الفصل الرابع
المدافن هي أول ما يقع عليه النظر عند الخروج من باب السراي. ففي جميع المدن التركية لا يفصل بين مقر الأحياء ومقر الأموات سوى حائط السور الكثيف وعرض الطرقات.
إن سبب هذا القرب الذي لا يجهل العرب مساوئه لأنهم ملمُّون بعلم الفيزياء والصحة؛ عائد — بلا ريب — إلى الاعتقاد الذي يوجب الإسراع بدفن المؤمن؛ لأن ملاك الموت ينتظره في اللحد لاستماع استجوابه الأول.
وهنا يجب أن نذكِّر بالمثل السائر الذي وضعه موليير شعرًا:
عرفت في أماكن شتى من سوريا أشخاصًا يطلَق عليهم اسم ابن الميت أو الميتة؛ لأن أباهم أو أمهم قد انتُشلا حيَّيْن من المقبرة.
تُزار القبور عندهم كثيرًا، والنساء أكثر زيارة لها من الرجال، كما أن في جعْلها حول المدن، وعلى مرأًى من الجمهور، تسهيلًا لمهمة الزائرين، ومحافظةً على الحشمة التي قد تُهتك في الأماكن المنزوية.
وإلى أول جمعية صحية تألفت في بيروت، يعود الفضل في منع دفن المسيحيين في دهاليز كنائس المدينة.
في الساحة الواقعة عن يمين باب السراي كان يقوم — فيما مضى — بستان فخر الدين. وأظن أن كاتبًا قديمًا سبقني إلى وصفه. إن كل منتوجات أوروبا وآسيا كانت تتكردس في هذا المكان.
ومن جملة الزخارف التي ابتدعها الذوق، كان يُرى في ذلك المكان عدد كبير من التماثيل. إنه لشيء غريب حقًّا! فهذا الأمير كان درزيًّا أو مسلمًا، وكلتا الديانتين تقضي تعاليمُهما الدينية بالابتعاد عن هذا الجمال المثالي.
وبعدُ، فمن يدري؛ فقد تكون تلك التماثيل غير كاملة؛ أي نصفية، وقد لا يكون هنالك منها إلا التماثيل النصفية. وهذا ما يغير عند ذاك وجهة النظر.
وإذ كنتُ رأيتُ في الجزائر بعض المسلمين الذين لا تردعهم وساوسهم من اقتناء علب تبغ نُقشت عليها تصاوير جميلة جدًّا، بحثتُ عن الأسباب التي تُحرِّم عند البعض ما يُحلِّله البعض الآخر، فأنبأني أحد الأفندية أن التماثيل الكاملة التي تمثِّل الأشخاص كما لو كانت في حالتها الطبيعية هي وحدها الممنوعة؛ ومن ثَمَّ فلا حرج عليهم — عند الضرورة — اقتناء تصاوير رجال ونساء شرط أن تكون نصفية. وهذه الصور إذا ما أوقفت عند هذا الحد لا تمثل أجسادًا يمكنها الحياة، وأما التماثيل الكاملة فاقتناؤها جسارة تتنافى والحشمة، وهي مشجوبة على الغالب.
وهكذا فإن فخر الدين الدرزي — المتظاهر بالإسلام — قد استطاع أن يوفِّق بين أمياله وأوهام بلاده التي لم يشأ أن يصطدم بها.
ويقال إن هذا الأمير أفرط في البذخ؛ فكانت له جنينة تجمع غرائب الحيوان، وإن الأقبية المعقودة، الموازية للقصر، التي لم تُمس واجهتها حتى عام ١٨٣٨ كانت تُستخدم لإيوائها. إلا أنه يرجح أيضًا أنها كانت إصطبلًا.
اقتضى — بسبب انحدار الأرض وميلها — أن تكنون جنائن الأمير متعددة الأشكال؛ كان يحدها من الجهة الجنوبية الشرقية برج الكشَّاف وسلالمه الجميلة التي شوهدت بقاياها عام ١٨٠٨، والتي تدل على أن الأمير غالبًا ما كان يزور البرج. أما المنظر من أعالي هذا البرج فهو بديع جدًّا.
إن سهول بيروت مغروسة كلها أشجار توت أبيض. وهذه هي الشجرة الوحيدة التي تنمو في التربة الرملية الجافة. وهذا ما دعا إلى الاعتناء بها بصورة خاصة؛ إذ إن أغصانها تنمو خلال سنة واحدة.
ولهذه الغاية يقطعون جميع أغصانها في شهر أيار، حتى إذا ما نبتت أغصانها مجددًا في إبان الصيف انتُزعت في الخريف أوراقها وكانت علفًا للمواشي، تم تتفتق براعمها في مطلع الربيع ويبلغ نموها في أيار أشُده، فتكون طعامًا لدود القز الذي ترتكز الصناعة الأساسية عند البيروتيين على ما ينتجه من الحرير.
