الفصل السابع
إنهم لا يستطيعون — كما يريد «لامارتين» لمواطنينا في فرنسا — أن يفهموا معنى الحياة ويتحركوا للأعمال التي يأتي بها العلم كل يوم؛ فالثقافة صعب تعميمها بينهم وجعْلها في متناول جميع الناس؛ فالبلدان هنا محرومة من الجرائد، لا يُذاع ولا يُنشر فيها شيء. لا تجد شخصًا واحدًا يتعاطى الكتابة ولو على سبيل التسلية، والقصاصون الذين يتولون كل مساء — خلال ساعة — تسلية عاطلي المقاهي يستقون معلوماتهم القصصية من مخطوطات بالية مبتذلة.
فإذا كان لا بد للشرقي من أن يفكر، فإنما يكون تفكيره في مشاغله البيتية أو التجارية، ولا يشغله شيء آخر في هذا العالم غير هذه. إن تسليمه لمشيئة القضاء والقدر يعيده بسرعة — في كل الأحوال — إلى هدوئه المعتاد الذي هو مزيته الغالبة على طبعه.
أعرف تركيًّا كان يُكنُّ لي كثيرًا من الثقة، ويستشيرني في الأعمال التي تهمه، وفي ذات يوم اضطرته مصالحه التِّجارية إلى إيفاد ابنه الوحيد إلى قبرص، فسألني أن أُحمِّله وَصَاة إلى أحد أصدقائي فيها ليُعنَى بأمره، وما مضى يوم على سفر ابنه حتى جاءني مستطلعًا أنباء هذا الولد الذي كان متزوجًا وأبًا لأولاد. ولسوء طالعه كان هواء لارناكا الموبوء شؤمًا عليه؛ فجاءنا — ويا للأسف — خبر وفاته. ارتبكتُ جدًّا ولم أدرِ كيف أواجه صديقي بهذا النبأ الأليم خوفًا من تفجُّعه العظيم. وأخيرًا، نزلت على اقتراح أحد تراجمتي، فتوجه إليه وأعرب له عن مشاركتي إياه ألم هذا المصاب، ودعاه إلى احتماله بجلد. إلا أنه عندما رأى موفدي تقدَّم منه وقال: لقد آلم صديقي القنصل هذا الحادث المفجع الذي حلَّ بي، أوَليس كذلك؟ هذا مؤكد عندي. إنا لله وإنا إليه راجعون. أبلغوه تمنياتي القلبية، لا ابتلاه الله بمثل هذا المكروه. قولوا له أن يتعزى لمصيبتي.
وهكذا استغنى الترجمان عما أعدَّ من الجُمل الطنانة، واضطُر إلى الانسحاب دون أن ينبس ببنت شفة؛ لأن موقف هذا الشخص الهادئ المستسلم قد ضعضعه تمامًا.
أما المتعبِّدون منهم فيفضِّلون الذهاب إلى الجامع في مواقيت صلوات الليل بدلًا من أن يصلُّوا في منازلهم، وقد تحظر عليهم الصلاة بالمنزل في بعض الحالات؛ لأن الوضوء الجزئي الذي تؤمنه الدار غير كافٍ، فيذهبون إلى الجامع فور خروجهم من الحمَّام. ومع ذلك فهناك بعض أشخاص يرَوْن أن من أسباب الراحة أن يستطيعوا القيام بالتطهُّر الكامل في دُورهم.
أما المسيحيون، فباقتباسهم بعض العادات الأوروبية قد تذوَّقوا لذة الاجتماعات الليلية، وقد سهَّلت لهم سُبلها وحشة الشوارع؛ فبعد هبوط الليل بساعتين تمتنع ملاحظة ذهابهم وإيابهم، ناهيك بأن السلطة لم تكن ترتاب فيهم لتبث عليهم العيون والأرصاد.
في هذه السهرات الشرقية يصطخب بحث قضايا الساعة، ولكن ضمن إطار محدود وضيِّق في النظر تبعًا لثقافة المجتمعين السطحية؛ فالقضايا السياسية التي تشغل بالهم هي قضايا تركيا، وليتك تدري كيف يحكمون عليها!
وعلى كل ما في آرائهم من ضعف، فإننا نراها دائمًا أكثر صوابًا من آراء سواهم.
