الفصل التاسع
عادات إسلامية – شعر – موسيقى – علوم.
***
توجب الحشمة على الشرقيين أن لا يتحدثوا مطلقًا عن نسائهم. وعندما يُضطرون إلى الإتيان على ذكرهن — وذلك يكون في ظروف نادرة جدًّا — يتوجب عليهم أن يطلقوا عليهن اللقب المصطلح عليه في المنزل. والذين يعتقدون أنهم من أقرانك وأمثالك يُسمُّون زوجتهم شقيقتك عند اقتضاء ذكرها، وإذا كانوا أقل طبقة فهي عبدتك، أو أمُّ عليٍّ مثلًا، إذا كان هذا اسم ابنها البكر. إن النساء لا يُكنَّيْن أبدًّا بأسماء بناتهن.
وأسماء النساء لا تُحذف من لغة التخاطب فحسب، بل لا تُذكر أبدًا في الشعر العربي؛ فإذا أراد عاشق أن يتغنَّى بحبيبته فعليه أن يطلق عليها اسمًا غير اسمها، وأن يشبهها بما اعتيد التشبيه به من الكائنات التي ترمز إلى الرشاقة أو النعومة أو المرونة أو اللطف.
وفي الأغاني العامية، نفهم عند سماعنا هذه الكلمات: سمراء، عيون سود، قامة هيفاء، أن المعنيَّ بهذه الألفاظ هو امرأة؛ فهذه التعابير التي تُردد غالبًا يقصدون بها في الوقت نفسه رَشَأً من الغزلان أو غير ذلك.
إن أجمل مقاطع الشعر هي تلك التي تجيش فيها العاطفة بحرارة وتُسمَّى «نبوية»، وإن كانت غزلًا؛ لأنها موجهة إلى النبي محمد، الخليق وحده بهذا البيان الشعري الذي لا يستحقه أي هوًى آخر.
وهنالك أولاد الفنِّ في سوريا الذين يسلُّون الجماهير بأقاصيصهم التي تَدَّخر منها ذاكرتهم الشيء الكثير، فتشيع — حين تروى إنشادًا — لذة عنيفة في القلوب؛ فهؤلاء المهرجون يغنُّون أحيانًا إذا كانوا من ذوي الصوت الرخيم. ومن ميزة عبقريتهم الخاصة استنباط العبر حتى إنهم يقومون بشبه محاورة لا يستعملون فيها إلا الأمثال والحكم.
وعندما يضيق ذرْع أولاد الفن، تُعرض ألعاب الصغار فيشترك فيها الحاضرون جميعهم دونما تمييز بين العمر والمقام. وهذه هي صورة أستطيع أن أؤيد فيها الفكرة التي سأتناولها فيما بعدُ عن أخلاق الأتراك المتناقضة؛ لأنهم ينتقلون بسرعة فائقة من وقارهم الطبيعي إلى الألاعيب الصبيانية …
الموسيقيون نادرون جدًّا في بيروت، ومن وقت إلى آخر نرى بعضهم يقومون بجولة في الجبل ليُمتعوا الأهاليَ بفنهم.
إن الموسيقى التركية — على الرغم من أنها شبيهة بالموسيقى العربية — لهي أحسن تنسيقًا منها؛ لأننا نجد فيها على الأقل بعض الإيقاعات الموفَّقة الختام. فأحد الباشوات — وهو قائد عثماني مركزه الإسكندرية — كان يتكرَّم عليَّ بإيفاد جوقته الموسيقية كل ستة أيام أو ثمانية، وهذا ما يمكِّنني من الحكم على الموسيقى عندهم لأنني عرفتها بنفسي.
إن جوقة صاحب الدولة تتألف من خمسة موسيقيين ومدير يرافقها دائمًا. أما آلات العزف فأربع فقط، وهي: السنطير الذي يُنقف ويضرب بقضبان صغيرة، وقد نظمت أوتاره الوسطى بطريقة تؤدي بها أوتار الجهة الشمالية النغم الثامن موافقة لما تُخرجه الجهة اليمنى.
كلما أتتني هذه الفرقة كان يبدأ مديرها بعبارات المجاملات من قِبل مولاه. أما الموسيقيون فكانوا يجلسون بشكل نصف دائرة على الأرض وعلى رأسهم المدير.
عند حدوث بعض الظواهر الجوية ترى الشعب بأسره يضج ويصخب، فإذا ما خسف القمر أو كسفت الشمس ترى سكان البلاد جميعًا يصعدون إلى سطوح منازلهم يقرعون أوانيَهم النحاسية، ويدقون الأجراس، ويطلقون عياراتهم النارية ليُفزعوا الحوت الذي يهدِّد الكوكب بالابتلاع.
والفنون الجميلة — ولا سيما الشعر — لم تُعَر اهتمامًا أكثر مما أُعير الجنس اللطيف في هذه البلاد؛ فهنالك بعض نظَّامين يعملون من وقت إلى آخر قطعًا من الشعر يصفق لها الجهلة لأن قوافيَها واتساقاتِها تستفزهم. وقد علمت أن هذه القصائد الأكثر تداولًا هي في الغالب ركيكة العبارة، غير معربة، لا تُستطاع ترجمتها، مع أن اللغة العربية لغة شعرية يُستطاع النَّظْم فيها بأسلوب يسحر الألباب نظرًا لفخامة تعابيرها وموسيقى ألفاظها.
إن «المواويل» التي تُغنَّى تجري جميعها على سياق واحد، وكل مقطع منها يشبه الأغانيَ التي يرجع فيها إلى اللازمة، وهي مفككة المعاني ولا ارتباط بينها.
قد نجد بعض الكتب العربية القديمة عند العلماء المعاصرين، ولكنهم لم يقتنوها إلا ليتمتعوا بمظاهر العلم ليس أكثر. وأعتقد أننا لا نجد في بيروت أكثر من شخصين يتمتعان بذوق علمي، أو كفاءة ثقافية؛ ومن هنا نشأ جهل الحوادث التاريخية الأكثر تداولًا وبساطة.
إن الشيء الأكثر غرابةً وطرافةً هو الحدث الغريب في نظر الرجل العادي؛ ولهذا تراهم لا يدوِّنون — إذ يؤرِّخون — إلا الحوادث التي رافقتها بعض الخوارق؛ فهي — وحدها — تستحق أن تخلَّد للأجيال الآتية؛ ولذلك لا يجوز في نظر السوريين الحصفاء أن يكون الحادث البسيط — الذي لا يوحي شيئًا غريبًا — موضوعًا للمباحث الحاضرة والمقبلة.