علم الجينوم وعالم الميكروبات
تحديد التسلسل الجيني من عينات بيئية
في ثمانينيات القرن العشرين، ابتكر نورمان بيس، أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة كولورادو، أدواتٍ جزيئيةً مستقلة عن الزراعة لاستكشاف الغالبية الميكروبية المستترة. وترتكز الإجراءات المتبَعة في استخدام تلك الأدوات على تفاعل البوليميريز المتسلسل، وهي تقنية لتضخيم الحمض النووي في المختبر باستخدام إنزيم بوليميريز الحمض النووي، وزوج من «بادئات» الحمض النووي، ونيوكليوتيدات ثلاثية الفوسفات منقوصة الأكسجين لتضخيم تسلسلات محددة من الحمض النووي تضخيمًا أسِّيًّا من كميات ضئيلة جدًّا من المادة البادئة (ارجع للفصل الخامس). وعلى خُطى معلِّمه كارل ووز، استهدف بيس جين الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي في الوحدة الفرعية الصغيرة؛ وهذا الجين بالأخص، لأنه يتسم بانتشار هائل، ويحتفظ بنسبة كبيرة من تسلسله الأصلي، كان قابلًا بسهولة لتضخيمه بتفاعل البوليميريز المتسلسل من «حمض نووي مجتمعي» (أي حمض نووي لم يُستخرج من كائن حي واحد مستنبَت في مزرعة، بل مستمد مباشرةً من عينة بيئية). وباستخدام بادئات تفاعل البوليميريز المتسلسل المصمَّمة لتتناسب مع أكثر المناطق احتفاظًا بطبيعتها في جين الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي، أظهر بيس وزملاؤه إمكانية تضخيم أجزاء الجينات المأخوذة من مجموعة واسعة من الميكروبات في تجربة واحدة. وقد استُنسخَت أجزاء الحمض النووي المضخَّمة وحُدِّد تسلسلها وحُللت باستخدام أدوات معلوماتية حيوية مختلفة.
وعلى مدار العقدين الماضيين، استُخدم «تفاعل البوليميريز المتسلسل البيئي» لفحص تركيب مجتمعات ميكروبية في نطاق واسع من البيئات المتنوعة، كمياه البحر، والرواسب البحرية، والملاحات الشمسية، والتربة الزراعية، ولحاء الأشجار، وآبار النفط، وحتى مكيفات الهواء، وستائر الاستحمام، ولوحات مفاتيح الكمبيوتر. ونتيجةً لذلك، اتسع نطاق معرفتنا بالتنوع الجيني لبدائيات النواة اتساعًا هائلًا، سواءٌ تلك الموجودة ضمن مجموعات الكائنات الحية المعروفة سابقًا أو خارجها. وصحيح أنَّ الأرقام الدقيقة ما زالت محل جدل، ولكن يُتوقَّع وجود مائة شعبة بكتيرية أو أكثر (وبذلك ارتفع العدد المتوقَّع بعدما كان حوالي اثنتَي عشرة شعبة فقط في أواخر الثمانينيات)، ويبدو ممكنًا وجود مستوًى مماثل من التنوع داخل العتائق. وقد صار عدد ما حُدِّد تسلسله وأودِع في قواعد البيانات العامة من جينات الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي المختلفة الخاصة ببدائيات النواة يبلغ ملايين الآن.
وكذلك أثبت تفاعل البوليميريز المتسلسل البيئي فعاليةً مماثلة عند استخدامه لاستكشاف تنوع حقيقيات النواة من الميكروبات. إذ بدأت في مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عملياتُ مسحٍ جزيئي، غير معتمدة على المزارع، لمواطن بحرية، وأسهمت في توسيع نطاق المعرفة بتنوع العوالق توسيعًا كبيرًا؛ مما أدى إلى اكتشاف عدة مجموعات جديدة من الطحالب لم يعرفها العلم من قبل. وتجدر الإشارة هنا بالأخص إلى عملية مسح شامل لتنوع حقيقيات النواة البحرية الدقيقة قد أُجريت ضِمن رحلة تارا أوشنز الاستكشافية التي تمَّت مؤخرًا. فعلى مدار عدة سنوات، جمع علماء على متن السفينة الشراعية البحثية الفرنسية «تارا» آلافًا من عينات الماء من مختلف أنحاء العالم ومن أعماقٍ مختلفة. ثم استُخرجت منها أحماض نووية، وأُجريت تفاعلات البوليميريز المتسلسل البيئي، واستُخدمت تقنيات الجيل الثاني من أنظمة تحديد التسلسل التي تستطيع العمل على كميات هائلة بالتوازي لتوليد الملايين من قراءات تسلسل الحمض النووي. وإلى جانب المستويات المذهِلة من التنوع الجيني التي رصدها الباحثون، اكتشفوا أنَّ النسبة بين وفرة السلالات الرئيسية التي تمارس التمثيل الضوئي والتي لا تمارس التمثيل الضوئي كانت شديدة الاختلاف عما كان يُفترض سابقًا.