أكد أحدهم — في جدال وقع بينه وبين أحد الأوروبيين — أن الإفرنسيين لن يتمكَّنوا أبدًا من إخضاع بلادهم. أما الأوروبي فكان يحاول إقناعه بأن أتراك اليوم ليسوا أولئك العثمانيين القدماء الذين يفتخر بهم.
فأجاب التركي: إنني أسلِّم بهذا، ولكن السلطان العظيم أسدٌ مخيف.
فقال له الأوروبي: نعم، إنه كما يبدو لك مروِّع جدًّا، ولكن تصوَّرْ كلبين قويين يتنازعانه أذنيه، وكلٌّ منهما يشد صوب صدره، ثم قل لي بعدئذٍ ما يصيب أسدكم؟ وهكذا اضطُر التركي المشدوه إلى التسليم بصوب رأي مجادله. إن نفسه لم تحدثه بهذا المؤتمر الكلابي.
فبمثل هذه التشابيه يمكننا حمل الأتراك على الاقتناع؛ لأن تعصُّبهم الأعمى وجهالتهم يجعلان منهم أناسًا لا يُستطاع إقناعهم إلا بهذه الصورة.
وعندما نذكر لهم تفوُّق عُدَد الإفرنسيين، يجيبون بأن مؤمنًا حقيقيًّا يمكنه — بضربة سيف واحدة — إسقاط ١٢٠٠٠ كافر. أما فيما يختص بالأعمال الحربية وخططها، فقد أصبحوا أندادًا لنا منذ غيَّروا طريقتهم. أوَلم يجهز كل شيء عندهم مثلنا؟
إن السوريين يبالغون جدًّا بالامتداح، وهم جد أسخياء بالهبات والعطايا الممتعة التي يحوزونها إلى حد أن تراودنا فكرة الاعتقاد بأنهم صادقون أوفياء.
•••
إن المسلم — إذا لم يكن له أولاد ذكور — يأكل منفردًا في خدره، أما النساء والبنات فيجب أن ينتظرن ريثما ينتهي سيدهن، وبعض الأحيان تكتفي الحريم بأكل ما هيَّأنه من مأكولات للعامة.
ومن تقاليدهم وعاداتهم أن يأكل الزوج وحده الثمار عند أول نضجها أو عندما تكون مرتفعة الثمن.
إن روح الألفة في العائلات الشرقية مفقودة تمامًا؛ ذلك لأنه يتوجب على الرجال أن يظلوا متجهِّمين دائمًا في خدورهم ليحافظوا على هَيبتهم ويُوحُوا إلى النساء والأطفال شعور الامتثال الذي يكفل لهم سيادتهم.
إن الشرقيين يُشغلون بسهولة، وعندما يعجز تدخين الغليون عن إعفائهم من الكلام، فأتفه حادث يصلح موضوعًا لقضاء السهرة التي لا تتجاوز حدًّا معقولًا. والمسيحيون — بصورة خاصة — لا يتمادَوْن في إطالة سهراتهم؛ إذ إن الحكمة — التي تتوِّج جميع تصرفاتهم — تقضي عليهم بأن لا يظهروا على الطرقات العامة في ساعة لا يجيز القانون التجوُّل فيها.
إن سكينة الليل لا يُقلقها سوى صراخ بائعي التمرية، ملذة الذين يضطرهم تعطُّشهم الشديد للمال أو حاجتهم الحقيقية إلى أن يعملوا قسمًا كبيرًا من الليل. وإذا حكمنا بالاستناد إلى قطع الحلوى التي تُباع كل مساء، يمكننا الاستنتاج أن في بيروت عددًا كبيرًا من الأشخاص العاملين الذين لا يرغبون في النوم فارغي الأمعاء.
إن المسلم — في حياته الخاصة — صالح وخيِّر وأمين (إلا تجاه امرأته). إنه يأخذ حذره حينما يغادر منزله ويصبح رجلًا مشككًا.
وسكان بيروت مشهورون ببُخلهم؛ فالأكثرون حديثو النعمة؛ ولذلك يرجعون إلى طبيعتهم الأولى كلما همُّوا بالتنعُّم بالأموال التي وفَّرتها لهم ثرواتهم. إنهم يعتبرون ثروتهم وديعة بين أيديهم؛ هذا شيء فلسفي، إلا أنه ناتجٌ حقيقةً عن تقتيرهم الذي طُبعوا عليه؛ فهم لا يفقهون معنى الترف سواءٌ أكان في لباسهم أو على موائدهم، أو في مفروشاتهم التي تكلمتُ عنها آنفًا.
