الفصل الثامن
أنصف النبي محمد النساء أكثر مما أنصفهن الرجالُ الذين اتبعوا شريعته؛ فلسن في نظر هؤلاء أكثر قيمة من متاع نافع. وإذا شئت أن أوضِّح بجلاءٍ فكرة أزواج الشرق، وجب عليَّ أن أقول إنهم ينظرون إليهن نظرة الأطفال إلى الدُّمَى، وهل إن هنالك ظروفًا أكثر إيلامًا من الظروف التي ترافق دخولهن إلى هذا العالم؟
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ (سورة النحل: ٥٨-٥٩).
وفي أيامنا هذه يفهم الناس في الشرق من الضجيج أو السكون الذي يخيِّم على غرفة النفساء، إذا كان المولود الجديد صبيًّا أو بنتًا.
إن الفتاة لا تحظى عندهم إلا بالثقافة المنزلية؛ فهي تكنس عندما تستطيع حمل المكنسة التي لا تتجاوز طولًا نصف متر. وإذ يشتد ساعدها، تُستخدم في الغسل والطهي وأشغال البيت الأخرى؛ فالولائم العربية تستدعي عدة تجهيزات، سواءٌ أكان ذلك لدق اللحم في جرنٍ لتحويله إلى معجون ناعم (الكبَّة)، أو لقطع اللحم يُمزج بالأرز ويُحشى به ورق العنب، والملفوف، والكوسا، والباذنجان. إن مآكلهم الطيبة تقتضيهم وقتًا كثيرًا ومجهودًا كبيرًا.
أما الشئون الأخرى فلا تتعلم الفتيات التركيات منها إلا قليلًا من الخياطة والتطريز على الطراز الشرقي الغليظ؛ هذه هي الأعمال التي يشغلون البنت بها. أظن أنه لا يوجد بين نساء المسلمين من يعرفن القراءة، ويزعم الرجال أنهم يقللون بذلك من خبثهن ومكرهن.
إن العادات الشرقية تشجب المخالطات الأجنبية حتى بين النساء. والمسلمات لا يبحن لأنفسهن سوى التمتع بالمسرَّات التي يُمكِّن منها المنزل الذي لا يخرجن منه إلا لزيارة نسيباتهن القريبات.
ومع ذلك فعندهن الاستحمام، فإذا ما فقدنه فقدن أهم أسباب ملذاتهن. إن أزواجهن لا يمنعونهن منه؛ لأنهم على يقين أنه المكان الوحيد الذي لا يتعرض فيه شرفهم لأي خطر.
والنساء يذهبن إلى الحمامات عملًا بتعاليم ديانتهن التي تقضي عليهن بالوضوء الكامل.
إنهن يهيِّئن — يوم ذهابهن إلى الحمام — كل حوائجهن منذ الصباح الباكر؛ فيجعلن من المناديل رزمًا مختلفة تصلح لعدة شئون، إنها متعددة جدًّا، فمنها ما يكون من الحرير أو القطن، ومنها ما يكون مربع الحجم ذا لون أبيض. إن النساء يتلثمن بأربعة مناديل في وقت واحد: على أكتافهن وعلى رءوسهن. وإذا شئن أن يَكنَّ ظريفات — ولو قليلًا — فعليهن تبديلها مرة ومرتين بعد مغادرتهن المنزل.
والوقت الذي يقضينه في الحمام لا يمكن أن ينقص عن ثلاث ساعات أو أربع، وهن يأكلن ويشربن في أثناء ذلك، حتى إن تدخين الغليون والنارجيلة يملأ فراغًا كبيرًا من فترات الاستراحة.
إن مشاغل النساء في الحمام عديدة؛ فهناك يجتمعن لينظفن أجسادهن بكيس من الشعر الناعم، ويضعن على رءوسهن الحناء لتصبح شعورهن ملساء، ثم يدلكن أجسادهن بمادة لزجة ممزوجة بماء الورد، وأخيرًا يتمشطن ويصففن شعورهن ذوائب ذوائب. ولما كن يَعتبرن أنفسهن عائلة واحدة على الرغم من تعدد الأشخاص، فإن هذه العمليات — لكلٍّ منهن على حدة — تستغرق الوقت الطويل.
وفي الحمام يشتد هذر النساء ولغوهن؛ فهناك يُلقنَّ بعضهن بعضًا ما حفظنه من حاضناتهن اللواتي كن يدلكن أجسادهن ويغسلنها.
تتألف حمامات الشرق من رَدهات واسعة معقودة بالحجر، تعلوها قباب تطل منها كوى صغيرة مدورة لتستقبل ضوء النهار. إن هذه الحمامات لا تعرف الهواء مطلقًا؛ لأن كل نافذة منها مجهزة بعدسة من الزجاج.
ومِن نُزه النساء أيضًا زيارة المدافن؛ فهي موضوع تسليتهن، بل الطريقة الوحيدة التي تسهل لهن مغادرة المدينة واستنشاق هواء الجبل. وهن لا يُحجمن عن استغلال هذا الظرف جهدن، عندما تسمح لهن الحال بذلك؛ يجتمعن حلقات حلقات حول أضرحة عائلاتهن يتحدثن أو يصلين، بينما يقوم أحد الشيوخ — وهو عادةً أعمى — بتلاوة آيات القرآن عن نفس المرحوم.
