الفصل التاسع والثلاثون

الإرساليات الأوروبية في لبنان

قلنا في أماكن شتى من هذا الكتاب إن بعض المرسلين الأوروبيين جاءوا لبنان واستقروا فيه ليؤدوا رسالة ثقافية بين الشعوب المسيحية التي تسكنه.

أما المنافع التي جنتها هذه الطوائف من حلول هؤلاء المرسلين بين ظهرانيهم فمشهورة ملموسة؛ فأكثر هذه الطوائف ليس لديها من الكهنة إلا عدد يسير جدًّا، وهي لا تستطيع أن تمارس طقسياتها بحرية إلا في أماكن مارونية بحتة.

فاللبنانيون كانوا يقدرون مرسلينا حق قدرهم حتى أخذوا يتلمسونهم وينشدونهم بلهفة أينما كانوا. ولما كان هؤلاء المرسلون بعيدي الهمة يواظبون على تأدية رسالتهم بأمانة وإخلاص، فقد تمكَّنوا من استمالة الذين رغبوا فيهم، واجتذبوهم نحوهم بما أبدَوْا من غَيرة.

وإلمام هؤلاء المرسلين بالطب مهَّد لهم سبل التقرب — بادئ ذي بدء — من الزعماء الدروز والمسلمين الذين كانوا يحكمون تلك البلاد. فما كادوا يستقرون فيها حتى شرعوا بتشييد «مرساليات» يحتاج إليها المؤمنون الذي سخَّروا أنفسهم لتشييدها. أما العمال الذين كانوا يتقاضَوْن أجرًا فقد تبرع بدفعه لهم الأمراء والموظفون عندهم.

ولا أرى أن اليسوعيين هم أول من قاموا بهذه الرسالة في لبنان، وإن كان مؤلف كتاب سوريا المقدسة ينبئنا بأنهم حملوا إلى الجبل، عام ١٥٨١، قوانين مجمع ترانته. وبرهاني على ذلك هو أن مذكرات الإرساليات الجديدة — وقد كتبها اليسوعيون أنفسهم — تشير إلى أن أول إرسالية يسوعية كانت في حلب، وأنهم أقاموا فيها عام ١٦٢٥.

إن كتاب سوريا المقدسة المطبوع عام ١٦٦٠، يحدثنا — فيما عدا ذلك، حين يتكلم عن الكبوشيين — عن أن مدينة بيروت كانت منذ مدة طويلة مركز إقامة هؤلاء.

فأنا إذنْ أميل إلى الاعتقاد بأن الكبوشيين هم أول من عُرفوا في لبنان. ولقد تركوا فيه تذكارات لا تُمحى ولا تُنسى، وشيدوا فيه عدة مآوٍ للفقراء؛ فمنها ما شُيد في بيروت، وفي غزير، وفي صليما، وفي عبيه.١ وتاريخ إنشاء جميع هذه المؤسسات يعود إلى عهد قديم جدًّا.

أسس هذه الإرسالية كبوشيو بريطانيا. وعلى إثر وفاة آخر رئيس لهم في عبيه شاء شيخ درزي أن يُعرب علنًا عن تقديره العظيم نظرًا لما اشتُهر عنه من فضيلة، فقبَّل يده عندما دخل الكنيسة المعروضة فيها الجثة، ثم خاطبه بهذه الكلمات المؤثرة: «إن وفاتك لتُحسد عليها!» ثم حوَّل نظره إلى تلاميذه الذين تبعوه وقال لهم: «تعلمون سيرة حياة هذا القديس، فخذوها إذنْ نموذجًا لكم.» ثم هنأ الذين حضروا هذا المأتم بأن يكون رئيسهم قد بلغ هذه الدرجة السامية من الاحترام.

إن هذا الراهب الشهير يُدعى يواكيم، وقد تُوفِّي في مستهل هذا القرن.