وفيما يمسُّنا نحن البشر، فإنَّ فهمنا لبحرِ الميكروبات التي تعيش في جسم الإنسان وعليه قد تغيَّر تمامًا بفضل تطبيق الطرُق الجزيئية. إذ كشفت عمليات المسح التي أُجريت باستخدام تفاعل البوليميريز المتسلسل البيئي عن وجود مئات الأنواع البكتيرية التي لم تكن معروفة من قبلُ تعيش في أفواهنا وسُرر بطوننا وفي جهازنا الهضمي. وجرى التعرُّف أيضًا على مجموعة متنوعة من حقيقيات النواة الدقيقة اللاهوائية والعتائق المُنتِجة للميثان؛ ومع أنَّ هذه الكائنات أقل وفرة بكثير من البكتيريا، يبدو أنها تؤثر في العمليات والوظائف العضوية في أمعائنا. وهكذا أصبح ما يُسمى بالميكروبيوم البشري محل دراسة مكثفة، فيما تسعى فِرق من الأطباء وعلماء الأحياء الدقيقة وعلماء الجينوم إلى فهم كيفية تغيُّر تركيب الميكروبيوم البشري بمرور الوقت والسبب وراء ذلك، وكيف يؤثر في صحتنا ورفاهنا.
علم الميتاجينوم: محرك الاستكشاف
يُعد تفاعل البوليميريز المتسلسل البيئي أداةً فعالة لاستكشاف التنوع الميكروبي، ولكن لأنه يركز (في الأغلب) على الجينات الواسمة التي احتفظَت بطبيعتها الأصلية طوال رحلة التطوُّر مثل الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي، فإنه يُمِد الباحثين بقدرٍ قليل للغاية من المعلومات المباشرة عن بيولوجيا الكائنات الحية المستترة. صحيح أنه يُمكن أن يساعدنا في الإجابة عن سؤال «من يوجد داخل الكائن الحي؟» لكنه لا يمنحنا إجابة عن سؤال «ما الدور الذي يؤديه؟». وبفضل التقدمات في علم الأحياء الجزيئي وعلم الجينوم والمعلوماتية الحيوية، انتقل المجال إلى ما هو أبعد بكثير من مجرد التضخيم الذي يستهدف جينات معينة من العينات البيئية.
يشير مصطلح «علم الميتاجينوم»، الذي استُخدم لأول مرة عام ١٩٩٨ في منشور لعالِم الأحياء الدقيقة الأمريكي جو هاندلسمان وزملائه، إلى النهج الذي يجري فيه عزل أجزاء كبيرة من الحمض النووي مأخوذة مباشرةً من البيئة وتحليلها. ومن بين المزايا الرئيسية لهذا النهج، المعروف أيضًا باسم علم الجينوم البيئي، أنه يتجنَّب التحيزات المرتبطة بالتضخيم الذي يحدث باستخدام تفاعل البوليميريز المتسلسل؛ إذ يسمح للعلماء بالحصول على عينات عشوائية من عشرات وحتى مئات الجينات الموجودة على نفس الجزء من الحمض النووي الجينومي؛ مما يتيح رؤيةً ثاقبة تُعمِّق فهمهم للخصائص البيولوجية للكائن صاحب تلك الجينات. (لاحظْ أن بعض الباحثين يعتبرون أن عمليات مسح الحمض النووي البيئي، التي تستهدف جينات معينة باستخدام تفاعل البوليميريز المتسلسل، مندرجة تحت علم الميتاجينوم.)
