الفصل الثالث
بين الخداع والحب
-
المكان: ضاحية من ضواحي غرناطة.
-
المنظر: صخور وأعشاب ومضارب.
المشهد الأول
(إبراهيم – دريدة – عثمان معتزلًا)
إبراهيم
:
لا فائدة من الجدل يا دريدة؛ فقد قضي الأمر.
دريدة
:
أبَتِ رفقًا بضعفي، ولا تطوِّح بنفسك إلى الموت. إن نذيرًا أنذرني بمكيدةٍ
مدبرةٍ لاغتيالك وابن حامد.
إبراهيم
:
وهل ترغبين أن نفرَّ من وجه الموت؟ لا كانت حياةٌ موردها الذل، وحبذا الموت
في سبيل العز.
دريدة
:
إذن اسمح لي بمرافقتكما لأرد عنكما بصدري طعنات الأسنة.
إبراهيم
:
بل تعودين إلى الخدر، فما على الله أمرٌ عسير.
دريدة
:
أبَتِ أشفق عليَّ.
إبراهيم
:
كنت أعهدك رابطة الجأش، فما أصابك؟ ألست مسلمة؟ ألا يجول دم العرب في عروقك؟
ألا تعلمين أن حياتنا وقفٌ على سلامة الوطن؟
دريدة
:
ولكنك يا أبتي شيخٌ مسنٌّ، وقد جاهدت كثيرًا فآن لك الآن أن تستريح.
إبراهيم
:
لَنْ أَسْتَرِيحَ وَلَنْ أَكُفَّ عَنِ الْوَغَى
حَتَّى أَرَى وَطَنِي بِأَرْفَعِ مَنْزِلِ
إِنْ كُنْتُ فِي سِنِّ الشُّيُوخِ فَإِنَّ لِي
عَزْمَ الْفَتَى بَيْنَ الرِّمَاحِ الذُّبَّلِ
١
دريدة
:
لا أفهم ما تقول يا أبي، فأنا أكره هذه العقائد الجائرة.
إبراهيم
:
هذا ابن حامد قادم؛ فكوني رابطة الجأش، ولا تتأخري عن العودة إلى
المنزل.
(لعثمان) عُد معها، ولا تتهامل بأمر
حراستها حتى نعود. والآن إلى اللقاء يا بنيتي ولا توجسي شرًّا.
(يُقبِّلها في جبينها فتقبل يديه.)
دريدة
:
حرسك الرحمن يا أبي.
(يخرج إبراهيم، وبعد قليل يدخل ابن حامد.)
المشهد الثاني
(دريدة – ابن حامد)
ابن حامد
:
أمرٌ عجب! فما أتى بك إلى هنا؟ وما هذه الصفرة المُرتَسِمة على محياك؟
دريدة
:
أتيت على جناحين من الحب والخوف، فإن الحبائلَ تُنصب لك ولأبي.
ابن حامد
:
خرافات عجائزَ؛ فلا تنزليها من نفسك منزلًا.
دريدة
:
ولكن قلبي وا أسفاه يُنذرني بصحتها، أرى دماءً حولي ولا أعرف دماء من هي،
وأشعر بمصائب تتحفَّز للانقضاض علينا ولا أعلم ما هي. فللخوف رعشةٌ تتملَّك
عَلَيَّ مشاعري، فبالله لا ترمِ بنفسك بين أنياب الرَّدَى.
ابن حامد
:
ومَن أنبأكِ أنني أذهب إلى الموت بذهابي للدفاع عن وطني؟ إن جهادي ليس في
سبيل بلادي فحسب، إنما هو في سبيل غرامي أيضًا، أفلا يرقص فؤادك طربًا إذا قال
عنك هذا الشعب وأنا عامل على تحريره: هذه خطيبة منقذنا.
دريدة
:
ولكنك ستقضي عَلَيَّ وعلى نفسك.
ابن حامد
:
دُرَيد، أنت أعزُّ عَلَيَّ من الحياة، ولكن الواجب أعزُّ عَلَيَّ منك.
دريدة
:
إذن حارب وأنا أذهب معك.
