ماهية علم الجِينوم
يُعد التعرف على ماهيَّة الوراثة واحدًا من أعظم الانتصارات التي حقَّقها العلم في القرن العشرين. فالحمض النووي أو الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين — الذي يُعرَف اختصارًا ﺑ «دي إن إيه» — والذي اكتُشف لأول مرة في عام ١٨٦٩ على يد طبيب سويسري يُدعى فريدريش ميشر، كثيرًا ما يوصف بأنه «جزيء الحياة الرئيسي»؛ إذ تتكوَّن منه الجينات، ويُمثِّل المادة الوراثية التي تنقل الكائنات الحية من خلالها الصفات الجسدية والسلوكيات الفطرية إلى نسلها. ومن منظور التكوين البنيوي والكيميائي، فإن الحمض النووي جُزيء بسيط نسبيًّا، لكنه قادرٌ على تخزين كميات هائلة من المعلومات. ويستخدم علماء الأحياء مصطلح «جِينوم» ليشيروا به إلى إجمالي مجموع جزيئات الحمض النووي داخل الخلية الواحدة أو الخلايا المتعددة المكوِّنة لكائنٍ حي. وهكذا يحتوي الجينوم على جميع جينات الكائن الحي بالإضافة إلى ما يُسمَّى بالحمض النووي «غير المشفِّر». وقد يتباين قدر الحمض النووي غير المشفِّر (الذي أحيانًا ما يُسمى الحمض النووي «العديم الفائدة») في الجينوم الواحد من نوع إلى آخر من الكائنات. تجدر الإشارة كذلك إلى أن الكائنات الحية المُعقَّدة كثيرًا ما تحمل أكثر من جينوم؛ فقد يوجد الحمض النووي في حُجيرتين مستقلتين أو أكثر داخل الخلية. فالإنسان مثلًا لديه جينومان؛ أحدهما في نواة الخلية، والآخر في «مصنع إنتاج الطاقة» الخلوي، المعروف بالميتوكوندريون. ويختلف حجم الجينومات وتكوينها اختلافًا كبيرًا حسب نوع الكائن الحي الذي توجد فيه.
بيولوجيا الخلايا
إن اللبنة الرئيسية للحياة على كوكب الأرض هي الخلية، ويوجد منها نوعان رئيسيان؛ الخلايا البدائية النواة والخلايا الحقيقيَّة النواة. تمثِّل بدائيات النواة الكائنات المجهرية الوحيدة الخلية التي تتضمن عددًا لا حصر له من البكتيريا التي توصَّل إليها العلم، كالإشريكية القولونية الموجودة في أمعائنا واليرسينية الطاعونية المُسبِّبة لوباء الطاعون، والمكورة العقدية التي تساهم في تسوُّس الأسنان والمكورة العنقودية التي تسبِّب العدوى الجلدية، واللاكتوباسيلس التي نستخدمها في صناعة الزبادي، والبكتيريا الزرقاء التي تمارس عملية التمثيل الضوئي في مياه المحيطات، والبكتيريا المثبِّتة للنيتروجين التي تعيش في علاقة تكافلية مع جذور النباتات. كل تلك البكتيريا وأنواع أخرى أكثر بكثير تُصنَّف ضمن بدائيات النواة.
تشمل بدائيات النواة أيضًا «العتائق»، أو البكتيريا العتيقة، وهي مجموعة من الكائنات الوحيدة الخلية المعروفة بدرجةٍ أقل، وتعيش غالبًا في البيئات ذات الظروف المناخية القاسية. تستطيع العتائق أن تعيش في درجات حرارة تتعدى ١٠٠ درجة مئوية في الينابيع الحارة والمَنافس الحرارية المائية في قاع المحيطات، في حين أن أنواعًا أخرى منها تنمو في بيئات شديدة الملوحة مثل الملَّاحات الشمسية، التي قد تزداد درجة ملوحتها لتصل إلى مقدار يساوي ملوحة ماء البحر عشر مرات. غير أن هناك عتائق أخرى تُعد «مُحبة للأحماض»؛ إذ عُثر عليها تعيش في أحواضٍ كبريتية ومياه التصريف الحمضية من المناجم عند مستويات من الأس الهيدروجيني تقترب من الصفر (على مقياس يمتد من صفر إلى ١٤).