وكان أحد الشواهد البارزة على إمكانات علم الميتاجينوم الواعدة اكتشاف طريقة جديدة تستخدمها الميكروبات في المحيطات لتوليد الطاقة اعتمادًا على الضوء، وذلك في عام ٢٠٠٠. فعند تحليل جزء كبير من حمض نووي فُصِل من عينة ماء مأخوذة من خليج مونتيري بكاليفورنيا، وجد أوديد بيجا وإدوارد ديلونج وبعض مُعاونيهما جينًا مشفِّرًا لأحد بروتينات الرودوبسين. وصحيح أنَّ هذا الاكتشاف في حد ذاته لم يكن استثنائيًّا جدًّا؛ لأنَّ بروتينات الرودوبسين تُكتشف في مجموعة متنوعة من الكائنات الحية المختلفة، حيث تعمل كمستشعرات للضوء في حقيقيات النواة (بما في ذلك عيون البشر والحيوانات الأخرى)، وكمستشعرات للضوء ومِضخَّات للأيونات أو البروتونات في العتائق المحبة للأوساط المالحة. ولكن في هذه الحالة، كشف بحثٌ معلوماتي حيوي أن جين الرودوبسين كان موجودًا في حمض نووي جينومي كان واضحًا جدًّا أنه من أصلٍ بكتيري منحدِر، على وجه التحديد، من إحدى المتقلبات (أو البروتيوبكتيريا). لذا أُطلِقَ على البروتين الجديد اسم «البروتيورودوبسين»، وأظهرت أبحاث أُجريت فيما بعدُ أن مجموعة متنوعة من البكتيريا البحرية، بل وحفنة من حقيقيات النواة الوحيدة الخلية، تستخدم بروتينات رودوبسين مرتبطة بالأغشية لاستخلاص الطاقة الشمسية. ويبدو أن ما سهَّل انتشار جينات الرودوبسين إلى هذا النطاق الواسع من الكائنات الدقيقة هو النقل الجيني الأفقي (ارجع للفصل الخامس).
يختلف نظام البروتيورودوبسين اختلافًا كبيرًا عن آلية تجميع الضوء المعتمدة على الكلوروفيل التي تستخدمها البكتيريا الزرقاء والطحالب، وقد غيَّر اكتشاف هذا النظام من طريقة تفكير العلماء في تدفُّق الطاقة عبر الأنظمة الإيكولوجية الميكروبية. وما زال يتبقى الكثير لنتعلمه. إذ اكتُشف تنوُّع جيني هائل في جينات البروتيورودوبسين في بيانات ميتاجينومية مستنتَجة من عينات المياه السطحية التي أخذت من جميع أنحاء العالم في إطار الرحلة الاستكشافية التي أجراها كريج فينتر خلال عامَي ٢٠٠٣ و٢٠٠٤ لأخذ عينات من المحيطات في أنحاء العالم. وبخلاف البروتيورودوبسين، حدَّدت هذه الدراسة الميتاجينومية الواحدة أكثر من ستة ملايين تسلسل مختلف من التسلسلات البروتينية؛ أي: أكثر من ضعف العدد الموجود في قواعد البيانات العامة في ذلك الوقت. ولم يُظهِر تقريبًا ألفان من تلك البروتينات أيَّ تشابه واضح في تسلسلها مع البروتينات التي جرى تمييزها سابقًا. يزيد على ذلك أننا لا نزال نجهل دور أغلب تلك البروتينات، وفي كثير من الحالات، نجهل أنواع الكائنات الحية التي تنتمي إليها.
وكذلك أحدث علم الميتاجينوم تغييرًا فارقًا في فهمنا لدورة النيتروجين. فلطالما اعتُقد أن عملية النترتة الهوائية — وهي تحويل الأمونيا إلى نترات عبر أكسدة النتريت — حكر على بكتيريا معينة. ولكن في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وجد الباحثون جينات مسئولة عن أكسدة الأمونيا على كُتل كبيرة من الحمض النووي تنتمي إلى العتائق. ثم عُثر على عتائق مؤكسدة للأمونيا منذ ذلك الحين في مواطن برية وبحرية متنوعة، من بينها المياه الساحلية (حيث تعيش العتائق أحيانًا في علاقةٍ تكافلية مع الإسفنجيات)، وعينات مأخوذة من أعماق البحار. وفي بعض البيئات، توجد العتائق المؤكسدة للأمونيا بوفرة أكبر من نظيراتها البكتيرية. وهكذا يساعد علم الميتاجينوم في سد الفجوات الكامنة في معرفتنا بالدورات البيوجيوكيميائية التي تحافظ على استمرارية الحياة على وجه الأرض، وهي فجوات لم نكن على علم بوجودها أصلًا في كثير من الحالات. وبفضل علمَي «الميتاترانسكريبتوم» (الذي يدرس التعبير الجيني لدى الميكروبات ضِمن بيئات طبيعية) و«الميتابروتيوم» (الذي يدرس كل البروتينات في المجتمعات الميكروبية من مصادر بيئية) المزدهرَين، صار الباحثون الآن قادرين على تخطِّي مسألة «تحديد النمط الظاهري من النمط الجيني»، مُستكشِفين تنوع ووفرة الحمض النووي الريبوزي البيئي والبروتينات.
