناعته لم ينتزعهما إلا المصريون.
كان الأمير يستقبل جميع الذين ينزلون عليه — ومن أي فئة كانوا — بلطف واحد، ويبقيهم في قصره المدة التي يرَوْن من المناسب قضاءها عنده. وكانت هذه الضيافة — في جميع الأوقات — أثقل عبءٍ يقوم به الأمير بشير، إلا أن سماحة كفه وشهامته كانتا تليقان به تمامًا. وما لنا أن نلومه إذا أثقل عاتق شعبه ليرضي أمياله النبيلة السمحة ويحسن الحماية والاعتصام.
تعرفتُ إلى عدة رجالات عظام من الأتراك، فلم يترك أحد منهم في نفسي بعض الأثر الذي كنت أُحسه حين أَمثُل بحضرة الأمير بشير، قبل أن هدم إبراهيم باشا معالم سؤدده وعظمته.
وفي جميع الحروب التي خاضها المصريون مع البلدان التي حاولت أن تخلع نير العبودية، كان الجبليون وحدهم هم الذين يحاولون إلقاء النير الجديد عن أعناقهم؛ ففي نابلس وجبال اللاذقية وحوران استعانوا باللبنانيين؛ لأن جميع الأساليب الأخرى لم تكن تجدي نفعًا.
قدَّم الجبلُ خلال عدة سنوات رجالًا سُخِّروا في تشييد أبنيةٍ دكتها حرب عكا، وأوفد بنَّائين وعمالًا إلى كولك بوغاز، فانهارت قوى قسم كبير منهم من جرَّاء التعب ورداءة الغذاء والهواء.
ومع ذلك فالمظالم التي أناخت بكلكلها على أبناء الجبل قد أناخت على سكان المدن سواءً بسواء. نُزعت الأسلحة في كل مكان، ولم يُذكر شيء من تضحيات الجبل وإقدامه وإخلاصه. والذين لم يستطيعوا أن يقدموا بنادق أُجبروا على دفع أثمانها كما لو كانت في حوزتهم، ناهيك بأن التجنيد الذي دُعي إليه قد فُرض بصرامة وطُبق بتدقيق على الدروز والمتاولة — رعايا الأمير — أكثر مما فُرض وطُبق على رجال المدن!
ففي العام الأول للاحتلال علَّل الجبليون الذين خدموا القضية المصرية أنفسهم بإعفائهم من ثلاثة أشياء: التجنيد الإجباري، ونزع السلاح، ودفع الضرائب الجديدة. أما الأمل الأخير فما كاد يظهر حتى اضمحلَّ لأن السلطة الجديدة — مع إلغائها الفرائض القديمة التي كانت تُثقل كاهل المدن — قررت أن تجبيَ من الجبل الضريبة القديمة نفسها، ولكن ليس بالمقدار الذي فرضه الجزار أو سليمان باشا، بل كما كان يستوفيها عبد الله باشا؛ أي بمضاعفتها ثلاث مرات عما كانت عليه بادئ ذي بدء. وعبثًا كان يُسدي الأمير بشير إلى المحتل نصائحه التي أوحتها إليه حالة رعيته. فكم أوفد من رسول إثر رسول لمفاوضة الحاكم العام، وإبراهيم باشا، ونائب الملك نفسه. ولكن لم تحقق له رغبة، وطِلْبته لم تُستجب، ولو أنها تحققت لكانت دَّلت على أنبل عمل هو غاية العدل والإنصاف.
هال هذا الرفض أبناء لبنان فأعلنوا سخطهم وهدَّدوا بالعصيان قبل أن يرتضوا بتجنيد ثانٍ. وبهذه المناسبة قَدِمَ بحري باشا — مفتش خزينة نائب الملك في سوريا — ليفاوض الأمير بالأمر. وبعد أن ضايقه بجميع ما يملك من أساليب ليحمله على الإذعان لأمر إبراهيم باشا، قرَّ رأي الأمير أخيرًا على مقابلة الزعماء الدروز ليطَّلع على أسباب رفضهم في تقديم عدد الرجال المطلوب منهم.
أجاب الأمير — بادئ ذي بدء — أن سلطته تمكنه في الحالة الحاضرة من جباية الضرائب ودفعها، ولكن دون ذلك أهوال ومشقات، وهو مع ذلك لا يريد — بل يأبى — أن يتعرض لسخط الشعب بدون أمر خاص من القائد العام.
وفي الصباح اجتمع الأمراء والمشايخ الدروز عند الأمير، فحاول بحري بك — بما أوتيَ من مقدرة — أن يقنعهم بإجابة ما يُطلب منهم، مبينًا ومعددًا الحسنات التي أتتها الحكومة المصرية فأحيت هذا البلد وأنعشته. ثم توسع بوجهٍ خاص فأفاض في تعداد المنافع المنتظَرة التي يجرُّها عليهم رضوخهم إلى ما يُطلب منهم، فقال لهم: «أنا مسيحي من العوام، ومع ذلك رُقِّيت إلى رتبة قائد مكافأةً على شجاعتي وأعمالي المشرِّفة التي قمت بها.»
ولكنه، حين لم يلقَ جوابًا على كلامه إلا سكوتًا كئيبًا، شرع يصوِّر لهم ما يجره عليهم عنادهم من أخطار: «إنكم تعرفون إبراهيم باشا وما يستطيع أن يعمله. لقد استذل السلطان نفسه؛ فحذارِ من غضبه ومن البلايا والويلات التي ستجرونها على أنفسكم.»