كقاعدة أساسية، فإن جميع الكائنات التي تُرى بالعين المجردة كائنات حقيقية النواة — مثل الحيوانات، والنباتات، والفطريات، والطحالب البحرية البنية، وما إلى ذلك — وكذلك تضم حقيقيات النواة مجموعةً واسعة من الكائنات المجهرية الوحيدة الخلية كطحالب البرك، والعوالق النباتية في المحيطات، والأميبات في التربات، وبعض مسببات الأمراض مثل البكتيريا المسبِّبة للإصابة بالملاريا، التي تُدعى المتصوِّرة. هذا وتتألف الجينومات النووية في الخلايا الحقيقية النواة من عدة جزيئات طولية من الحمض النووي، في حين أن الجينومات في بدائيات النواة، وكذلك تلك التي في العضيات، عادةً ما تكون دائرية بطبيعتها. ومع التنقل عبر الفصول التالية، ستُستعرَض اختلافات أخرى متنوعة بين الخلايا البدائية النواة والحقيقية النواة.
لاحظْ أنني لم أُدرج الفيروسات في هذا الاستعراض العام لبيولوجيا الخلية. والعِلة في ذلك أنها لا تنتمي إلى بدائيات النواة ولا إلى حقيقيات النواة. بل إنَّ كثيرين من علماء الأحياء لا يعتبرون الفيروسات كائنات حية أصلًا؛ لأنها تعتمد على آليات عمل الخلية لكي تتكاثر (توجد فيروسات معروفة تصيب كلًّا من بدائيات النواة وحقيقيات النواة). لكن هذا لا يعني الانتقاص من أهميتها؛ فالفيروسات الموجودة على كوكب الأرض أكثر بكثير من البكتيريا (علمًا بأن عدد البكتيريا كبير أصلًا)، وكذلك تتنوع الفيروسات تنوعًا مذهلًا في أشكالها ووظائفها. وتتفرد الفيروسات أيضًا بأنَّ بعضها يحوي جينومًا قائمًا على الحمض النووي الريبوزي الذي يعرف اختصارًا ﺑ «آر إن إيه»، على عكس الكائنات الخلوية التي تستخدم الحمض النووي فقط مادةً وراثية. وسنستكشف تنوع الفيروسات والجينومات الخاصة بها في الفصل السادس، وهو مجال بحثي شائق يحظى بطفرة متجددة في الاهتمام به بفضل التقنيات الحديثة المستخدَمة لتحديد تسلسل الحمض النووي.
بيولوجيا الجزيئيات
تعمل جزيئات الحمض النووي الريبوزي كحلقة وصل بالغة الأهمية بين الجينات الموجودة في الحمض النووي والبروتينات التي تحددها. وفي حين أن الحمض النووي والحمض النووي الريبوزي سلسلتان خطيتان من النيوكليوتيدات، فإن البروتينات بوليمرات مكوَّنة من أحماضٍ أمينية. يوجد عشرون نوعًا مختلفًا من الأحماض الأمينية في البروتينات الموجودة طبيعيًّا، وكل نوعٍ منها «متأصِّل» فيما يُسمَّى الشفرة الوراثية العامة. وتُعَد الشفرة الوراثية التي تستخدمها جميع الخلايا (البدائية النواة والحقيقية النواة) شفرة ثلاثية؛ أي إن كل حمض أميني محدد «يُشفَّر» بفعلِ «كودون» ذي ثلاث قواعد نيتروجينية. وتظهر هذه الكودونات واحدًا تلو الآخر في تسلسل جينات الحمض النووي، وتُحوَّل تلك الكودونات إلى حمض نووي ريبوزي عن طريق عمليةٍ يُطلق عليها «النسخ». ثم يُستخدم هذا الحمض، الذي يُطلق عليه الحمض النووي الريبوزي المرسال، كقالب لتخليق البروتينات؛ وفي أثناء عملية «الترجمة»، ترتبط الأحماض الأمينية بعضها ببعض ارتباطًا خطيًّا بالترتيب الدقيق الذي حدَّدته الكودونات في الجين (ارجع للشكل ١-٢).