ابن حامد
:
وإلى أين تذهبين؟
دريدة
:
وأنت إلى أين تذهب؟
ابن حامد
:
أنا جنديٌّ أذهب للدفاع عن بلادي.
دريدة
:
وأنا عاشقةٌ أذهب للدفاع عن خطيبي.
ابن حامد
:
تالله إنك لتَهذينَ، ألا تعلمين أن على موقعة اليوم يتوقف مستقبل الإسلام
والعروبة في هذه الديار، كما يتوقف مستقبلنا نحن أيضًا؟ فإن أبا عبد الله جعل
علم المملكة مهرًا لك، فهل تريدين مني الانقياد لعواطفي واعتزال القتال، وأنا
الذي أضحي بروحي في سبيل نظرة منك؟
إِنْ لَمْ نَجُدْ لِبِلَادِنَا بِدِمَائِنَا
مَا أَنْتِ مُسْلِمَةٌ وَلَا أَنَا مُسْلِمُ
«لَا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنَ الْأَذَى
حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ»
٢
دريدة
:
أواه! فأنت لا تحبني.
ابن حامد
:
مَاذَا؟ أَحَقًّا تُنْكِرِينَ صَبَابَتِي
كَفَرَتْ لعمرِي بِالْهَوَى شَفَتَاكِ
فَأَنَا الذِي لَمْ أَدْرِ مَا مَعْنَى الْهَوَى
مِنْ قَبْلِ أَنْ بَعَثَتْ بِهِ عَيْنَاكِ
شَفَتَاكِ ظَالِمَةٌ وَقَلْبُكِ ظَالِمٌ
دريدة
:
شفَتَايَ كَاذِبَةٌ، فَأَنْتَ مَلَاكِي
وَلَدَيْكَ مِنِّي شَاهِدَانِ عَلَى الْهَوَى
قَلْبِي الْخَفُوقُ جَوًى وَجَفْنِي البَاكِي
رُوحِي فِدَاؤُكَ يَا ابْنَ حَامِدَ فِي الْهَوَى
ابن حامد
:
وأَنَا حَيَاتِي يَا دُرَيْدُ فِدَاكِ
دريدة
:
ولكن عاهدني أن لا تستهدف للأخطار، فإن بسلامتك سلامتي.
ابن حامد
:
أعاهدك على ذلك أنتِ يا من بنظرةٍ واحدةٍ، وبابتسامةٍ واحدة تكافئينني على كل
ما أفعل. والآن أعطيني من هذا الجبين الناصع قُبلةً طاهرةً هي القبلة الأولى،
ولكنها قُبلة الوداع.
قُبْلَةٌ مِنْ كَوْثَرِ الْأَحْلَامِ مَا
بَيْنَ قَلْبٍ يَسْتَقِيهَا مِنْهُ قَلْبُ
نفحةٌ مِنْ أَثَرِ النفْسِ عَلَى
طرَفِ المبسمِ بِالْعِطْرِ تهبُّ
نهزةٌ يُسْمَعُ مِنْهَا نَغَمٌ
كَطنِينِ النَّحْلِ وَالْفَجْرُ يَدُبُّ
هِيَ سِرٌّ فَضَّلَ الثغْرَ عَلَى
الْأُذْنِ غَيْرَ الْحِسِّ لَيْسَتْ تستحبُّ
هِيَ عَهْدٌ ختمتْهُ شفةٌ
حَبَّذَا خَتْم بحبرِ الريقِ عَذْبُ
هَذِهِ القبلةُ مَا أجملَهَا
نُقْطَةٌ تُسْكَبُ فِي بَاءِ «أُحِبُّ»!
دريدة
:
عدني بأن لا تنساني. هاتِ حسامك (تمسك حسامه
وتربطه بمنديل) هذا المنديل تذكارٌ مني، وقد وشَّيْتُهُ باسمينا
رمزًا لاتحاد قلبَيْنَا.
ابن حامد
:
إذا افترقت الأجسام وتباعدت فلا تفترق الأرواح المتحابَّة.
وأنت عاهديني على حفظ عهدي ما دمتُ في قيد الحياة، وإذا متُّ فأنت طليقةٌ من
كل عهد.
دريدة
:
إنني لك بكليتي في الحياة وفي الموت.
