بين الجامع والنَّطْع
- المكان: في حي بمدينة غرناطة.
- المنظر الأول: داخل منزل دريدة.
- المنظر الثاني: في السجن المظلم.
المنظر الأول
(في منزل دريدة.)
المشهد الأول
أين أنت الآن يا أبي؟ وأين تسبح روحُك؟ إنها لا شك في السماء تنظر إلي أنا الشقية ولا تمد يدًا لمساعدتي. أرى الكون من بعدك قاعًا صفصفًا لأنك لست فيه، وأرى الناس كأنني لا أرى أحدًا لأنك لست بينهم.
ابن حامد في غياهب السجن، وأبو عبد الله يريدني فريسةً له. إنما خسِئ الظالمُ؛ فلن يصل إليَّ وفيَّ بقيَّة روح.
(يدخل عثمان.)
(تخرج وعثمان، وبعد قليل يدخل أبو عبد الله وعلي.)
المشهد الثاني
ها هي أقبلت يا مولاي، انظر إلى هذا الجمال الفتان، فقد زاده الحزنُ سحرًا. لله ما أجمل عينيها المنكسرتين!
المشهد الثالث
المشهد الرابع
المنظر الثاني
(في السجن: حصير بالٍ، باب حديدي مع قضبان، ظلمة.)
المشهد الخامس
خسرت شرفي … أين العلم … خيانة … إليَّ يا بني سراج … فقدتُك يا دريدة …
(يستفيق.)
أين أنا؟ هذا المكان ليس مضربي … وهذه الظلمة … أتراني في السجن؟
(يفكر.)
أوَّاه! لقد تذكرت … ألم أكن في حلم؟ وفقدان العلم، وموت والد دريدة، وتشتُّت رجالي، إذن كل ذلك كان حقيقة.
ليتني بقيت نائمًا إلى الأبد فلم تتأكَّل هذه الحسرةُ فؤادي. تبًّا لتلك الليلة ما أشأمها! لا شك أنني كنت ضحية مكيدةٍ هائلة. مَن دبَّرها؟ وهل يُمكن أن يُدبرها غير أبي عبد الله وعلي؟ فويلٌ لهما من نقمتي!
ولكن ما تراه حل بدريدة بعد موت أبيها وسجني؟ لا شك أنها فريسةٌ لأبي عبد الله جكط فكيف السبيل إلى الخلاص لأحميها؟ ربِّ خلصني من هذا الأسر لأُخلِّص نعجةً طاهرةً وقعتْ بين مخالب ذئاب كاسرة، حطِّم قيودي؛ فإن دريدة بحاجةٍ إليَّ وإلى معونتي.
(يدخل حمد وبيده قصعة فخار وكسرة خبز.)
المشهد السادس
إنها تقترب … أعرني أذنيك؛ فاليوم يوم الزفاف.
(يسمع من الخارج هتاف الشعب: لِيَحيَ السلطان، لِتَحيَ الملكة دريدة!)
أسمعت؟ وهل فهمت ما يقولون؟ إنهم يصرخون: لتحيَ الملكة دريدة!(يهُمُّ بضربه فيهرب من أمامه.)
المشهد السابع
لعلعي يا رعود، والمعي يا بروق، وتدفقي يا سماء بالصواعق، وتمخَّضي يا أرض بالزلازل، ففي البشر أقذارٌ أجدر بها الحرق، وفي القلوب أفاعٍ أولى بها السحق.
اسمعي يا سماء، واشهدي يا كواكب: كل ما في نفسي من عواطف قطَّرته، وكل ما في شبابي من آمال جمَّعته، فسكبت من ذلك الكل حبًّا شريفًا طاهرًا سكبته لدى عذراء حسبتها شريفةً طاهرة، فإذا بها خدَّاعةٌ ماكرة، وها هي تسحق قلبي بيديها، وتدوس حبي بقدميها.
كم نادتني بحبيبها! وكم بكت لفراقي! وكم خفق فؤادها بقربي خفوق فؤادي! حتى إذا ما أفل نجمي نبذتني نبذ النواة.
يا أرض، إن نداك يمتزج بالتراب فيحول وحلًا، ولكن الحب، ذلك الندى السماوي المتفجر من قلب السماء، أيمكن أن تحوله القلوب كما يحول التراب الندى؟ ويلٌ لك أيها الكون! وويلٌ لكم أيها البشر!
ولكن رباه … إنني لا أزال أحبها … ولا يزال قلبي يخفق لذكرها؛ دريدة، دريدة، لقد فقدتك إلى الأبد.
أرى أدمعي تنهلُّ أنا الرجل القوي الذي لم يذرف دمعةً في حياته، وأنا الذي لا يرهبني الموت ولو تجسَّم رجلًا أشعر برعدة الذعر تتمشَّى في عروقي.
لتلعنْك السماء يا من نغَّصت أيامي، لتلعنك السماء يا من خنت عهودي … ولكن لا … ليسامحك الله لقاء أيامٍ سعيدةٍ أوليتنيها، ليغفر لك الله ويملأ حياتك بالهناء؛ فإنني لا أجسر أن أدعو عليك بالشقاء.
وأنت يا مَن تضع ذراعك الآن بذراعها، حذارِ أن تُعذِّبها؛ فجسمها أرقُّ من أن يحتمل عذابًا، حذارِ أن تكون سببًا لبكائها؛ فإن عينها المنكسرة تُقرِّحها الدمعة. كن رفيقًا بها كي لا تتأسف على خيانتي فتصبح صفراء ناحلة. متى وضعت شفتيك على شفتيها فألهها عن تذكُّر قبلتنا الأولى، قبلة الوداع، فلربما بكت وأنا لا أتمنى لها إلا الابتسام!
ولكنني أشعر بألم. أرى دمًا يسيل من جسمي … لقد تفتحت جراحي … إنني من البشر، وهذا العذاب فوق طاقة البشر.
(يقع مغميًّا عليه.)
المشهد الثامن
(يظهر علي.)
(يخرج علي.)
المشهد التاسع
هنا عشٌّ كان مأوى عاشقين في مقتبل العمر، هنا جلس وجلست للمرة الأخيرة، وهنا ناجته وناجاها فأقسم لها على تضحية حياته في سبيلها، وحلفت له أن لا تخون عهوده.
وسقط الدهر كالنسر على ذلك العش فحطَّمه. أما هو فما زال أمينًا لعهودها، أما هي فخانته. ويا لها من خيانة!
إيه غرناطة! لقد كنتِ ربيعًا لزهور آمالي. أما الآن فما أنت إلا خريف ذابل الإهاب، خريفٌ تنثر الأيام أوراقه، فتحملها العواصف إلى الوادي، وادي الصدى، وادي الذكرى، حيث تُدفَن إلى الأبد.
هنا انفتح قلبي لحُبِّها كما يَنفتِح كمُّ الزهرة لاقتبال ندَى الفجر، هنا سكبتُ روحي على قدميها، وأحببتها بكل ما في نفسي من الخوالج.
هنا كنا نتخطَّر معًا والمُنى مِلءُ قلبينا، وهناك على تلك الساقية كم جلسنا وتناغينا، وهناك تحت تلك السروة كم هزجنا وابتسمنا! وهناك … وهناك … ويلاه إنني لا أقوى على تذكر تلك الأيام السعيدة! فقلبي يتحطَّم بين ضلوعي. سلام يا غرناطة، سلامٌ يا مهد غرامي، وقبر آمالي! وحذارِ فانتقامي سيكون هائلًا!
(يخرج.)