يُعَد تخليق البروتين عملية معقَّدة للغاية؛ إذ إنها تتضمَّن العشرات من جزيئات البروتينات والحمض النووي الريبوزي. وتحقيقًا لمقاصدنا، يكفي أن ندرك أننا، بسبب استخدام الشفرة الوراثية نفسها في تخليق البروتين لدى معظم الكائنات الحية التي فُحصَت، يمكننا أن نتوقع بثقة عالية تسلسُلَ الأحماض الأمينية المكوِّنة لأي بروتين معين، استنادًا إلى تسلسل الحمض النووي المكوِّن للجين الخاص به. ببساطة، تُعَد الجينات التي تُشفر البروتين سلاسل طويلة من كودونات مكوَّنة من ثلاث نيوكليوتيدات، ويمكننا، بمساعدة جهاز كمبيوتر، أن نبحثَ عبر كل الحروف الكيميائية التي تُشكِّل جينومًا بعينه ونحدد الجينات بداخله. (تجدر الإشارة إلى أن الباحثين قد وثَّقوا بضعًا من حالات «إعادة تعيين الكودون»؛ أي الحالات التي تُستخدم فيها كودونات معينة ثلاثية القواعد داخل جينوم كائن حي بهدف تحديد حمض أميني مختلف عن ذلك الذي في الشفرة المعيارية. غير أن هذه الأمثلة نادرة للغاية؛ ولذا توصف الشفرة الوراثية عمومًا بأنها «عامة»؛ فطبيعتها المعقَّدة والاعتباطية إلى حدٍّ ما تُشير بوضوح إلى السلف المشترك الذي نشأت منه كل أشكال الحياة على وجه الأرض.)
الجينومات بالأرقام
المقصود بالتحديد التام لتسلسل جينوم كائن حي هو تحديد الترتيب الدقيق لكل قواعد الأدينين والسايتوسين والجوانين والثايمين الموجودة في حمضه النووي. غير أن حجم الجينوم يختلف اختلافًا شاسعًا من نوع إلى آخر، وكلما كان الجينوم موضع الاهتمام أكبر حجمًا، ازدادت التحديات المرتبطة بتحديد تسلسله. لهذا ليس من المستغرَب أنَّ مجال علم الجينوم البحثي بدأ بدراسة الجينومات الصغيرة في بدائيات النواة والفيروسات. فأول جينوم حُدِّد تسلسله، وذلك في عام ١٩٧٦، كان جينومًا لفيروس تتمثل مادته الوراثية في الحمض النووي الريبوزي، ويُطلَق عليه إم إس ٢، وهو «عاثية» تصيب بكتيريا الإشريكية القولونية والبكتيريا المتعلقة بها. ويكاد جينوم هذا الفيروس يكون بسيطًا بقدر البساطة التي يُمكن أن يُصبح عليها أي جينوم؛ إذ يبلغ طوله حوالَي ٣٦٠٠ زوج قاعدي، ويحتوي فقط على أربعة جينات مُشفِّرة للبروتين. ثم رُصد تسلسل أول جينوم أساسه الحمض النووي بعد فترة قصيرة، وكان جينومًا للعاثية «فاي إكس ١٧٤». وهذا الفيروس له تاريخ طويل في أبحاث علم الأحياء الجزيئي ولا يزال يُستخدم حتى اليوم. فنظرًا إلى صغر حجمه (إذ يصل طوله إلى حوالَي ٥٤٠٠ زوج قاعدي، ويحتوي على أحد عشر جينًا مُشفِّرًا للبروتين)، كثيرًا ما يُستخدم كمجموعة ضابطة إيجابية في المختبَرات المختصة بعلم الجينوم بهدف التيقن من أن وسائل تحديد التسلسل والأدوات المعلوماتية الحيوية تؤدي دورها كما ينبغي.
تحمل بكتيريا الإشريكية القولونية، التي تُستخدم كثيرًا في التجارِب المختبَرية في أوساط الأبحاث الأساسية والتطبيقية، جينومًا يبلغ طوله حوالَي ٤٫٦ ملايين زوج قاعدي، وتحتوي على حوالَي ٤٣٠٠ جين مُشفر للبروتين (تجدر الإشارة إلى أنَّ تسلسل الجينومات قد حُدد في مئات من سلالات الإشريكية القولونية المختلفة حتى الآن، والفارق الجوهري الذي لوحظ بينها يُسفِر عن اختلافات مهمة في قدرة تلك السلالات على الإمراض). يمتد جينوم الإشريكية القولونية في خط مستقيم يبلغ طوله حوالَي ١٫٥ مليمتر، وهو أمر استثنائي نظرًا إلى أنَّ قُطر اللولب المزدوج للحمض النووي يصل إلى نانومترين فحسب، وأنَّ طول خلية مفردة من خلايا بكتيريا الإشريكية القولونية يبلغ حوالَي ميكرومترين فقط. وكذلك قد تضم الإشريكية القولونية وغيرها من البكتيريا «بلازميدات»، وهي جزيئات حلقية من الحمض النووي بالغة الصغر، تختلف في طبيعتها المادية عن الجينوم الرئيسي للخلية. وعادةً ما يصل طول البلازميدات إلى أقل من ١٠ آلاف زوج قاعدي، ولا تحتوي إلا على عدد يتراوح بين بضعة جينات وبضع عشرات منها. هذا وتُنقل البلازميدات في الطبيعة من خلية إلى أخرى مرارًا، ويمكن معالجتها وإجراء تعديلات عليها بسهولة في المختبَر؛ لذا تُستخدم على نطاق واسع في الهندسة الوراثية.