ابن حامد
:
وأنا أعاهدك وأعاهد بلادي، فإذا عشتُ فلأجلكما، وإذا متُّ فلأجلكما. إلى
اللقاء على الأرض أو في السماء.
(يتعانقان.)
دريدة
:
سر بنا يا عثمان.
(تخرج ويشيعها ابن حامد بنظره حتى تختفي، فيصفق بيديه فيدخل
عمر.)
ابن حامد: انفخوا بوق الحرب.(تنفخ الأبواق، ثم يدخل القواد والجنود.)
المشهد الثالث
(ابن حامد – إبراهيم – موسى – المنصور – عمر حاملًا العلم – رجال بني
سراج)
ابن حامد
:
مرحبًا بإخواني فرسان غرناطة وأبطال الأندلس، أحييكم وأحيي فيكم وارثي بطولة
العرب ومُجدِّدي أمجادهم.
إنني لأشعر بروح أولئك الأجداد مختلجةً بين ضلوعكم، وأرى يد طارق بن زياد
مبسوطةً فوق رءوسكم، روح الأجداد تناشدكم، وتبث نار الحماسة في قلوبكم، ويد
طارق تبارككم وتقودكم في طريق المجد إلى ساحة النصر.
وإنني لأسمع من بعيد أصواتًا تستصرخ هي أصوات الأمة العربية في الخافقين تهيب
بنا، وتناشدنا أن نحرص على وديعة الجدود، فلا نخمد بأيدينا نور نجمٍ سطع طيلة
ثمانية قرون على هذه البلاد الجميلة.
فمن منا لا يُلبي ذلك النداء ونحن أرباب السيوف وعنوان الإباء.
تالله يا غرناطة، يا عروس الأندلس، تركناك بين أنياب الجوع في وهدة اليأس،
وعلى وشك التسليم، ولكن صبرًا يا غابة الأسود، وبَقْوَى فتوحات العرب في الغرب،
فلن تنامي بعد اليوم على ضيم، ولن ينال العدو منك! إننا شربنا من مائك، ونشقنا
من هوائك، ورأينا النُّور من سمائك، فبسيوفنا نحميك، وبأرواحنا نفديك.
أَصَبْرًا وَالْبَلَاءُ طَغَى عَلَيْنَا
فَلَا خَلْفُ يجيرُ ولا أمَامُ
وَحِلمًا والعدوُّ عَدَا عَلَيْنَا
فَكَانَ الْمَوْتُ أَهْوَن مَا نُسَامُ
هَوَتْ أَمْجَادُنَا لَمَّا هَوَيْنَا
فَلَا رُمْحٌ يقيلُ وَلَا حسامُ
أَلَا هبُّوا نُعِدْ بالسيف مجدًا
لأجدادٍ لنا بالسيف قَامُوا
وَفوا قسط الحياةِ وَهُمْ كِرَامٌ
وَمَاتُوا فِي الجِهَادِ وَهُمْ كِرَامُ
إبراهيم
:
أَتُنْتَزَعُ الْإِمَارَةُ مِنْ يَدَيْنَا
وَيَملكُهَا مِنَ الْقَوْمِ الطغَامُ
وَنَحْنُ بَنُو الإمَارَةِ صَاحِبُوهَا
قُعُودٌ عِنْدَ سُدَّتِهَا نِيَامُ
أَيَبطشُ فِي أُسُودِ الْغَابِ ذِئْبٌ
وَيَحْكُمُ فِي الْكِرَامِ بِهِ اللِّئَامُ
وَلَمْ يَعْتَدْ بَنُو قحطانَ ذُلًّا
ولَمْ يعلق بعرْضِهِم انثِلَامُ
موسى
:
لَئِنْ سَكَتُوا فَرُبَّ سُكُوتِ ليثٍ
يُقَصِّرُ عَنْ بَلَاغَتِهِ الْكَلَامُ
وَلَمْ يرْضُوا بنيرِ الذُّلِّ، لَكِن
قضَى الصَّبْرَ التعَقُّلُ فَاسْتَنَامُوا
ولا يطفي الرَّمَادُ لهيبَ نَارٍ
فَتَحْتَ رَمَادِهَا أَبَدًا ضِرَامُ
ابن حامد
:
حيَّاكُمُ الله وَبَيَّاكُمْ.