جينومات ميكروبية كاملة من البيئة
من العوامل الضرورية لنجاح علم الميتاجينوم القدرة على مضاعفةِ كُتلٍ كبيرة من الحمض النووي في المختبر. لذا فانتقاء الأداة مهم. صحيح أنَّ أغلب البلازميدات، مثل تلك المستخدَمة في طريقة سانجر لتحديد التسلسل، لا تنفع إلَّا لاستنساخ أجزاء صغيرة من الحمض النووي يتراوح طولها عادةً بين ألف وخمسة آلاف زوج قاعدي. لكنَّ نواقل الاستنساخ المتخصصة مثل «الكروموسومات الاصطناعية البكتيرية» تسمح بإضافة أجزاء من الحمض النووي يصل طولها إلى ٣٠٠ ألف زوج قاعدي (في بكتيريا الإشريكية القولونية عادةً) ومضاعفتها باستمرار. بل من الممكن إضافة أجزاء أكبر من الحمض النووي باستخدام ما يُسمى «كروموسومات اصطناعية خميرية» في جنس الخميرة الحقيقي النواة النموذجي؛ فباستخدام هذا النظام، يمكن استنساخ قِطع من الحمض النووي بحجم الكروموسوم يصل طولها إلى حوالَي مليوني زوج قاعدي. (تجدر الإشارة إلى أنَّ الكروموسومات الاصطناعية الخميرية استُخدمَت في مرحلة «تحديد مواضع الجينات» الأولية في مشروع الجينوم البشري الحكومي، مع أنَّ أجزاءها المُضافة الفائقة الحجم كانت غير مستقرة في بعض الأحيان، وكان من الصعب تحليلها بثقة.) وبافتراض إمكانية استخراج حمض نووي عالي الجودة من عينة بيئية، يمكن حينئذٍ استخدام نواقل تحمل إضافات كبيرة لبناء مكتبة ميتاجينومية تكون بمثابة مستودَع لجميع المعلومات الجينومية التي كانت موجودة في تلك العينة. ولا تختلف هذه المكتبات عن تلك المستخدمة في المشروعات التقليدية لتحديد تسلسل الجينوم، ويمكن مقارنة أي حمض نووي معين بالحمض النووي المسجَّل في تلك المكتبات باستخدام الأدوات نفسها.
فعلى سبيل المثال، يمكن تفحُّص إحدى المكتبات الميتاجينومية بطريقة منهجية بحثًا عن وجود جينات معينة بواسطة تفاعل البوليميريز المتسلسل؛ وفي هذه الحالة، فإنَّ قطع المكتبة المستنسخة التي تحتوي على نسخة واحدة أو أكثر من الجين المستهدَف هي فقط التي ستُنتِج نواتج تضخيم. ثم يمكن بعد ذلك اختيار هذه الجينات المستنسَخة لتحديد تسلسلها. أو يمكن اختيار بعض قطع المكتبة المستنسخة عشوائيًّا وتحديد تسلسلها من النهاية باستخدام بادئات متوافقة مع موقع إضافة الحمض النووي. ويُمكن من هذه النُّتف القصيرة من التسلسل تمييز القطع المستنسخة محل الاهتمام وتحديد تسلسلها بتقنية التشظية حتى الاكتمال (ارجع للفصل الثالث)؛ فكل مستنسَخ يُقدم لمحةً سريعة عن أحد الجينومات الموجودة في عينة الحمض النووي الأصلية. ويُعد مثالَا البروتيورودوبسين وأكسدة الأمونيا الموضَّحان سابقًا مجرد مثالَين من عدد هائل من الأمثلة التي دفعت فيها هذه الاستراتيجيات عجلة البحث إلى الأمام نحو اتجاهات جديدة مثيرة.