أمَّا الجينوم البشري، فيتألف من حمض نووي يبلغ طوله حوالَي ٣٫٢ مليارات زوج قاعدي. ويحتوي الكروموسوم البشري في المتوسط على حمض نووي طوله حوالَي ٥ سنتيمترات، وإذا أُخذ في الحُسبان كل أزواج الكروموسومات التي يبلغ عددها ثلاثة وعشرين زوجًا، نجد أن نواة كل خلية من خلايانا تحمل سلسلةً منضغِطة طولها حوالَي مترين من الحمض النووي. وهذه الأرقام تُبرِز الانضغاط الهائل الذي لا بد من حدوثه لكي ينحشر الحمض النووي داخل الخلية (ارجع للشكل ١-٢). وكذلك تُبين الصعوبات التي تواجه محاولة تحديد أي تسلسل جينومي، وتحديد الأجزاء المعينة من الحمض النووي التي تُمثِّل جينات.
ما زلنا لا نعرف عدد الجينات الموجودة في الجينوم البشري. فالتقديرات الحالية تتراوح بين ١٩ ألفًا و٢٥ ألفًا، لكن لا أحد يعرف على وجه اليقين. ويرجع ذلك إلى أسبابٍ عديدة. فكثير من الشكوك تُحيط بحقيقة أن نسبة الجينات المُشفرة للبروتين تبلغ نحو ١ في المائة فقط من إجمالي الجينوم البشري، والجينات نفسها كثيرًا ما تكون مُقسَّمة إلى أجزاء. إنَّ الجينات في جينومات الخلايا البدائية النواة عبارة عن سلاسل متجاورةٍ ومتواصلةٍ من الكودونات المُحدِّدة للأحماض الأمينية، وإن عملية اكتشاف الجينات عادة ما تكون سهلة في تلك الحالة. ولكن في الخلايا الحقيقية النواة، فإن المقاطع الجينية التي تحتوي على كودونات، والتي تُسمَّى «الإكسونات»، تَقْطعها امتدادات من الحمض النووي غير المُشفِّر، تُسمى «الإنترونات». تُنسخ الإنترونات لتكوِّن الحمض النووي الريبوزي لكنها تُجرى إزالتها («تضفيرها») قبل استخدام الجزيء كقالب لتخليق البروتين. وكثيرًا ما تحمل الجينات البشرية عشرات الإنترونات، التي قد يصل طولُ كلٍّ منها إلى عشرات الآلاف من النيوكليوتيدات. ومن ثَم، فإن تمييز الإكسونات من الإنترونات ومن أشكال أخرى من الحمض النووي غير المشفِّر يشكِّل تحديًا. صحيح أن بعض علماء علم الأحياء الجزيئي ابتكروا تقنيات مختلفة للبحث في كميات هائلة من بيانات تسلسل الجينومات والتركيز على الكودونات المُحدِّدة للبروتين فقط، ولكن لا تزال الأدوات أبعد ما تكون عن تحقيق الأداء المثالي، ويزيد على ذلك أنَّ ما يجدي استخدامه لتحديد تسلسل جينوم كائن حي قد لا يجدي مع جينوم كائن حي آخر.