بنيت — بادئ ذي بَدء — بضعة أكواخ في ضواحي المدينة لتربية دود الحرير. وعندما ابتدأ ساكنوها يُمنُّون أنفسهم بقليل من الاطمئنان دفعتهم ثقتهم بالسلام إلى تشييد بنايات أكثر رحابة، وقد أصبحت البيوت التي تُشاهَد اليوم هناك أجمل بيوت الضاحية، أما تلك الأخصاص فلا يرجع عهدها إلى أكثر من ثلاثين سنة.
ثم أخذ المسلمون ينافسون المسيحيين حتى لم يعد يُرى سوى القليلين من السكان الذين لم يشتروا ولو بضعة أمتار من الأرض لتشييد برج «كذا» عليها.
يجب أن نُبتلى بحرارة المدينة لنقدِّر الطراوة القليلة التي ينشدها البيروتيون في هذه البساتين، هذه البرودة التي تهب عليها تارة من البحر، وحينًا من جبال لبنان فتدفعها جدران محمومة ملتهبة. إن هذه الجدران مبنية بحجارة رملية، وهي بطبيعتها تنقل بوقتٍ واحد الحرارة والرطوبة؛ وهذا ما يجعل بيوت المدينة غير ملائمة في الفصلين القاسيين. إنها أتاتين حقيقية في الصيف.
قلما نجد في بساتين بيروت أشجارًا مثمرة. لم يَحُلْ جفاف التربة وحده دون ذلك، بل هنالك سبب أهم وهو تقسيم الأرض فيما بينهم. إنهم يضيِّقون بهذه القسمة على بيوتهم؛ فلا يكون لكل شخص طريق تؤدي به إلى منزله، ومَن لا يملك طريقًا كيف يملك جنينة؟!
وأشجار ضواحي بيروت قليلة الأنواع، نجد منها شجر الأزدرخت الذي يوافقه مناخ بيروت كل الموافقة، وشجر الخروب والسنديان والزعرور والبطم، أما الصبَّار فموجود بكثرة، والشعب بكامله يقتات بثماره طوال ثلاثة أشهر كاملة.
وفي الناحية الغربية بساتين كبيرة من التين لا يقل نوعها جودة عن تين بروفانس وكالابره الممتاز. وجميع هذه الأشجار يؤثر فيها جفاف التربة، فلا ترتفع إلى أكثر من ثلاثة أمتار أو أربعة.
إن الجُمَّيزة التي تهزأ بحرارة الشمس تنبت أيضًا في حقول بيروت، ونجد منها أشجارًا ضخمة الجذع غير متطاولة الفروع؛ لأن الأغصان التي نراها لا يزيد عمرها على خمس عشرة سنة.
عرفت البستان الذي تزينه شجرة الجُمَّيزة الجميلة، ثم تأثرت جدًّا عندما رأيتها تهوي بِناءً على طلب محمد علي الذي شاء عبد الله باشا أن يُرضيَه آنذاك. إنه كان بحاجة إلى كمية كثيرة من هذا الخشب ليصنع آلات جديدة يخبط بها الأرز؛ فقدم له باشا عكا جميع ما كان في البلاد من هذه الأشجار، فكان يوم قطعها مأتمًا في ضواحي بيروت؛ فالنظر الذي تَعوَّد رؤية هذه القباب الجميلة الخضراء لم يرتَحْ إلا بصعوبة إلى ذلك الفراغ الذي حدث عندما فُقدت.
وهذه الجُمَّيزة الواجب غرسها لا قطعها لم تكن ضرورية لتجميل الضاحية فحسب، بل كانت تتفيَّأ الجماهير في ظلال أغصانها الوارقة، بعد أن يدفعها قيظ المدينة، فتلتمس عند المساء هواء البرِّيَّة العليل.
كثيرة هي الأشجار التي استحالت مقاهيَ وفنادقَ في الهواء الطلق. إن السائحين ذوي الفاقة، أو أصدقاء الطبيعة الجميلة، كانوا يتألَّبون عليها زرافات زرافات، ويجدون في جلوسهم تحت قُبتها الخضراء ملجأً يَقيهم حرارة شمس النهار وندى الليل.
إن الجُمَّيزة الوحيدة التي صمدت أمام فأس عبد الله باشا الهدَّام هي الجُمَّيزة التي نجدها في باب السماطية إلى الغرب، والفضل في بقائها وسلامتها يرجع إلى واقعة دلت على أنه بقليل من الحزم يمكن أن يبلغ صوتنا مسامع الظلم.
وجدوا مسلمًا — حين همُّوا بالقطع — يمسك بجُمَّيزته وهو يُقبِّلها، وعندما أبلغوه وجوب انسحابه وإفساح الطريق للذين يقومون بأعمال القطع، أجاب: «إنكم لا تستطيعون أن تقطعوها قبل أن تقطعوا رقبتي؛ لقد كلفتْني جميع ثروتي!»
