الفصل السابع والثلاثون
تعود الأمراء والأميرات أن لا يلبسوا ثيابهم العادية إلا مدة ثمانية أيام أو عشرة على الأكثر، ثم يهبونها إلى رجال حاشيتهم فتكون بمثابة أجر لهم، فالقمصان والسراويل وجميع أصناف البياض حتى الشراشف لا تُغسل، بل تُستبدل بغيرها عندما تصبح غير نظيفة.
كانت ملابسهم اليومية بسيطة؛ فهم لم يعرفوا البذخ فيما كانوا يرتدون من ثياب يومية. وهذه العادة التقليدية لم تلاحَظ إلا في قصر الأمير الكبير. أما الأمراء الآخرون فلم يفكروا في اتباعها؛ نظرًا لضيق اليد في الحالة الحاضرة.
تسنَّى لي أن أعود أميرًا مريضًا فوجدته يدخِّن في سريره وفوقه ناموسية لم تُغسل منذ أمد بعيد. كان فراش سعادته مبسوطًا على مقعد في وسط الغرفة، ولما سألته عن سبب هذا الترتيب، أجاب أنه فعل ذلك لكي يحظى بأكبر قسط ممكن من الطراوة والبرودة. كان الأفضل إذنْ أن لا يختبئ تحت ناموسيته فيملأها دخانًا ويرفع بذلك درجة حرارته.
الأمراء تُقبَّل أيديهم، والأميرات اللواتي هن من عائلة واحدة يُقبِّل بعضهن البعض الآخر، والزوجة تُقبِّل زوجها.
تعيش الأميرات في قصورهن عيشة فراغ وبطالة، فلا ينشغلن إلا بما ترويه لهن النساء الخفيفات الروح من أقاصيص وأخبار طريفة، ونوادر ظريفة. لقد تعلَّمن القراءة والكتابة، وفي ذلك خروج على العرف العام الذي يمنع تثقيف النساء. وبعدُ، فماذا تنفع القراءة في بلاد لا جرائد فيها ولا مجلات ولا كتب؟
إنهن لا يقتنين إلا التساعيات (كتاب صلوات). أما معرفتهن الكتابة فتنفعهن في مخاطبة من استأجروا أملاكهن، وهذا النوع من الكتابة لا يلذ ولا يمتع.
ولا يخرج الأميرات والأمراء من السراي دون أن تحف بهم حاشية كبيرة، ولا يزورون مَن هم دونهم مرتبة ومقامًا. والنساء يمتطين الخيول كالرجال أنفسهم، وحينذاك يسبقهن ويحيط بهن عدد كبير من المشاة ليعدوا لهن الطريق ويُفسحوا المجال أمامهن.
والذي حزَّ في نفس الأمير بشير وآلمه، وكان منه على مضض إبَّان الاحتلال المصري، هو اضطراره إلى ترك مظاهر الأبهة والعظمة. كان قد تعوَّدها ورُبِّي عليها صغيرًا، وكانت تليق به، ولكن اللياقة قضت عليه بتركها مجاملةً لإبراهيم باشا ذي العادات والمظاهر البسيطة. وهناك سببان حملا إبراهيم باشا على التخشن: الأول صحي، والثاني فطري يمليه عليه ذوقه.
ضحَّى الأمير بملابسه الفضفاضة، وعمامته الكبيرة، وجميع ما كان له من متاع يدل على عظمة حقيقية يتحلى بها أمير كبير، وإني لواثق من أنه قد بدا له — حين أقلع عنها — أنه فقد ثلثي سلطانه ونفوذه؛ فالرجل العادي الذي تعوَّد رؤية الأمير بشير بملابس شخص ذي أُبهة وجلال لا يُحس بما كان يُحس به من مهابة إذا ما التقاه مرتديًا هذه الثياب البسيطة. أما عند المصريين فالأمر بخلاف ذلك؛ فالأونباشي يلبس البدلة التي يرتديها القائد العام. والشارات — وحدها — هي التي تدل على التفاوت في الدرجات.