ومن المشكلات المرتبطة بذلك السياق أن مقاطع كبيرة من الجينوم البشري لم يُحدَّد تسلسلها بَعْد، ويرجع ذلك إلى التحديات التقنية المرتبطة بتحديد تسلسل أنواع معينة من الحمض النووي، مثل سلاسل النيوكليوتيدات المتكرِّرة. ونظرًا إلى طبيعة تلك التسلسلات، من المستبعَد أن تكون تلك المقاطع الناقصة التي لم يُحدَّد تسلسلها غنية بالجينات، ولكن من الممكن ظاهريًّا أنَّ تلك الأجزاء من الجينوم ما زالت تحمل جينات مختبئة فيها. ولذا ما زالت الجهود مستمرة من أجل تحسين جودة تسلسل الجينوم البشري المرصود، مستفيدةً من أحدث الأجهزة في تحديد تسلسل الحمض النووي وتحليله.
من المهم أيضًا إدراك أن التعريف الدقيق لماهية الجين نفسه قد يتفاوت. فمع أن المساعي الرامية إلى تحديد تسلسل الجينوم تميل إلى التركيز على الجينات المُشفِّرة للبروتين، فإنَّ جميع الخلايا لديها مجموعة متنوعة من جينات الحمض النووي الريبوزي غير المشفِّرة التي لا يُعَد منتجها النهائي الوظيفي هو البروتين، وإنما جزيء الحمض النووي الريبوزي نفسه. تجدر الإشارة إلى أنَّ بعض جزيئات الحمض النووي الريبوزي غير المشفِّرة هذه معروف منذ زمن طويل. وهي تشمل جزيئات الحمض النووي الريبوزي «الريبوسومية» التي تُعد مكونات حمض نووي ريبوزي للريبوسوم المُساهم في تخليق البروتين، وجزيئات الحمض النووي الريبوزي «الناقلة» التي تتمثل وظيفتها في حمل أحماض أمينية مفردة إلى موقع استطالة سلسلة البروتين. ويتجلَّى أحد الاكتشافات، التي توصلت إليها أبحاث علم الجينوم في العقد الماضي، في فَهْم أنَّ الجينات المُشفِّرة للبروتين تُخبئ فيما بينها عدة مئات من الجينات الصغيرة المُشفِّرة للحمض النووي الريبوزي، التي تتسم نواتجها بتنوع وظيفي أفضل بكثيرٍ ممَّا كان يُعتقد أنه ممكن أصلًا. وتشمل هذه النواتج جزيئات الحمض النووي الريبوزي «الدقيقة»، وهي فئةٌ مكوَّنة من جزيئات حمض نووي ريبوزي مُنظِّمة صغيرة ترتبط بجزيئات الحمض النووي الريبوزي المرسال، وفي أثناء ذلك تضبط التعبير عن الجينات المُشفِّرة للبروتين. ومن خلال التأثير في وقت تنشيط تلك الجينات وتثبيطها، فإن جزيئات الحمض النووي الريبوزي الدقيقة لديها إمكانية التأثير في بعض العمليات الخلوية الرئيسية، مثل تضاعف الحمض النووي وانقسام الخلايا.
ما زال ينقصنا الكثير لنتعلمه عن حجم «الصندوق الأسود» لبيولوجيا الحمض النووي الريبوزي الصغير وتعقيده، وأكرِّر مجددًا أن التطورات التكنولوجية سمحت للباحثين بأن يسلكوا اتجاهات جديدة مثيرة. وبذلك يظل مفهوم «الجين» مستمرًّا في التطور.
لماذا نحدد تسلسل أحد الجينومات؟
قبل أن نصرف انتباهنا إلى التفاصيل العملية الأساسية المتعلقة بكيفية تحديد تسلسل الجينومات، دعونا نفكر ما السر وراء الاهتمام الشديد بفعل ذلك والإثارة الهائلة الكامنة فيه. فما الفائدة المرجوة من تحديد تسلسل جينوم الكائن الحي؟ ولماذا يُعَد الحصول على قائمة بكل جيناته مهمًّا جدًّا؟ أحيانًا ما يوصَف الحمض النووي بأنه «وصفة» للحياة، ويوصَف الجينوم بأنه «قائمة مكونات» الخلية. صحيح أن هذين التشبيهين ليسا مثاليين، لكن من المؤكَّد أننا، من دون قائمة كاملة بالجينات، لن نستطيع أبدًا فهم بيولوجيا الكائن الحي فهمًا تامًّا. غير أنَّ تسلسل الجينوم وحده لا يُخبرنا بكل ما نحتاج إلى معرفته، إطلاقًا. فما زالت توجد جينات كثيرة في الإنسان والكائنات الحية الأخرى لم تُوضَّح وظائفها. إذ إن معرفة تسلسل الجين (والبروتين الذي يُشفِّره) لا تخبرنا بالضرورة بأي شيء عن وظيفته (أو وظائفه) في الخلية، والجينات لا تعمل وحدها بمعزل عمَّا يحيط بها. فالجينات والبيئة تتفاعلان معًا بطرق معقَّدة؛ إذ تؤدي كلتاهما أدوارًا مهمة في حياة الكائن الحي. لكنَّ تحديد تسلسل جينومي كامل يُعَد بمثابة نقطة انطلاق قيِّمة جدًّا — وأقرب منالًا من أي وقت مضى — يستطيع الباحثون أن يحصلوا منها على معلومات عن وظائف الجينات والبروتينات من خلال تجارب معملية.
