الفصل الخامس
ضواحي بيروت أيضًا – غابة الصنوبر – مار جرجس – الكرنتينا – هضبة مار متر.
***
كانت هذه البقعة مَكسوَّة قديمًا بالأغراس والأبنية، وربما بالمدافن أيضًا. وهنالك سببان يحملانِنِي على هذا الاعتقاد؛ الأول: أن الأقدمين كانوا يدفنون — دائمًا — موتاهم على المرتفعات العالية لجهة البحر، والثاني: وفرة بقايا الخزفيات والزجاج وقطع المعادن والمسكوكات التي كانت تظهر على أثر هبوب العاصفة. فالماء والهواء كانا يكنسان هذا المكان ويتركان في العراء هذه البقايا الأثرية.
إن الصخور التي لم تُغطِّها الرمال محفورة — أينما كانت — بشكل دياميس ونواويس. وقد نجد كثيرًا من النواويس المصنوعة من التراب الفخاري أو الرصاص.
ناهيك بأن الشاطئ معرَّض بكليته لمثل هذا الهجوم العدواني. بَيْدَ أن النتائج التي يُحدثها قليلًا ما تؤثر فيه بسبب نتوء رأس بيروت الذي يكسر شوكة حدته.
وإذا نظرنا بعين التأمل إلى طبيعة الأرض التي تحيط ببيروت، فقد يخامرنا الريب — ولو هنيهة — بأن هذه المدينة كانت قائمة — في زمن قديم جدًّا — على جزيرة، ومنفصلة عن لبنان؛ لأن تربة السهل المحدق بها مؤلَّفة من الرمل.
أما إذا توجَّهنا صَوْب الجنوب فنجد بعض أشجار من الصنوبر تسترعي الانتباه نظرًا لعلوها وضخامتها، ونرى على مقربة منها بقعًا من الأرض مَكسوَّة بهذه الأشجار التي يدل اختلافها في الغرس والعتق على عصور مختلفة.
إن أشجار الصنوبر الضخمة التي تُلقى بدون رحمة في الأتاتين لعمل الكلس (والبيروتيون يظنون أنها خلقت لذلك)، فقد أصبحت على وشك الاضمحلال، وهنا مقام القول الفصل بقضيةٍ أثارها سائحان حول أصل هذه الأشجار وعمرها.
ولكن لماذا يقول فولني: إن الأمير فخر الدين هو الذي غرس هذه البقعة صنوبرًا ابتغاء تنقية «الهواء ما دام التاريخ يقول إن فأس المجاهدين الصليبيين القدماء تعرفت إلى صنوبر بيروت»؟
إن الجواب على ذلك — حسبما أرى — سهل جدًّا؛ لأنه يُستنتج من السؤال نفسه؛ فالأمير فخر الدين اضطُر إلى إعادة تشجير الغابة التي عزوا إليها تنقية هواء بيروت لأن المحاربين الصلبيين كانوا قد أبادوا قسمًا كبيرًا منها.
وروى المؤرخون الأقدمون أن قد قامت هنالك — في المحل نفسه — كنيسة كانوا يشاهدون أعمدتها المنحنية قبل أن واراها الثرى. وإذا تجاوزنا شاطئ البحر من الجهة الشمالية وابتعدنا قرابة نصف ميل عن بيروت، نجد مغارةً تتسع لإيواء أكثر من أربعماية شخص. وهذه المغارة جعلها التنين مأواه. وإذا تقدمنا نصف ميل آخر إلى الأمام، نجد كنيسة مار جرجس التي يجلُّها المسلمون والمسيحيون إجلالًا كبيرًا. إن كل تلك الآثار قد اندثرت بكاملها؛ فالكنيسة دُكَّت أساساتها، والمغارة سُدَّ بابها بسبب بعض الانهيارات.
ولن أختم وصفي لضواحي بيروت دون أن أذكر المحجر الصحي «الكرنتينا» الذي لا يبعد إلا قليلًا عن جامع الخضر؛ فهذا المحجر قد قام بإنشائه القناصل — عام ١٨٣٤ — بما تيسر لهم؛ فاستطاع أن يقيَ سوريا طوال خمسة عشر شهرًا من الطاعون الذي كان متفشيًا في القسطنطينية، وأزمير، وقبرص، ومصر؛ هذه البلدان التي كانت تفد منها دائمًا سفن مشحونة بضائع وركابًا.
وإبراهيم باشا هو الذي كلفني إنشاء النظام الصحي في سوريا، على أن يساعدني فيه قناصل بيروت الذين شاءوا أن يُظهروا غيرتهم في عمل يهمنا جميعًا. إلا أن هذا العمل لم يكن مجديًا بوجه خاص إلا للذين ألِفوه، أو الذين حُكم عليهم أن لا ينزووا في نقطة معينة. وفيما عدا ذلك فالقيام بمثل هذا التدبير لم يكن عملًا يسيرًا.
كان علينا أن نذلل جميع العقبات التي خلَّفتها قضية المحاجر الصحية في بلادٍ يناهضها فيها الرأي العام. والقائد العام الذي كان يهمه أمر المحافظة على سلامة جيشه منحَنَا سلطة مطلقة، غير أن أعمال النظارة المصرية كانت صعبة جدًّا، حتى إنه كان يتوجب علينا — لأجل الحصول على مساعدتها — أن نمرَّ في شبكة من التقاليد أهم نتائجها إضاعة الوقت.
والقناصل — بفضل جهودهم الجبارة التي لم تعرف الملل — توصلوا إلى حماية البلاد من الأوبئة رغم تسرُّب المصابين إليها بلاد انقطاع.
اضطُر القناصل أن يقوموا بدفع تلك النفقات من جيبهم الخاص؛ فسرعة الحوادث والإصابات لم تكن تمكِّننا من انتظار وصول المال الذي طلبناه من السلطة.
كان علينا أن نشيد أكواخًا كبيرة لإيواء القادمين وإيداع البضائع. ولمَّا كانت البضائع ترد في أوقات تكاد تكون متصلة، كنا مجبرين على إيجاد أمكنة لها تتفق وأصنافها. وخلال المدة التي زاولت فيها الجمعية الصحية أعمالها، لم يستطع الطاعون أن يجتاز التخوم التي أقمناها بوجهه؛ فلم يمت غير مائة وستة وعشرين مصابًا في الكرنتينا، ولم تُضطر السلطة إلى دفع أقل مبلغ للإدارة الصحية؛ لأن الجمعية وفَّرت للصندوق آلاف القروش ما عدا قيمة البنايات التي تجاوزت الأربعين ألف قرش. أما هذه الجمعية فكانت مؤلَّفة من قناصل فرنسا والنمسا والدانمارك وإسبانيا واليونان.
إني لاحظت آنذاك — وفي هذه المناسبة على الأخص — أن الإجراءات البسيطة التي تُفهم وتُدار بحكمة كانت كافية — وحدها — للوقاية من وباء الطاعون رغم طبيعته المعدية.
إنه لمن المؤلم أن يشرف مثل هذا المكان على بلاد ينشر فيها الفساد كل يوم فواجعه.
إن بساتين بيروت مليئة بالحانات وأشباه الفنادق التي تجري فيها مساومات رخيصة يندى لها وجه الأخلاق.