احتار الأمير بشير في بادئ الأمر عندما اضطُر إلى اقتفاء أثر إبراهيم باشا. كان يهمه أن لا يجرح شعور القائد العام الذي اشتُهر وعُرف عنه أنه ينفعل ويثور لأقل بادرة. ومن لا يذكر مصير المعلم غالي المؤلم، مع أن منزلة هذا الرجل في مصر لم تكن دون مقام الأمير بشير في لبنان؟!
كان الأمير يشرب القهوة ذات ليلة بعد العشاء، وهو غارق في تخيلاته وسط زوبعة من دخان غليونه، وبينما هو يفكر بالدسائس التي تُحاك، ولا يمكن أي رجل أن يدرك ما تؤدي إليه نتائجها وعواقبها، إذا هو يفاجأ بنبأ زيارة إبراهيم باشا له. نزل عليه هذا الخبر نزول الصاعقة؛ لأنه لم يكن يعرف القائد المصري بعدُ معرفةً تمكِّنه من إدراك الغرض من هذه الزيارة. لقد ضعضعت اضطرابات الجبل الأمير بشيرًا وأذلته حتى كادت تضطره إلى أن يفتش عن عضد له بين الأجانب. كان يجهل تمامًا أنهم لا يزالون يقدِّرونه حق قدره ويعتبرونه مفتاح سوريا.
قال له إبراهيم باشا فور دخوله — وكان غير متكلف في حديثه وهندامه — إنه أتى ليقضيَ السهرة عنده ليس إلا، فأعرب له الأمير عن سروره العظيم والشرف الذي أولاه إياه بهذه الزيارة. قال كل ذلك بتعابير فخمة، وأسلوب جبلي جذاب، وتبجيلات وتفخيمات اعتقد أنها تسر البطل الإغريقي.
وكان من حسن الحظ أن يجيد إبراهيم باشا العربية. إنه لا يشارك أباه كراهية التحدث بهذه اللغة، ولولا ذلك لكانت المباحثات مملة قتالة، ولانحصرت أحاديث السهرة بالتبجيلات والتعظيمات أو بنفثات من الدخان تتصاعد إلى أفق القاعة من كل جانب. إن تدخين الغليون يلعب دورًا هامًّا في الاجتماعات الشرقية، فإذا تعب المدخن من مج الدخان ينفخ في غليونه، أو تقطع غرغرة النارجيلة — بين آونة وأخرى — سكينة تلك السهرات المملة.
ثم رأى الأمير أن يرد الزيارة للباشا في مساء اليوم التالي، رغم رؤيته إياه عدة مرات خلال النهار. ولما كان إبراهيم باشا لم يصطحب غير خادم واحد عندما زار الأمير، دالًّا بذلك على مقدار تواضعه العميق، أو ليظهر — على الأرجح — أنه دون الأمير قدرًا، فقد رأى الأمير أن يذهب إلى مخيم القائد المصري وحده.
وبعد أن قضى هنالك بعض الوقت، همَّ بالرجوع إلى مقره، ولما كان لم يتعوَّد السير ماشيًا منتعلًا خفًّا (سكربينة) عثرت رجله ببعض الحجارة وعلق العوسج بأذياله، فسقط على الأرض.
انطفأ المشعال الذي كان يحمله بيده، فارتاب من كانوا يراقبونه في هذا الحادث، وخافوا أن يكون قد أصابه سوء، فأنبأوا إبراهيم باشا بالأمر، فهرع القائد لينجد الأمير الذي كان يفتش عن مشعاله وسكربينته.
•••
الأمراء والأميرات يتناولون الشراب والقهوة قبل غيرهم. وإذا ما التقى عدة أمراء من مقام واحد وفي مكان واحد، فالقهوة تُقدَّم لهم جميعًا في وقتٍ معًا؛ تلك هي العادة التركية. ويقف الأمراء علامة الاحترام لجميع الذين يُقبِّلون أيديَهم، ما عدا العوام.