يرتدي السوريُّ الميسور — عادة — أكثر ما تحتويه خزانته، وعليه أن يتحلَّى دائمًا بكل ما يملك من أشياء ثمينة ليظهر للناس غناه.
إننا نعجب إذ نرى الفنون الجميلة حديثة الميلاد في الشرق، ولكن أية حاجة لهم بها؟ فالعرب يعيشون غير محتاجين إلى شيء، وكل صناعة في بلادهم تكون معرَّضة للموت.
وماذا نرى في أسواقهم غير منسوجات الصوف، والحرائر، والقطن، والطرابيش، والبوابيج، والغلايين، وبعض الزجاج الغليظ، وأخيرًا الحبوب التي تأتيهم من المستعمرات؟ وماذا عند صيادلتهم غير المواد الطبية البسيطة، وبعض خلاصات كيماوية يعرفها الجميع ويطلبونها لصبغة الأقمشة؟!
حاول بعض الأوروبيين أن يمدُّونا — بعد أن فتَّشوا في فهارسنا — بما نحن في حاجة إليه. وهب أنهم باعوا بعض المواد من غير الفرنسيين، فتُشترى على سبيل الفضول، وليس لأنهم محتاجون إليها. إن طريقة استعمالها لا تزال مجهولة عندهم.
إن مسلمي مدن سوريا الداخلية هم دائمًا ثائرون مهتاجون، وأقل بادرة تمس دياناتهم تحملهم على انفعال متجاوز الحد. إن علاقاتهم الحسنة مع التجار الغربيين قد درَّت عليهم كثيرًا، إلا أنها لم تعمل — ولو قليلًا — في تحوير عاداتهم.
ومع ذلك، فللبعض منهم علاقات وثيقة مستمرة بالمسيحيين، وخصوصًا إذا كانوا ممن يحبون الشرب … إن للأتراك ميلًا خاصًّا لتقليد الإفرنسيين في تذوقهم المشروبات. وإذا كان الشرب يسمَّى مدنية فإنني أستطيع التأكيد بأنهم جروا شوطًا بعيدًا في هذا المضمار؛ ذلك لأن رؤية أشخاص يطوفون الشوارع بين خمرتين في تركيا ليست نادرة؛ فالكحول تباع فيها اليوم جهرًا لأن السلطة اقتنعت بأنها تجني ربحًا باهظًا من سماحها بما ليس في الإمكان تحريمه. إن الخمارات قد اكتُريت كلها.
وعندما وجد صديق الخمرة أنه لم يعد بإمكانه التستر، تناول الزجاجة وقدَّمها وهو يقول: إنها مملوءة زيتًا. فصاح الباشا: زيت! وهذا اللون؟
فأجاب الرجل الظريف: لقد احمر خجلًا من دولتكم.
إن المؤمنين لم يحجموا عن تعاطي المشروبات بعد التطور الذي حدث في تركيا؛ فهم لم يتقيَّدوا بتحريم النبي للمشروبات المسكرة، ولكنهم يشربون بتحفُّظ واحتشام.
والسكر آفة قديمة عند العرب، وقد أنبأنا أحد الكُتَّاب — وهو مطَّلع على تاريخهم: «إنهم على الرغم من زهدهم في أسباب ترف المعيشة كانوا مولعين بالخمرة والسكر، وكثيرون منهم ذهبوا ضحية باخوس كالزبير مثلًا، وروي أيضًا أن أحدهم تنازل لقاءَ حصوله على زقٍّ من الخمر عن مقاليد مهمته المرموقة في حراسة الكعبة في العهد القريشي.»
-
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا (سورة البقرة: ٢١٩).
-
وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (سورة النحل: ٦٧).
-
يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (سورة المطففين: ٢٥).
-
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة: ٩٠).
-
وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَر أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (سورة النساء: ١٢٤).
-
وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة: ٧٢).
-
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (الرعد: ٢٣).
-
لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا (سورة الفتح: ٥).