وباستخدام الجيل الثاني من تقنيات تحديد التسلسل، يُمكن حتى تجميع جينومات كاملة أو شبه كاملة من كتلة كبيرة من الحمض النووي المجتمعي. وفي هذه الحالة، يُحدد تسلسل المكتبة الميتاجينومية كلها بطريقة التشظية، وتُجمَّع باستخدام أدوات معلوماتية حيوية قياسية. وصحيح أنَّ تعقيد مشكلة التجميع يُمكن تبسيطه إلى حدٍّ كبير عن طريق البدء باستنبات «مزرعة تخصيب»؛ أي مزرعة تُنشأ من العينة البيئية الأصلية على وسيط يوفر الظروف المواتية لنمو حفنة فقط من النوع الأصلي. غير أنَّ استراتيجيات التخصيب كثيرًا ما تبوء بالفشل، وبحُكم طبيعة هذه المزارع ودلالة تعريفها، فهي لا تمثل البيئة في حالتها الطبيعية.
لذا فإحدى الاستراتيجيات البديلة هي البدء بكتلة كبيرة من الحمض النووي مستخرَجة من بيئة ذات تنوع ميكروبي محدود بطبيعتها. وقد أثبت فريقٌ بحثي بقيادة أستاذة علم الأحياء الدقيقة جيليان بانفيلد، الأسترالية المولد، جدوى هذا النهج الأخير في عام ٢٠٠٤. وهنا كانت البيئة المستهدَفة هي أحد مواقع التصريف في منجم آيرون ماونتين للحديد الواقع بشمال كاليفورنيا. فالتصريفات الحمضية الخارجة من المناجم قد تتدفق طبيعيًّا أو نتيجةً لعملياتٍ صناعية مثل تعدين الفحم أو البناء؛ تتميز تلك التصريفات بانخفاض الأس الهيدروجيني الخاص بها (أي: إنها شديدة الحموضة)، واحتوائها على تركيزات عالية من المعادن السامَّة، وانخفاض مستويات التنوع البيولوجي (ولا عجب في ذلك بالطبع). استخرج الباحثون حمضًا نوويًّا من عينات أغشية حيوية رقيقة مأخوذة من مئات الأقدام تحت الأرض، وحدَّدوا تسلسلات جينومات شبه كاملة من عدة كائنات من البكتيريا والعتائق وجمَّعوها. وقد أتاحت إعادة إنشاء مساراتها الكيميائية الحيوية رؤًى عميقة ثاقبة حول كيفية تمكُّن الميكروبات من البقاء على قيد الحياة في مثل هذا الموقع ذي الظروف القاسية.
وأثبت فريق بانفيلد مؤخرًا أنَّ وجود بيانات كافية وقدرة حوسبية يُتيح تجميع جينومات كاملة من مجتمعات ميكروبية معقَّدة. ونجح الباحثون، الذين كانوا مُركِّزين في هذه المرة على عيناتِ رواسب ومياه جوفية مأخوذة من أماكن قريبة من نهر كولورادو، في توليد حوالي ٤٫٦ مليارات قراءة من قراءات التسلسلات باستخدام تقنية إلومينا، وتمكَّنوا من تجميع حوالي ٢٥٠٠ جينوم بكتيري كامل أو شبه كامل وأربعة وعشرين جينومًا عتائقيًّا. وبذلك أسفرت الدراسة عن تحديدِ ما لا يقل عن سبع وأربعين شعبة بكتيرية جديدة، وأظهرت مستوى التشابك المذهل بين عمليات أيض الميكروبات في الطبيعة. إذ توقَّع الباحثون أنَّ النواتج الأيضية التي يولِّدها كائن حي داخل تلك المجتمعات تغذِّي المسارات الكيميائية الحيوية لكائنات أخرى والعكس. وتقطع مثل هذه الملاحظات شوطًا طويلًا نحو تفسير السبب الذي يجعل قدرًا هائلًا من التنوع الميكروبي عصيًّا على الاستزراع.
تجدر الإشارة إلى أنَّ الجينومات المستمدة من التحديد العميق لتسلسلات المكتبات الميتاجينومية تُمثِّل فُسيفساء اصطناعية حرفيًّا؛ بعبارة أخرى، فهي مجموعات مُركَّبة مؤلَّفة من قراءاتِ تسلسلاتٍ مستمدة من عدة كائنات حية. وذلك لأنَّ أي عينة بيئية، بغضِّ النظر عن مدى انخفاض مستوى التنوع الميكروبي، تُعَد مجرد لقطة سريعة لأحد المجتمعات الحية، وليست مزرعة خالصة؛ فكل جزء مفرد من الحمض النووي وارد من جينوم خلية مفردة، وهذا الجينوم في حد ذاته جزءٌ من مجموعة أكبر. ولكن يُمكن أن تكون هذه الصورة الفسيفسائية غنية جدًّا بالمعلومات المفيدة. ففي حالة الدراسة التي أجراها فريق بانفيلد على التصريف الحمضي الخارج من أحد المناجم، استطاع الباحثون بفضل التحليل الدقيق لأوجه التباين بين التسلسلات الميتاجينومية أن يستنتجوا أنماط تبادل جيني يحدث داخل مجموعات البكتيريا والعتائق المكوِّنة لهذه الأغشية الحيوية الرقيقة الحمضية.