المنصور
:
مُرْنَا أَيُّهَا الرئيسُ تَرَنَا طَوْعَ أَمْرِكَ.
تَرَنَا إِذَا وَقَفَتْ جَهَنَّمُ دُونَ مَا
نَبْغِيهِ مِنْ فَتْكٍ وَمِنْ إِقْدَامِ
وَطَلَبْتَ مِنَّا الْمَشْيَ فَوْقَ لَهِيبِهَا
سِرْنَا بِلَا خَوْفٍ وَلَا إِحْجَامِ
ابن حامد
:
أرى العدو يتحرك من مضاربه؛ فسلُّوا سيوفكم واصرخوا معي:
يا لثأر العرب!
(يجرد سيفه فيجردون سيوفهم.)
الجميع
:
يا لثأر العرب!
ابن حامد
:
خُذُوا ثَأْرَ العقيدَةِ وَانْصُرُوهَا
فَقَدْ حَامَتْ عَلَى الْقَتْلَى النُّسُورُ
وَمُوتُوا كُلُّكُمْ فَالْمَوْتُ أَوْلَى
لَكُمْ مِنْ أَنْ تُجَارُوا أَوْ تَجُورُوا
(يخرجون منشدين.)
وغًى وغًى وغًى وغى
حرَّ الحرارُ والْتَظَى
ومُلِئَتْ مِنْهُ الرُّبَى
يَا مَا أُحَيْلَى الْمُلْتَقَى
يَا قَوْمُ سُلُّوا المرهفاتْ
ثُمَّ اشْحذُوا بيضَ الظُّبَاةْ
وَيْلٌ لِقَلْبِ الْأُمَّهَاتْ
يُصْبِحْنَ يَوْمًا ثَاكِلَاتْ
بِسُيُوفِنَا وَحِرَابِنَا
(يدخل حمد بعد خروجهم.)
المشهد الرابع
(حمد وحده)
غنُّوا واهزجوا، واحلموا بالنصر؛ فسينقلب هذا الغناء عويلًا، فأنا وراءكم أهيئ
دماركم.
دارت رحى الحرب، وتلاحم الجيشان. إن النار تتصاعد من خلال الصفوف. هذا ابن حامد يفرق
الكتائب … لله دره من باسل! ولكنه لن يقوى على مناضلتي. هذا موسى … إنه كالأسد الهائج،
وهذا إبراهيم … إنه يبارز قائدًا إسبانيًّا، يا للعجب؛ فإن له عزم الفتيان، ظننت أن
الشيب هدَّ قُواه، فكيف السبيل إلى قتله؟ هو قويٌّ وأنا أرتعد من خيالي، ويقولون: إن
الموت في المعارك أول ما يصيب الجبناء أمثالي، فكيف العمل؟
لم يبق لي غير الغدر؛ فلأحاربهم به. أتفق مع الإسبانيين فأدخلهم ليلًا إلى مضارب بني
سراج فيفتكون بهم وهم نيام، فأسرق علم الجهاد، وأفتك بالشيخ إبراهيم، وأغنم كيسَ الذهب
الثاني.
إن ذلك سفالةٌ في عُرف من يدَّعون الشرف، لكنني — والحمد لله — لست منهم، فليقولوا
عني ما شاءوا، فالشرف فارَق نفسي منذ فارق الذهب جيبي.
حمي وطيس القتال، ورجحت كفة الفوز لابن حامد … تقهقر الإسبانيون إلى الوراء … لحق
بهم
العرب حتى المضارب … توقف القتال …
هذا ابن حامد وعشيرته يرجعون ثملين بخمرة النصر، فلأذهبْ لقضاء مهمتي وتدبير
المكيدة.
(يخرج وتُسمع من الخارج أَهازيج بني سراج.)