قلت فيما سبق إن المرسلين استقروا — بادئ ذي بدء — في البلدان التركية بوصفهم أطباء. والأمم التي كانت تناهض أعمال هؤلاء المبشرين بالدين المسيحي وتقاومها لم تكن تراعي غير المنفعة التي يمكنها أن تجنيَها، ولم تكن تفكر قط بما يرمي إليه هؤلاء.

قام المرسلون بخدمات جُلَّى في البلدان التي سكنوها؛ علَّموا فيها أصول الفنون الهامة، وكانوا رسل صلح وسلام ففكوا أكثر مشاكل المنازعات الداخلية. وهذا ما مكَّنهم من أن يعيشوا نبلاء وشرفاء؛ لأن الناس كانوا يعترفون بفضلهم دائمًا. أما اليوم فقد تغيرت الحالة كل التغير.

إن الأمور البشرية تتعرض لكثير من التقلبات؛ فالمهمة الأولى القديمة أخذت تخف وتتضاءل، والمرسلون الذين كانوا يقومون قديمًا بكثير من الحسنات أصبحوا اليوم تقريبًا غير مبالين بكل ما له علاقة بالقضايا الدينية. لم يعد يهم أحدًا منهم إلا منفعته الشخصية ومصلحته وراحته. وإذا استمرت الحال على هذا المنوال أصبح المرسلون لا قيمة لهم، لا بل يحقرون الأمة في نظر الشرقيين الذين أخذوا يلومون بجرأة من كان على شاكلتهم من الكهنة، ويقولون علنًا إن الديانة اضمحلَّت في أوروبا في هذا الزمن. ففتور المرسلين في تصرفاتهم ومسلكهم قضية غامضة. كانوا يُلاقُون قديمًا كثيرًا من المشقات، فيقاومهم الملحدون والهراطقة والمنشقون عن الكنيسة. أما اليوم فتلك الكراهية التي تعرَّضوا لها قد ذهب الكثير منها؛ وهذا ما يحملنا على الاعتقاد بمرارةٍ بأنهم إذا كانوا لم ينهضوا بالأعباء الملقاة على عاتقهم، فذلك يعود إلى ضعف في الإيمان، وفتور في الهمة لنصرة الله وسمو الديانة.

صحيح أن مصاعبَ وظروفًا عديدة مؤلمة قد حالت دون قدوم هؤلاء المرسلين الجدد؛ فقد أتَوْا — وهم يجهلون اللغة العربية — في زمن ليس الناس بحاجة إليهم، فإذا بهم — وهم محرومون أسباب العيش — يستغيثون بالناس ليعيشوا. كان قد ضعف تعلق هؤلاء بهم، ناهيك بأن الأهلين قد أصبحوا فقراء بسبب بؤس البلاد وتعاستها.

ففي هذه الظروف الحرجة أوحت القدرة الإلهية إلى النفوس الكريمة في فرنسا بتأسيس معهد يعمل في سبيل انتشار الديانة. إن الله وحده يعلم كم آوى هذا المعهد من مسيحيين، وكم ثبَّت من أناس في عقيدتهم، وكم ضاعف عددهم بضمه إلى الكنيسة أناسًا أبعدتهم عنها ضلالات تعسة، أو أولادًا كانوا جد غرباء عن الدين.

فلهؤلاء ولأمثالهم يقول ملاك السماء: إن السلام على الأرض يكون لذوي الإرادة الحسنة. فليفخر إذنْ هؤلاء المرسلون لأنهم هم عزاء الجنس البشري، وخشبة نجاةٍ لعددٍ لا يُحصى من البشر. ماذا أقول؟ ألوف وملايين من البشر! المجد المجد لهم على الأرض وفي السماء! وسوف لن يُحرموا مكانًا إلى جانب الذين كانوا على الأرض مثلهم محبي الإنسانية وناشري الإيمان بهمة لا تعرف الملل.