وهكذا أثبت علم الميتاجينوم حتى الآن أنه يكون أقل نفعًا عند استخدامه لاستكشاف تنوع الميكروبات الحقيقية النواة. ويرجع هذا إلى أسباب متنوعة. فكثافة الجينات المُشفِّرة في الجينومات النووية عادةً ما تكون أقل بكثير من كثافتها في جينومات البكتيريا والعتائق — إذ إنَّ جينات حقيقيات النواة أكثر تناثرًا وتباعدًا — وعادةً ما تكون الجينات نفسها منفصلة بإنترونات متداخلة فيما بينها. ومن ثَم، فأيُّ جزء يُحدَّد تسلسله عشوائيًّا من حمض نووي خاص بخلية حقيقية النواة من المرجح ألَّا يكون غنيًّا بمعلومات مفيدة بقدرِ أجزاء الحمض النووي الخاص بخلية بدائية النواة. وكذلك فلأنَّ جينومات حقيقيات النواة كبيرةُ الحجم وتَكرارية بطبيعتها، يكون تجميعها أصعب من تجميع جينومات بدائيات النواة، وهذا ينطبق بالأخص على بيانات التسلسل المأخوذة من مكتبات ميتاجينومية. وأخيرًا، فإنَّ عدد جينومات حقيقيات النواة التي حُدِّد تسلسلها أقل بكثير من جينومات بدائيات النواة التي حُدد تسلسلها، ومن دون توفُّر جينومات مرجعية عالية الجودة مأخوذة من نطاق تطوري متنوع من الكائنات الحية المستزرَعة، يُصبح فهم بيانات التسلسل البيئية أصعب بكثير. صحيح أنَّ بضع دراسات قد استخدمت علم الميتاجينوم لاستكشاف تنوع ميكروبات حقيقيات النواة في الطبيعة، لكنَّ هذا المجال ما زال قيد التطوير في كثير من النواحي.
دراسة جينومات وترانسكريبتومات الخلايا المفردة
يتمثَّل أحد النُّهج المُكمِّلة لعلم الميتاجينوم في تطبيق تقنيات تضخيم الحمض النووي لدراسة خلايا مفردة. وبحكم دلالة التعريف، فإنَّ نهج «علم جينوم الخلايا المفردة» (أو تحديد التسلسل على مستوى الخلايا المفردة) لا يعتمد على توفُّر مزرعة، ويتجنب مشكلة تجميع قراءاتِ تسلسلاتٍ مأخوذة من كتلة كبيرة من حمض نووي مجتمعي. بل يعتمد النهج على وضع خلية واحدة في أحد أوعية التفاعل، وهو ما يمكن تحقيقه بوسائل مختلفة. ففي حالة الطلائعيات الكبيرة (أي: حقيقيات النواة الميكروبية باستثناء النباتات والحيوانات والفطريات والأنواع التي تربطها بها صلة قرابة)، يمكن عزل خلايا مفردة من عينة بيئية باليد مباشرةً باستخدام أنبوب شعري ذي طرف مدبَّب رفيع. ويمكن أيضًا استخدام طرق أكثر تعقيدًا، بما في ذلك استخدام مقياس التدفق الخلوي، وهو أداة قادرة على فرز الخلايا بكمياتٍ كبيرة في زمن قصير وفق خصائصها الفيزيائية والكيميائية.