إن هنالك بعض المسلمين الأتقياء الذين يهتمون بترك مآثر خلفهم تقدس ذكراهم وتستمطر لهم نعم العزة الإلهية؛ فالشرقيون اعتادوا أن يسألوا الله الرحمة لفاعل الخير الذي يقدِّرونه حق قدره.
وغارس هذه الجُمَّيزة كان من عدد أولئك الأتقياء؛ فقد رأى هذا الرجل الصالح أن الشيء النادر — لدى الخروج من هذه المدينة — هو الظِّل، فغرس شجرة توفِّر الكثير منه لعابري السبيل فيترحَّمون عليه.
غير أنه بعد انقضاء قليل من الوقت صحت عزيمته على القيام بفرض الحج إلى مكة، فكلف أحد أصدقائه — بعد أن استحلفه — الاعتناء بالشجرة.
وعندما عادت القافلة ولم يرجع معها صاحب الجُمَّيزة، بردت هِمة متعهِّد هذه الشجرة، وكاد أن يقف مواصلة نفقاته التي ظن أنه لا يستردُّها، إلا أن شخصًا قادمًا من الحج حمل إليه توصيات جديدة من صاحب الجُمَّيزة، وأكَّد له عودته بعد قليل من الزمن؛ لقد اضطر أن يقوم برحلة إلى خليج فارس، وسيعود قريبًا عن طريق بغداد والشام.
ثم طالت الغَيبة أكثر من المنتظَر، ولكن الرجل رجع أخيرًا، ودنت ساعة الحساب ودفع المصارفات فتخاصما وانتهيا إلى التقاضي.
كان ما يطلبه الصديق من صاحب الجُمَّيزة مبلغًا لا يُستهان به؛ لأن تقلبات الطبيعة والجفاف جعلا الماء عزيزًا، والشجرة كانت تسقى منذ زمن طويل.
أما الضابط الموفد من قِبل عبد الله باشا، فقد أدهشته هذه الحكاية، فعفا عن الشجرة التي خالها مرصودة؛ فسلمت، ولم يحاول أحد اقتلاعها حتى بعد موت حاميها المدافِع عنها.
وتجاه هذه الجُمَّيزة يجري ينبوع قام بدفع نفقاته مسلم آخر. ذلك بأن صاحبها الأول وهب هذه القطعة للفقراء عند موته، ناذرًا أن تُحوَّل إلى أرض تسقى، وإنفاذًا لوصية هذا المحب للإنسانية اشترَوْا سهمًا من مياه المدينة وأجرَوْه ينبوعًا في ذلك المحل المطروق الذي لم يكن فيه سوى آبارٍ ماؤها أُجاج.
أما في تركيا، فالخاصة وحدهم يقومون اليوم بقليل من عمل الإحسان.
وبين المساكن القائمة في ضواحي بيروت مسكن موظفي جمعية التوراة اللندنية الذين ينشرون كتب التوراة المنقولة إلى اللغات الشرقية، إما هبةً، أو وبيعًا. وهؤلاء السادة يؤلفون فرعًا من مؤسسة مالطة التي تمدهم بالكتب والمال. إنهم لا يكتفون بالتبشير بكلام الله ليلتفَّ حولهم المشايعون والأنصار، بل يُحسنون استغلال ضعف البشر؛ يعرفون أن التوفيق يحالفهم أكثر إذا ما التجَئوا إلى دفع المال؛ فيبذلونه في سبيل نشر دعوتهم. إنهم يشركون نساءهم في التبشير والوعظ، فيوحي جمالهن إلى الموعوظين محبة الأرض أكثر من محبة السماء …
ولو كان أصحاب التوراة يبشرون بدعوتهم بين المسلمين والنصيرية والدروز؛ لكنَّا شكرنا لهم هذه النخوة بإرشاد غير المسيحيين وهديهم، إلا أنهم لا يهتمون إلا بالمسيحيين، حتى إذا ما وُفقوا إلى انتزاع واحد منهم، خلقوا البلبلة في العائلة والشقاق والفتن الكبيرة.
اقترح أحد مبشري التوراة على مسلم تربطه به علاقات وثيقة أن يعتنق الدين المسيحي، ولمَّا كان هذا الأخير فطنًا، أجابه: «نعم، إني أوافق على ذلك عندما تثبتون لي أي المذاهب المسيحية: من الأرمنية، والروم، والسريانية، والكلدانية، والقبطية، والإنكليكانية، واللوترية، والكلفينية؛ هو الأفضل.»
إن «بوسيه» لا يشعر بحرج موقفه في إجابة هذا المسلم على سؤاله هذا، ولكن مبشري التوراة في سوريا ليسوا من الملافنة العظام.