أما مآدبهم فصحية بسيطة، وترتَّب هكذا: يُبدأ بتنظيف الحصير، ثم تُبسط فوقه قطعة من القماش الأبيض مزركشة أطرافها وقد دبجت عليها عدة رسوم، ثم يضعون في الوسط إسكملة يبلغ علوها حوالي ٣٥ سنتيمترًا، ثم يؤتى بطبق مستدير من النحاس (الصدر) يراوح قطره بين المتر والمتر والنصف حسب عدد الآكلين، ثم يُكدس الخبز على الشرشف بمقدار يزيد عشر مرات على الحاجة المطلوبة؛ وتلك عادة مرعية عند جميع العرب، وهي دليل الوفرة والسعة والكرم. ثم يُملأ الطبق حالًا بقصع عديدة مختلفة الحجم والشكل والجنس، محتوية على الطيور أو اللحم، وكثير من المقبِّلات التي تكون من الزيتون، والسمك المكبوس بالخل، واللبن، وأخيرًا بقصعة كبيرة من الأرز المفلفل، ثم تُوزَّع ملاعق خشبية عريضة مسطحة ليأكل الحاضرون من الأرز واللبن، فتجول هذه الملاعق الغليظة، كما يشتهي الآكل، من صحن إلى آخر. الجميع يتناولون — بملء حريتهم — ما يرغبون فيه من مختلِف الصحون، ولا تكاد تفرغ تلك الصحون والقصاع حتى تُملأ ثانية لحمًا مشويًّا وسلطة.
لا يضعون مع هذه الألوان من الأطعمة إلا قليلًا من الجبن، وعندما يشبع المدعوُّون ينسحبون بنظامٍ واحدًا بعد واحد، فيحل محلهم الخدام. وأخيرًا ينهض الأمير فيقدمون له طستًا وإبريقًا من النحاس ليغسل يديه اللتين تكونان بحاجة كبيرة إلى ذلك؛ لأنهما قامتا مقام الشوكة والسكين والملعقة في تناول الطعام. وكثيرًا ما يقدم الواحد من هؤلاء إلى ضيفه قطعة من اللحم بعد أن يكون قد قضمها بأسنانه؛ وهو لا يفعل ذلك إلا برهانًا على الإعزاز والمحبة العظيمين.
وعندما يغسل الجميع أيديَهم يكرُّون مرة ثانية على الطبق لتناول الحلويات، وقوامها المربيات والثمار والمهلبية. وهذا اللون الأخير من الحلوى لا بد منه في كل مأدبة ذات شأن.
وفي أثناء تناول الطعام لا تُصب الخمر أبدًا، ولكنهم يشربون الماء من إبريق ذي أنبوب يصب منه كل واحدٍ في حلقه ما يريد من ماء، مبعدًا الأنبوب عن شفتيه نحو عشرة سنتيمترات أو عشرين سنتيمترًا أو ثلاثين.
عندما تخرج الأميرات من دورهن تحدق بهن من الجانبين امرأتان تخالهما دعامة لهن. وهاتان المرأتان هما الوصيفتان، ولا عمل لهما غير المرافقة والتزيين والتجميل.
أما فيما يتعلق بمجالس الأمراء، فالمجاملات توجَّه إلى أكبر الأسرة سنًّا، وهو المكرَّم قبل غيره. والأمراء الباقون يقرُّون له بهذه المكانة ويتخلَّوْن له عنها؛ فتُقدَّم له المآكل والمشروبات قبل سواه. وإذا ما اتفق وجود اثنين من سن واحدة ومرتبة واحدة، فهنالك المشكلة العظمى لأن كلًّا منهما يضن بكرامته ويأبى أن يُمس شعوره ولو بعض الشيء.
وإذا مات أمير أو أميرة من آل شهاب، فالدروز يتولَّوْن مهمة دفنه أو دفنها، وإن كان الأمير أو الأميرة مسيحيين. هذا تقليد يراعى حتى الآن؛ فالكهنة ينسحبون من جانب المُحتضَر فور انتهائهم من مهمتهم ليفسحوا للعقال في مجال حمله ودفنه في الرمس المخصص لأبناء هذه العائلة. إنهم يفعلون هذا تقيَّةً وحذرًا من السلطة التركية، فكأنهم يريدون بهذه الطريقة أن يَحُولوا دون تمكين الدروز والمسلمين من إثبات مسيحيتهم، مع أنه لا أحد يجهل ذلك.