بعد فرز الخلايا، يصبح لِزامًا إجراء خطوة تضخيم الحمض النووي. وضرورة هذه الخطوة تكمُن في أنَّ كمية الحمض النووي الموجودة داخل حتى أكبر الخلايا الحقيقية النواة غير كافية لتحديد التسلسل. يُضخَّم الحمض النووي بإحدى التقنيات الجزيئية المتعددة، وأكثر تلك التقنيات شيوعًا هي «التضخيم المتعدد بالإزاحة». تستخدم هذه التقنية بوليميريز حمضٍ نووي خاصًّا مشتقًّا من فيروس ومزيجًا مولَّدًا عشوائيًّا من البادئات لتضخيم الجينوم تضخيمًا غير محدد. وحالما تُضخَّم عينة الحمض النووي، يحين دور استخدام إحدى تقنيات الجيل الثاني من تقنيات تحديد التسلسل لتوليد البيانات، ثم تُجمَّع القراءات للحصول على تسلسل الجينوم (ارجع للفصل الثالث). وقد ثبت أنَّ علم جينوم الخلايا المفردة نهجٌ فعَّال في دراسة بدائيات النواة وحقيقيات النواة ذات الجينومات الصغيرة، وعند دمج هذا النهج مع دراسة ترانسكريبتومات الخلايا المفردة، فإنهما يتيحان تحديدَ مجموعة الجينات التي تحتوي عليها كائنات حية مفردة داخل جماعةٍ ما، بل يتيحان أيضًا تحديد كيفية اختلاف أنماط التعبير من خلية إلى أخرى عند التأثُّر بعدوى فيروسية، على سبيل المثال.
غير أنَّ أحد العيوب الرئيسية التي تحدُّ من فعالية تقنيات علوم الأوميكس المطبقة على نطاق الخلايا المفردة حاليًّا هو انحياز عملية التضخيم. إذ أظهرت تجارب مضبوطة بعناية تضمَّنت استخدام ميكروبات حُدِّد تسلسل جينوماتها سَلفًا أنَّ مستوى التضخيم ليس مُتساويًا عبر كل مناطق الجينوم. وقد أثار هذا مخاوف بشأن القابلية للاستنساخ وشكوكًا حيال درجة اكتمال الجينومات والترانسكريبتومات المشتقة من خلايا مفردة. لكنَّ هذا النهج يُمكن أن يوفِّر بيانات قيِّمة حينما يستحيل الحصول على معلوماتٍ خاصة بأحد علوم الأوميكس باستخدام وسائل تقليدية. وكذلك أثبت هذا النهج جدواه في دراسة الخلايا التي تتكون منها الكائنات الحية العيانية. فعلى سبيل المثال، يمكن الآن تفحُّص أنواع السرطان التي تصيب الإنسان ودراستها خليةً بخلية؛ مما يتيح معلومات عميقة جديدة عن الطفرات التي تنشأ مع تطور المرض وعن كيفية تغيُّر الخلايا السرطانية استجابةً للأدوية المستخدمة للقضاء عليها (ارجع للفصل الرابع).
عالم الفيروسات المتوسِّع المذهِل
كما غيَّر علم الميتاجينوم فهْمنا لتنوع الحياة الخلوية، فإنَّ استخدام الأدوات الجزيئية التي لا تعتمد على الاستزراع قد كشف سيلًا لا ينتهي من التنوع الفيروسي. وفي هذا الصدد، حظيَت الفيروسات البحرية باهتمامٍ خاص، لسببٍ وجيه؛ وهو أنَّ كل مليلتر (مل) من المياه فيه حوالي ١٠ مليون جزيء فيروسي؛ وبذلك فهي أكثر الكيانات البيولوجية وفرةً في البحر. ووفقًا لعالِم الفيروسات الكندي كيرتس ساتل، فإن هذه الفيروسات البحرية تُحدِث ٢٣١٠ عدوى في الثانية، وتحتوي على قدر هائل من الكربون يعادل كمية الكربون في ٧٥ مليون حوت أزرق. وإذا جيء بجميع الفيروسات الموجودة في المحيط ورُصَّت صفًّا بحيث يكون طرف كل فيروس ملامسًا لطرف الآخر، فستتجاوز أقرب ستين مجرة.
ولكن بالرغم من الوفرة المذهِلة التي توجد بها الفيروسات، من السهل تجاهلها. فقبل استخراج الحمض النووي، عادةً ما تُقسَّم العينات البيئية حسب حجمها لاستبعاد الخلايا التي تُعَد أكبر من الكائنات الحية محل الدراسة أو الخلايا الأصغر منها، ولأنَّ حجم الكثير من الفيروسات (ولكن ليس كلها) أصغر بكثير من بدائيات النواة، فإن الجزء الفيروسي الصغير يسقط عبر المُرشِّحات ويُنبَذ في العادة. وحتى لو كانت الدراسة مهتمة بالفيروسات على وجه التحديد، فإن تنوعها الجيني الشديد قد يمثل إشكالية. فالفيروسات ليس لديها جينات حمض نووي ريبوزي ريبوسومي، ولا يوجد في الواقع جين واحد مشترك بين كل الفيروسات يُمكن أن يكون بمثابة واسِم جزيئي عام. وهذا بدوره يحدُّ من فائدة نُهُج تفاعل البوليميريز المتسلسل البيئي، الذي يستهدف جينات محددة، في اكتشاف فيروسات جديدة. وقد أثبت نهج تحديد التسلسل الميتاجينومي بالتشظية أنه مثالي لهذه المهمة.