يؤكد البعض أن النساء يقمن في أثناء هذا الطواف بين القبور بالْتِقاءات لا تكون في أكثر الأحيان بريئة. وإذا لم يجدن الأشخاص الذين يرغبن في رؤيتهم أو لم يتمكنَّ من مخاطبتهم، فإنهن يعبِّرن عن عواطفهن وأفكارهن بترْك باقة زهر ذات رمز على ضريح الراحل العزيز.
إن طريقة التفاهم بالحركات تؤدي إلى خلق مثل هذه البدعة، وهي ضرورية نظرًا للافتقار إلى معرفة الكتابة؛ فبها يُستطاع التعبير عن كل قصد ورغبة في أصغر حجم ممكن. إن الأزهار والثمار هي دعامة هذا التفاهم بلا كلام.
إن السائحين القدماء لا يؤيدون هذا الزعم الذي يشاركهم فيه السياح المحدثون؛ نظرًا لفساد وانحطاط العادات والعُرف الناتجَين عن ضعف الحاكم العثماني الظالم.
يزعمون أن الخادمات المستعبدات هن اللواتي يمهِّدن الطرق لمكائد سيداتهن، مع أن هؤلاء لا يستطعن أكثر من العمل على إخفائها. إن مثل هذه الأعمال غالبًا ما تقوم بها بائعات مواد الزينة التركيات، أو المسيحيات، أو اليهوديات المفتوحة بوجههن أبواب الحريم، وهن في كثير من الأحيان يجعلن بيوتهن ملتقًى للعشاق لقاء أجرٍ ما.
والرجل المثري التركي تعرفه من سمته. لقد وجدتُ هنالك شبابًا وأساتذة صغارًا، وضربًا من الناس يسمونهم بالتركية «زنبر شلبي». إن في حوزة هؤلاء لائحة بأسماء النساء الجميلات اللواتي يتمتعن ببعض الشهرة؛ فهم يفتشون بلا ملل عن طرق التعرف إليهن وتذوُّق حبهن وامتصاص ثروتهن وما يملكنه، وكثيرًا ما يتباهَوْن بظفرهم بهن، مع أن شيئًا من هذا لم يحدث.
وفوق ذلك، أوَهل يُظن أن النساء يتعبن أو يمللن من انزوائهن المتواصل؟ لقد جعلتْهن العادة الطويلة الأمد صالحاتٍ لهذه الحياة حتى بتن لا يرغبن في استبدالها. إن ثقافتهن لا تجعلهن صالحات لأي عمل آخر.
وعندما تُطلب فتاةٌ ما للزواج، تكون عادةً في عمر الأربع عشرة سنة أو الخمس عشرة. والأب لا يستشير امرأته ولا ابنته، بل يكتفي بإعلامهما أنه قال كلمته (وعد)، وأن حفلة العرس ستكون في اليوم الذي عيَّنه.
إن العروس تجهل غالبًا اسم خطيبها، وإذا أرادت أن تراه فلا يكون ذلك إلا من ثقب النافذة، أو خصاص الباب، أو بصورة خفية في الشارع من خلال منديلها الشاشي الذي تضعه النساء على وجوههن، والملاءة التي تغطي القسم الباقيَ من جسدهن عندما يخرجن.
وفي عشية الزفاف يُنقل الجهاز الذي يهبه الأب لابنته في موكب فخم. يكثر هذا الجهاز أو يقل بالنظر لثروة الأشخاص، وهو يتألف من الملبوس وأدوات الطبخ ومتاع البيت كالمسرجة والمقعد، وحزمة فتائل، والأشياء الأخرى التافهة الثمن. إن كل قطعة من هذه الأمتعة تُحمل على حدة ليقال إن جهاز بنت فلان قد نقله كذا وكذا من الرجال.
ولدى وصول هذا الجهاز تستسلم قريبات العريس إلى ذوقهن وتتعالى الزغردة: لُو لُو لُو، ويتنعمن بذلك الصياح ساعاتٍ طوالًا. إن هذا الصراخ — كما سبق لي أن قلت — هو ملذة توحي حب المنافسة عند النساء، وهذا ما يحملهن على اغتنام كل مناسبة يُظهرن فيها هذه البراعة والتفوق.
والعروس لا ترى عريسها إلا يوم زفافها، وفي البرهات التي تتمكَّن من اختلاس النظر إليه؛ فكل فتاة تحترم نفسها مضطرة إلى إغماض عينيها خلال سبعة أيام كاملة؛ ففي هذا الوقت «تُصمد» على وسادة بعد أن تقلَّد كل حلاها، وتخضع للزينة الخاصة بالمتزوجات الفتيات. وهذا التبرج يؤدي إلى مسخ الوجه، فيصبح كأنه وجه مستعار حقًّا، ثم تُدهن اليدان والرجلان العارية دائمًا.
إن ذوق هؤلاء الناس غريب جدًّا إلى حد أنهم كانوا يعتقدون أن العروس التي تظهر بمظهر الفتوة الجذابة وبلباس بسيط يُخشى أن تُنبذ.