وإذا كنا نفتقر إلى الكبوشيين الفرنسيين في سوريا، فلا نزال نملك على الأقل الآباء اللعازاريين، أبناء وطننا الذين استعادوا إرساليتهم في عينطوره، وقاموا بأعمالهم المجدية، فقدَّرها الناس جميعًا حق قدرها؛ أسسوا مدرسة كبيرة في ديرهم، وهذا المعهد يزدهر ازدهارًا مطَّردًا؛ فأخرج عددًا لا يُحصى من الشباب المثقف ومن مختلِف الطوائف دونما نظر إلى المعتقد.

فاللعازاريون أو اليسوعيون الذين حلُّوا محلهم عام ١٧٨٣، يملكون منذ ١٧٤٢ مدرسة في عينطوره أسسها أحد وجهاء البلاد الأغنياء. ولكن انهزام مرسلينا عند نشوب الثورة أفقدهم هذا المعهد، وقد كنت على وشك استرداده عام ١٨٣٥.

رضي الآباء اللعازاريون بالتخلي عنه إذ لم يكن في استطاعتهم أن يقوموا بأعبائه وفقًا لنية مؤسِّسه، ولكن السلطة الروحية المحلية رأت أن المصلحة تقضي عليها أن تستغل دخله وعائداته، فأقامت بوجه مرسلينا مصاعب جمة؛ فترك هؤلاء هذا المعهد وشأنه ولم يهتموا بعد ذاك إلا بشئون مدرستهم الخاصة. لم يكونوا يلتمسون للنهوض بها إلا مساعدة السلطة الفرنسية التي لبَّت النداء بدون إبطاء أو تقاعس. ولقد عاضدتُ أنا شخصيًّا معهدًا كهذا بجميع ما أملك لأني عرفت — بعد اختباري الطويل — أن الثقافة هي أول ما تحتاج إليه هذه البلدان المنسية أو المهملة.

أنبأنا «فولناي» عن الصعوبات التي لاقاها مسيحي حلبي في سبيل تعلُّم أصول اللغة العربية، وخلق طريقة لتسهيل تعليمها لنبي أمته. ولقد تمكَّن من أن ينشر بينهم بعض كتبٍ أصدرتها المطبعة في لبنان. غير أن هذه المؤلفات الروحية كانت غير كافية.

كثيرًا ما كنت أناصر معهد عينطوره، وكل معهد آخر يؤسس على طرازه، حتى إني طالبت بصرف مِنح مالية لأولاد الفرنسيين الذين لا يتمكَّنون في سوريا من أن يتعلموا أو يشغلوا وظيفةً ما، وما كان يدفعني إلى ذلك غير حبي الإنسانية والوطن.

فهؤلاء الأولاد يجهلون لغتهم؛ وسبب ذلك عدم وجود مرسلين وطنيين كأولئك الذين اهتموا قديمًا في الأساكل بتربية الشبيبة. كان ذووهم بِغنًى عن المصارفات التي يضطرهم إليها إيفادهم إلى فرنسا وهم عاجزون عن دفعها؛ فإفرنسيو سوريا وقبرص والمقاطعات المجاورة يجدون في مدرسة عينطوره منفعتين: الأولى تربية أولادهم وتعلُّمهم لغتهم، والثانية تهيئتهم لمناصب العملاء والسماسرة والمفوضين؛ لأنهم يتعلمون في هذه المدرسة اللغتين الفرنسية والطليانية؛ وهكذا يمكنهم أن يتفاوضوا مع الفرنسيين مباشرة، بدلًا من أن يَلجَئوا إلى التراجمة أو يفهموا خطأً ما يُنقل إليهم.

وعلى بضع خطوات من مدرسة الآباء اللعازاريين يقوم دير الزيارة. وهذا هو الدير الوحيد الذي ينهج نهج الديورة الأوروبية؛ فالراهبات يعشن من ريع بعض عقارات تمكَّنَّ من شرائها، ومن مساعدات أخواتهن، ومن هذا الدخل استطعن أن يشيِّدنَ كنيسة الدير الجميلة.