وظل الزعماء صامتين حتى أتى على نهاية حديثه، وعند ذلك أجابوه أنهم قدَّموا — بلا انقطاع — جميع ما فُرض عليهم، وأنهم لا يزالون على استعدادٍ لتأييد إبراهيم باشا أينما كان. إلا أنهم يرفضون تقديم الرجال، وأن نائب الملك احتل البلاد لا أهليها لتعبَّأ في جيوش منظمة.
لقد حزم الشعب أمره ونوى على تقرير هذا المصير. بَيْدَ أن الزعماء لم يؤيدوا جميعًا هذا الرفض، وشاء الأمير الكبير التوفيق بين الشعب وإبراهيم باشا، فبعث بمائة كيس زيادة عن الضريبة، فتلقَّى من إبراهيم باشا جوابًا يدحض به حجج الجبل المخالفة لإرادته.
وجه هذا الجواب إلى بحري بك، وهذا هو: «قولوا للأمير إذا كان بحاجةٍ إلى جنودي، ليستطيع القيام بالتعبئة التي طلبتها منه، فإني على استعداد إلى توجيهها إليه، وإذا كان حضورها يحدث أثرًا سيئًا فليدعُ الأمير بنفسه إلى التجنيد دون أن يجبر عليه أحدًا.»
إن هذه اللهجة المستغربة التي فاه بها القائد العام، وخصوصًا بعد إلحاحه في طلب تطوُّع عدد من رجال الجبل، تحملنا على الاعتقاد بأن إبراهيم باشا كان قلق البال، منهمكًا. وسبب ذلك — وهذا أول ما تبادر إلى أفكار اللبنانيين — هو ما كانت تقوم به السلطنة من استعدادات، وتأهُّبات لاستعادة سوريا التي كانوا يظنونها هدفه الوحيد.
حافظ أبناء الجبل على كرامتهم الشخصية؛ كانوا يرَوْن أنفسهم حلفاء المصريين ويشعرون أنه لا يمكنهم أن يُضحُّوا بأكثر مما قاموا به ليكونوا عند حسن ظنهم بهم ويكسبوا ثقتهم … إنهم لم يُجرَّدوا من سلاحهم إلا عام ١٨٣٥، وليتنا ندري بأية صورة!
اضطُر إبراهيم باشا — لحادث غير منتظر — لأنْ يتغيب ويَكِلَ إلى اللبنانيين أمر المحافظة على الأساكل … ولما أُنبئ أن مؤامراتٍ في الجبل يدبرها الدروز وفريق من المسيحيين، لم يهدأ له بال إلا بعد أن جرد أعداءه وأصدقاءه من سلاحهم.
ولهذه الغاية انقضَّ على دير القمر على رأس اثني عشر ألف رجل تهافتت عليه من جهات مختلفة، ولكي يتأكد من نجاحه قام بعمله ذاك يوم الأحد، حين كان المسيحيون يصلون في كنائسهم. أُقفلت أبواب الكنائس وأُخرج منها الرجال واحدًا واحدًا، واقتيدوا إلى بيوتهم لانتزاع أسلحتهم.
ومن دير القمر التي لا يزيد عدد سكانها على أربعة آلاف نسمة من دروز ومسيحيين، وُجهت الجواسيس إلى الأمكنة الأخرى فجرَّدوا أهليها أيضًا؛ فآلم هذا الأسلوب الجائر اللبنانيين عامة، والمسيحيين خاصة، فأضمروا للمصريين حقدًا لا يُشفى له غليل، بَلْهَ الكراهية التي كان يلاقيها هؤلاء بوجهٍ عام.
قرر أبناء الجبل — أكثر من مرة — إعلان الثورة. إلا أن عدة نصائح (ولا أريد أن أطنب في مدح نفسي لأنني أسديت قسمًا كبيرًا منها) قد أرجعتهم عن عزمهم وتصميمهم. كان يسعنا القول عنهم — لو تمادَوْا في ضلالهم — إنهم يفتشون عن حقهم، ولكن إلامَ قادهم بعد ذلك صبرهم؟ ففي تلك الحالة التي قلقت فيها الخواطر، كانت دعاية أي حزب كان — مهما ضعف شأنه — تفعل في الجبل فعل الكهرباء إذا ما سُلطت على مادة قابلة الالتهاب.
وكان الأمير بشير يشاطر رعيته عاطفتها هذه، ويضمر للمصريين البغضاء نفسها التي يضمرها لهم رجاله، بَيْدَ أن التجارب والاختبارات الواسعة ألزمته أن يكون حكيمًا لبقًا. كثر أعداؤه حتى إن قصره نفسه كان يضم عددًا كبيرًا منهم يُحصِي عليه حركاته وسكناته؛ وهكذا لم يستطع أن يقوم بأي عمل كي لا يبحث عن حتفه بظلفه. فلو تقيَّد الأمير بأوامر قائد الأسطول الإنكليزي لكان قُضي عليه منذ مدة طويلة؛ لأن سلطة المصريين كانت لا تزال على أشدها في سوريا.
إن حياة الأمير حياة عاصفة، وإذا كان قد استطاع النجاة من الأخطار التي تعرَّض لها؛ فذلك يعود إلى حذره الكبير. فالحكمة قضت على الأمير بشير أن يكون باغيًا ظالمًا؛ لقد حكم في مرحلةٍ من الزمن هي أدقُّ مراحل تاريخ الجبل وأصعبها. وأما الذين ينعون عليه تصرفاته فهم أولئك الذين لا يعرفون موقفه حق المعرفة ويجهلون دياره.