وَرِمَاحُنَا مِنْ خَيْزرَانْ
مِنْ خيْزرَان رِمَاحُنَا
وَسُيُوفُنَا تقدُّ الصخورْ
تقدُّ الصخورَ سُيُوفُنَا
وَخُيُولُنَا تَجُوبُ السُّهُولْ
تَجُوبُ السُّهُولُ خُيُولُنَا
رَايَاتُنَا بِرَاسِ الْجِبَالْ
بِرَاسِ الْجِبَالِ رَايَاتُنَا
المشهد الخامس
(ابن حامد – إبراهيم – موسى – المنصور – عمر حاملًا العلم – بضعة رجال
من بني سراج «وكلُّهم شاهرو السيوف»)
ابن حامد
:
وَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَالْأَسِنَّةُ شُرَّعٌ
وَنَادَى الْمُنَادِي لَا نَجَاةَ مِنَ الْحَتْفِ
عطفتُ عَلَى سيفِ المنِيَّةِ فَانْجَلَتْ
صُفُوفٌ وَكَانَ الصَّفُّ أَلْصَقَ بالصَّفِّ
فَرُحْتُ وَفِي وَجْهِي وُجُوهٌ عبُوسَةٌ
وَعُدْتُ وَأَشْلَاءُ الْفَوَارِسِ مِنْ خَلْفِي
وَقَسَّمَ سَيْفِي الْقَوْمَ قِسْمَةَ عَادِلٍ
فَأرْضِي الثَّرَى بالنِّصْفِ وَالطَّيْرَ بِالنِّصْفِ
إبراهيم
:
أصْلَيْتُهُمْ نَارَ الْجَحِيمِ فَأَدْبَرُوا
تَتَعَثَّرُ الْهَامَاتُ بِالْأَقْدَامِ
أَلْقَيْتُ دَرْسًا فِي الطعَانِ عَلَيْهِم
خُطَّتْ رَوَائِعُهُ بِحَدِّ حُسَامِي
موسى
:
للهِ قُومِي عِنْدَ مُشْتَجرِ القَنَا
إِذْ ثوَّبَ الدَّاعِي الْمهيبُ وَأَقْبَلُوا
قَوْمٌ إِذَا لَفَحَ الْهَجِيرُ وُجُوهَهُمْ
حُجِبُوا بِرَايَاتِ الْجِهَادِ وَظُلِّلُوا
المنصور
:
للهِ مَوْقفُنَا الَّذِي وَثَبَاتُهُ
وَثَبَاتُهُ مثَلٌ بِهِ يُتَمَثَّلُ
وَالْخَيْلُ خَطٌّ، وَالْمَجَالُ صَحِيفَةٌ،
وَالسُّمْرُ تنقطُ، والصَّوَارِمُ تشكلُ
ابن حامد
:
حيَّاكم الله، أيها الفرسان، ولا شُلَّت يمينكم، سيُسطِّر لكم التاريخ هذا
الموقف بمداد الفخر، فقد فتكتم فتك الأسود، وأظهرتم للعالم أن في المسلمين
بقيَّةً تذود عن حياضها. إنني أرى الشعب العربيَّ مُكبِّرًا لبسالتكم،
ومهلِّلًا لانتصاركم من مكة المقدسة إلى بغداد دار السلام إلى دمشق عاصمة
الأمويين إلى القاهرة قاهرة الفراعنة، وأشعر بعظام عبد الرحمن الداخل صقر قريش
تهتزُّ طربًا في قبرها مُحيِّيةً فيكم إباء العرب.
أجل، إننا تركنا في ساحة المعمعة عشراتٍ من الشهداء، ولكن قتلى العدوِّ أضعاف
قتلانا. رحم الله أولئك الشهداء، وجعل لكل منا نصيبهم، فمرحى لمن استشهد في
سبيل الوطن.
أيها الأبطال، إن غدًا الحد الفاصل بيننا وبين أعدائنا، فمن كان منكم أبًا
فليحارب في سبيل أولاده، ومن كان ابنًا ففي سبيل والديه، ومن كان عاشقًا ففي
سبيل حبيبته، حاربوا في سبيل الوطن؛ لأن بحياته حياة الأمة العربية
أجمع.
إبراهيم
:
هَذِي السُّيُوفُ جَمِيعُهَا ظَمْآنَةٌ
شَوْقًا لِنَهْلِ دَمِ العدوِّ المُعْتَدِي
وَغَدًا يَرَوْنَ الْمَوْتَ بَيْنَ صُفُوفِهِم
مُتَنَقِّلا فَإِلَى غَدٍ …
(يغمدون سيوفهم.)