وهناك قضية جديرة حقًّا بالتأمل والاستغراب، وهي أن هؤلاء الأمراء الذين أجلَّ الإسلام أسلافهم واحترمهم (إنهم يتحدرون من سلالة النبي نفسها)، والذين جحدوا إسلامهم — وجحودهم هذا معروف في ديوان القسطنطينية — قد تمكَّنوا من المحافظة على امتيازاتهم القديمة، وخصوصًا امتياز الحكم، دون أن يستطيع الدروز — رغم دهائهم ومظهرهم الإسلامي — أن ينازعوهم هذا الحق.
شاء العرف قديمًا أن يكون مأتم الأمير أو الأميرة من آل شهاب مأتمًا فخمًا، فتستمر المناحة عدة أيام. وهذا تقليد للعادات العربية في الصحراء؛ كان يُدعى إلى المأتم أمراء العائلة وأبناء القرى المجاورة، وتُستأجر النادبات البارزات مقابل أجر ضخم؛ فالبكاء والعويل وأناشيد المديح التي تُغنَّى بلحن محزن كئيب، هي المهمة التي تقوم بها هذه الجوقة على أتمِّ وجه. وفي أوقات الاستراحة من الندب والعويل تُمثَّل بعض مشاهد من حياة الفقيد. كانوا يُلبسون شخصًا من خشب أجمل ثياب الأمير، ويدججونه بالسلاح من قمة رأسه حتى أخمص قدمه، فيحضر هذه الحفلات وقد حفَّ به عدد غفير من رجاله. يستعرض — إذا جاز لي هذا التعبير — جميع رجاله مسلحين، فيمرون أمامه اثنين اثنين، تتبعهم جياده مجهَّزة بعدتها، وقد جللت سروجها بقطع سوداء من القماش. ثم يحملون هذا الشخص على محمل ويطوفون به جميع أنحاء القرية، إما ليشهد قتالًا أو سباق خيل، وفي أكثر الأحيان ليحضر الولائم وتناول المرطبات، وخصوصًا القهوة التي لا يُستغنى عنها … إن جميع هذه المشاهد كان يرافقها تفجع وصراح حاد تتبارى فيه النساء. إن هذه المآتم التي كانت تكلِّف الأسر مبالغ باهظة قد أدَّت إلى خراب العائلات، وكثيرًا ما كانت تنتهي بمشاجرات دامية.
أدرك ذلك الأمير بشير فألغى هذه التقاليد بعد موت أخيه، منذ حوالي ثلاثين سنة تقريبًا، ولم يبقَ لها من أثر إلا عند آل الخازن الذين يتحدرون — حسبما يقولون — من أصلٍ شريف جدًّا. وهناك أمراء آخرون، لا يمتُّون إلى الأمير الكبير بصلة قربى، لا يزالون يراعون أيضًا هذه العادة القديمة.
لا يحدُّ الأمراء على أحد أبناء عائلتهم أكثر من أربعين يومًا مهما كانت درجته، أو نسبة القربى التي تربطهم به. أما حِداد الأميرات فعلامته نزع بعض الحلى والمجوهرات التي تزين الرأس والعنق، وخلع الملبوسات ذات الألوان الزاهية الزاهرة. وإذا كان المُتوفَّي أُمًّا أو أبًا أو زوجًا، فإنهن يرتدين قميصًا مصبوغًا باللون الأزرق. أما سكان إقطاعة المُتوفَّى فيُجبَرون على لبس الثياب السوداء اللون، ولا تُستثنى من ذلك القمصان التي لا تُخلع ولا تُبدَّل إلا بعد انقضاء أربعين يومًا.
إن نفقات هذا الحِداد تؤدِّيها عائلة الأمير المُتوفَّى، فترسِل إلى من شاركوها حِدادها كل ما يلزم حتى الصابون ليغسلوا ثيابهم التي لبسوها بِناءً على رغبتها.