الأمر الذي لا يقل أهميةً عن وجود قائمة بجينات الكائن الحي هو معرفة متى تكون الجينات نشطة أو غير نشطة على مدار تاريخ حياتها. ففي الأنواع المعقدة المتعددة الخلايا، لا ينشط عند أي وقت معين سوى جزء بسيط من الجينات داخل الجينوم (أي: يُنسخ إلى حمض نووي ريبوزي مرسال؛ ومن ثَم يُستخدم في تخليق البروتينات). وما يؤدي إلى تمايز الخلايا والأنسجة هو توالف مجموعات فرعية معينة من البروتينات في خلايا مختلفة في الوقت المناسب. وحتى في الميكروبات الوحيدة الخلية، تتغير أنماط التعبير الجيني استجابةً للبيئة المحيطة بها، كالتغيرات في شدة الضوء، وتركيز العناصر المغذية، ووفرة الفيروسات، إلى غير ذلك. وإذا فُحصَت أنماط التعبير الجيني فحصًا منهجيًّا، فيمكنها أن تقدم خيوطًا مفيدة لمعرفة الوظائف التي قد تؤديها جينات وبروتينات معينة. وأحد الأمثلة المهمة على ذلك هو دراسة بعض الأمراض البشرية مثل السرطان الذي ينشأ غالبًا عند حدوث طفرة في جينات معينة و/أو تنشيط جينات معينة أو تثبيطها على نحو خاطئ.
وكما سنرى في الفصل الخامس، تُستخدم تسلسلات الجينوم الكاملة لمعالجة مسائل جوهرية في علم الأحياء التطوري عبر نطاق واسع من النطاقات الزمنية. ومن بين هذه الموضوعات دراسة أنماط الهجرة البشرية المبكرة، وكيف نختلف نحن البشر عن أقرب أقربائنا من غير البشر؛ أي: أفراد سلالة النياندرتال التي صارت منقرِضة. وكذلك تُستخدم البيانات الجينومية لدراسة كيفية تطور الحيوانات والنباتات المتعددة الخلايا، بل تعود بالزمن أكثر إلى الوراء، فتدرس كيفية تطور أولى الخلايا الحقيقية النواة من أسلافها البدائيات النواة. وكما سيُناقَش في عدة فصول تالية، يستخدم الباحثون مجالًا فعالًا يُسمَّى «علم الميتاجينوم» (أو علم الجينوم البيئي أو الميتاجينوميكس) يتيح لهم الوصول إلى حدٍّ أبعد من تحليل جينوم واحد فقط في المرة الواحدة؛ ليدرسوا بذلك خلائط معقدة من جزيئات حمض نووي مُستخلَصة مباشرةً من البيئة، بما في ذلك عينات من التربة والماء، والهواء أيضًا. وتُعد أمعاء الإنسان أحد الموضوعات التي يوليها علم الميتاجينوم تركيزًا مكثَّفًا بالأخص. إذ يمكن لبيانات تسلسل الحمض النووي المأخوذة من مثل هذه العينات أن تخبرنا بأمور كثيرة عن المجتمعات الميكروبية الموجودة داخلها؛ فبإمكاننا الآن أن نحاول معرفة هوية الكائنات الموجودة هناك وماهية ما تفعله، دون استخدام المِجهر على الإطلاق. هذا ويقوم كل موضوع من الموضوعات التي تركز عليها الأبحاث المتنوعة هذه على مجموعة شائعة من أدوات تحديد تسلسل الحمض النووي وتجميع الجينوم. ولأن الحمض النووي يبقى حمضًا نوويًّا، بغضِّ النظر عن مصدره، سرعان ما تنتقل التطورات التكنولوجية من أحد مجالات علم الجينوم إلى مجالات أخرى.