ابن حامد
:
اذهبوا وانحروا الذبائحَ للجيش، وأعِدُّوا لنا القهوة.
(يضع عمر العلمَ في المكان المُعدِّ له ويخرج مع
الجنود.)
المشهد السادس
(ابن حامد – إبراهيم – موسى – المنصور)
ابن حامد
:
كم بلغتْ غنائمنا اليوم أيها الرفاق؟
موسى
:
لقد غنمنا من العدو مائتي مضربٍ، وثمانين حسامًا، وسبعين رأس غنم.
المنصور
:
وغنمنا أيضًا أربعين رأسًا من الخيل، وثلاثة مدافع، وخمسين ثورًا.
إبراهيم
:
هذا عدا المآكل والمؤن والذخائر مما لا يحصى عدده.
(يرجع عمر بقِرَب الماء وجرْن قهوة يدقُّ عليه أحدُ الجنود، ثم
يوقدون النار ويَشرعون بعمل القهوة.)
ابن حامد
:
وزِّعوا غنائم الملابس والمآكل ورءوس الخيل والغنم على الجنود لحثِّ حميتهم،
واستنهاض همتهم.
(تُقدَّم لهم القهوة فيشرعون بشربها، ويُسمع من الخارج صوتُ
الدُّفِّ والمزمار وأهازيج الجنود.)
إبراهيم
:
لقد رجعت الحماسةُ إلى رجالنا بعد هذه الموقعة، فلله الحمد.
ابن حامد
:
وهل نحرتم الذبائح وأطعمتموهم؟
عمر
:
أجل يا مولاي.
ابن حامد
:
وهل بعثتم بالرسل إلى غرناطة يحملون أخبار اليوم؟
عمر
:
لقد ذهب المبشرون منذ أكثر من ساعة.
(يدخل الجنود وهم يرقصون الدبكة برافقهم المجوز والدف وغيرهما،
ويدورون على المسرح راقصين هازجين، ثم يخرجون.)
ابن حامد
:
بقيَ علينا أمر حراسة العلم، فمن منكم يجد بنفسه القوة على السهر بعد تعب
النهار.
إبراهيم
:
أنا لها يا بني.
ابن حامد
:
أنت يا أبتاه! أنت تقوم بهذه المهمة؟
إبراهيم
:
أفلست أهلًا للقيام بها؟
ابن حامد
:
أنت أجدر الجميع ولكن …
إبراهيم
:
عزمتُ ولن أرجع عن عزمي. سأعود بعد قليل فابقَ بجانب العلم.
(يخرج إبراهيم.)
ابن حامد
:
وأنتم اذهبوا إلى خيامكم وخذوا لأنفسكم قليلًا من الراحة، وكونوا مستعدين لكل
طارئ.
المنصور
:
كن براحة بالٍ أيها الأمير؛ فلكلٍّ منا عينان؛ عينٌ تنام، وعينٌ ترقب.
ابن حامد
:
حييتم يا بني سراج.
(يخرج الجميع ما عدا ابن حامد.)
المشهد السابع
(ابن حامد وحده)
نَامَ الْجَمِيعُ وَكَيْفَ النَّوْمُ يَطْرُقُنِي
وَالنارُ فِي قَلْبِيَ الْمُشْتَاقِ تَضْطَرِمُ
نَامُوا هَنِيئًا لَكُمْ إِذْ لَيْسَ يَشْغلُكُمْ
مِنَ الْهَوَى أَمَلٌ مِثْلِي وَلَا أَلَمُ
أَبيتُ وَحْدِي فِي الظَّلْمَاءِ تُؤْنِسُنِي
ذِكْرَى دُرَيْدَ فَتُدْمِينِي وَأَبْتَسِمُ
يُرَفْرِفُ الْمَجْدُ فَوْقِي وَالْغَرَامُ مَعًا
كِلَاهُمَا خَافِقٌ مَا يَخفِقُ الْعَلَمُ
طيرَانِ وَكْرُهُمَا قَلْبِي وَمَا بَرِحَا
فِيهِ، قِرًى لَهُمَا لَحْمٌ بِهِ وَدَمُ
المشهد الثامن
(ابن حامد – إبراهيم)
إبراهيم
:
قم إلى مضربك يا ابن حامد.