تبسط قنصلية فرنسا حمياتها على راهبات الجبل. وكم كنت أشعر بلذة حين أهتم بشئون هؤلاء العاملات المنزويات عن العالم! إنه يُرثى لهن في هذه الأصقاع لأنهن يتعرضن لمتاعب لا يجدنها في أوروبا.

إن مقر القاصد الرسولي قريب من عينطوره؛ فهو يقع بين هذه القرية وبين زوق مكايل — إحدى قرى الجبل الأكثر أهلًا وغناءً — وبيت القصادة الذي أسسه المونسنيور لوساتا — وهو اليوم مطران بيالا في بيامون — قد زاد من عمرانه المرحوم المونسنيور ده فاسيو المُتوفَّى عام ١٨٤٠. ثم خلفه المونسنيور أوفارني فأعرب — كالذين تقدموه — عن همةٍ لا تعرف الملل، ومقدرة بالغة في سبيل ازدهار أعمال الكرسي الرسولي المتعلقة بأبرشيته في الشرق.

ومنذ حين مثل بلاط رومة في سوريا المونسنيور جاندولفي الذي أتاحت له إقامته الطويلة٢ فرصة القيام بمهمته على أتم وجه، وظل يعمل مجاهدًا في هذه البقعة حتى نال من البابا المكافأة التي استحقها عندما داهمه الموت.

ثم خلفه المطران لوساتا؛ فلمع نجمه في لبنان نظرًا لمعلوماته الواسعة وأساليب تعليمه البارعة. إن شهرته سبقته إليه بصفته لاهوتيًّا عميقًا.

والمونسنيور أوفارني الذي حل محله اشتُهر بهمةٍ لا تعرف الملل، وتقوى حارة، ومقدرة في علم اللاهوت عجيبة.

ذهب — كما نعلم — ضحية اندفاعه الذي لم يكن يعرف حدودًا. وبعد أن نُقلت جثته إلى ديار بكر، استعادها أصدقاؤه وأبَوْا أن يُدفن إلا في غزير من لبنان؛ حيث قام هنالك برسالته الأخيرة ولاقى نجاحًا كبيرًا. ولما كانت أعمالي قد قضت عليَّ أن أكون في حلب — عندما حان وقت نقل جثمانه — فقد قمت عند وصول الجثمان إلى حلب بما أمرتني به السلطة الفرنسية، فانتزعت يده اليمنى، وبعض شعره، وجزءًا من بطرشيله ونقلتها بنفسي، عام ١٨٤٢، إلى من يهمه أمرها في فرساي.

عاد اليسوعيون إلى سوريا منذ اثنتي عشرة سنة، وأسسوا ديرين في الجبل حيث لم يستقر أحد من المرسلين. لقد أدَّوْا رسالتهم في مقاطعات مختلفة. وهذا الاهتمام الذي حملهم على تجديد هذه المحاولات سيُكلَّل لا محالة بالنجاح. إنهم يهتمون اليوم بتشييد مدرسة للصناعة والفنون، ولا شك في أنها ستكون ذات فائدة كبيرة.

جميلٌ النظام الجديد الذي جعل فيه رئيس المجمع المقدس جميع المرسلين — على اختلاف جمعياتهم — خاضعين لسلطة القاصد الرسولي؛ فمقر هذا القاصد ملائم جدًّا لأنه يقع في وسط سوريا، وهو يلائم أيضًا العلاقات التي تربط به البطاركة والمطارنة ورؤساء الرهبانيات المقيمين في لبنان، ومدن سوريا المجاورة له.

هوامش

(١) لا أذكر سوى بيوت البلد الذي أخذت على عاتقي وصفه، دون أن أتناول البيوت التي شيدوها في سوريا.
(٢) كان أحد المرسلين الأُوَل الذين أُوفِدوا إلى تركيا فوصل إلى أزمير عام ١٧٨٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