ابن حامد
:
رجاءٌ آخر يا أبت، أنا أحرس العلم مكانك.
إبراهيم
:
لا تحاول منعي يا بني عن القيام بهذا الواجب المقدَّس.
ابن حامد
:
إذن أستودعك الله، وإلى الغد.
(يخرج ابن حامد فيتمشى إبراهيم قليلًا.)
إبراهيم
(يخاطب العلم)
:
أيتها القطيفة الخضراء، يا رمز الأمل، وبنت المجد؛ اخفقي بما في صدرك من
اختلاج قلوبنا، وميلي بما في عطفك من تردُّد أنفاسنا، واشمخي بما في تاريخك من
عز غابر، وانتصاراتٍ باهرة، المجد نسرٌ مرفرفٌ عليك، والنصر فرخٌ خافقٌ بين
جناحيك، فيا لله ما أعظمك!
أنت صحيفةٌ مجيدةٌ شِفارُ الأسنة أقلامها، ودم القلوب مدادها، وآي النصر
كلماتها، وأنت وديعةٌ ثمينة مرَّت على مرِّ الأجيال من أيدي أبطالٍ إلى أيدي
أبطال، فكانت فخار الإسلام، ومحط آمال المسلمين.
(يدخل حمد ويطعنه بخنجره وينتشل العلم.)
المشهد التاسع
(حمد – ابن حامد)
حمد
(والعلم في يده)
:
قتلت إبراهيم وامتلكت العلم، فأصبت رميتين بحجرٍ واحد، وغدًا أصبح من
الأغنياء فأُكفِّر عمَّا مضى. هه، هه، لقد وصل الإسبانيون فلْأُسلِّمهم
العلم.
(يخرج فيدخل ابن حامد.)
ابن حامد
:
سمعتُ حركةً فماذا جرى؟ أين العلم؟ هذا إبراهيم قتيل … (يركع بجانبه) إن يده باردة ولا أثر فيه للحياة
… رحمك الله يا والد الحبيبة، كان الأولى أن تموت في ساحة القتال لا غدرًا
وغيلةً (تسمع ضجة من الخارج) أسمع صليل
سيوف … يا بني سراج هبُّوا إلى سلاحكم (صراخ من
الخارج) خيانة، خيانة.
(يدخل إلى المسرح جنود إسبانيُّون من جهة، وبنو سراج من الأخرى
وهم مجرِّدون سيوفهم، فيرخى الستار ثمَّ يُرفع عن جثة إبراهيم، وعن ابن حامد طريحًا
بين عدد من القتلى العرب والإسبان. وبعد قليل يدخل بنو سراج.)
المشهد العاشر
(موسى – المنصور – عمر – بضعة جنود من بني سراج)
موسى
:
هذه جثة ابن حامد.
(يقترب الجميع منها ويركع موسى بقربه.)
شكرًا لله فهو لا يزال حيًّا.
(يأخذ بفَحْص جراحه.)
المنصور
(وهو يفتش بين الجثث)
:
إبراهيم قتيل، والعلم فقد، فتبًّا لهذه الليلة ما أشأمها!
موسى
:
لنعتنِ الآن بابن حامد ونحمله إلى غرناطة، ثم نرسل رجالًا يحملون جثة إبراهيم
إلى ابنته. سيروا بنا يا بني سراج واحملوا أميركم.
(يحملون ابن حامد ويخرجون، ثم تدخل دريدة.)
المشهد الحادي عشر
(دريدة وحدها)
أين جثتك يا أبي؟ أين هي لأُقبِّلها القبلة الأخيرة، وأُزوِّدها بالنظرة الأخيرة،
وا
تعس حظِّي! فأبي مات، وابن حامد جريح، وقد التقيت به يحمله رجال قبيلته، فأي رجاءٍ لي
بعد في الحياة؟ أين أنت يا أبي؟ (تفتش بين الجثث)
هذا هو، أبتاه، وا رحمتاه عليك (ترتمي على
جثته).
(ستار)