أُنتجت أولى مجموعات البيانات الخاصة بالميتاجينومات الفيروسية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مستهدفةً رواسب بحرية وينابيع حارَّة، وكذلك الأمعاء وفضلات البراز البشرية. كانت السِّمة المميزة المشتركة بين كل هذه العينات هي استرجاع نسبة عالية من جينات مجهولة الوظيفة منها. وصحيح أنَّ الجينومات الفيروسية ذات كثافة جينية موحَّدة، لكن ما لا يقل عن ٥٠ في المائة من الجينات التي جرى التعرُّف عليها في العينات الميتاجينومية لا تُظهِر أي تشابه واضح في التسلسل مع جينات موجودة في فيروسات أخرى أو في بدائيات النواة أو حقيقيات النواة. بل تتجاوز هذه النسبة ٩٥ في المائة في بعض الحالات. يُفترض أنَّ هذا مرتبط بالمعدلات التطورية السريعة للجينات الفيروسية، بالإضافة إلى حقيقة أنَّ الجزء الذي استُكشف من «عالم الفيروسات» باستخدام الأدوات الجزيئية ضئيل جدًّا. وبغضِّ النظر عن الأسباب، فإن هذا التنوع الهائل يؤكد مدى ضآلة معرفتنا بالتنوع الفيروسي في الطبيعة ومدى الصعوبة التي سنواجهها لفهم الدور الذي تؤديه هذه الجينات الغامضة للفيروسات التي تعيش فيها.
إحدى السمات اللافتة في جينومات الفيروس المحاكي وفيروس باندورا هي وجود تسلسلات مشابهة لبروتينات الترجمة في بعض بدائيات النواة وحقيقيات النواة. وهذا أمر غير مسبوق ومحيِّر؛ نظرًا إلى أنَّ تلك الفيروسات ليس لديها ريبوسومات؛ ولذا فهي عاجزة عن تخليق البروتينات الخاصة بها. ومن الاكتشافات الأخرى الجديرة بالملاحظة أنَّ بعض الفيروسات العملاقة نفسها يُمكن أن تُصاب بفيروسات. إذ ثبت أن تلك «العاثيات الفيروسية» تؤثر سلبًا في تكاثر الفيروسات العملاقة (مما يعود بالنفع على الأميبا المضيفة)، وهذا يُضفي معنًى بيولوجيًّا جديدًا على عبارة «عدو عدوي صديقي». وهكذا فإنَّ رصد مثل هذه السمات، إلى جانب اكتشاف تداخل في الأحجام بين جينومات الفيروسات العملاقة وجينومات الكائنات الخلوية، قد غذَّى تكهنات بأن بعض الفيروسات العملاقة ربما تنتمي إلى نطاق رابع قديم من نطاقات الحياة لم يُعرف سابقًا. وإذا صح ذلك، أي: إذا كانت الفيروسات العملاقة تشكل بالفعل كِيانًا تطوريًّا متلاحمًا قائمًا بذاته، فيُمكن أن نتوقَّع أنَّ جينات تلك الفيروسات توجد معًا على نفس الفروع في أشجار تطور السلالات.
غير أنَّ الوضع ليس هكذا في الأغلب. فمن بين الجينات التي يُمكن تحليل مراحل تطورها في جينومات الفيروس المحاكي وفيروس باندورا، توجد جيناتٌ كثيرةٌ مشابهة جدًّا للجينات التي تحملها الأميبات والبكتيريا في الواقع. وهذا يتفق مع الفرضية القائلة بأنَّ جينوماتها «العملاقة» ناتجةٌ من توسُّع حديث؛ فربما أن الفيروسات العملاقة تطوَّرت من فيروسات ذات جينومات أصغر حجمًا عن طريق التقاط الجينات من الخلايا الحقيقية النواة التي تصيبها، ومن البكتيريا التي تعيش في البيئة المحيطة بها مباشرة. وما زال يوجد جدل دائر حول أيٍّ من هذين السيناريوهين يعكس الواقع بصورةٍ أدق، ولكن إذا نظر المرء إلى الفيروسات ككلٍّ، يجد سوابق كثيرة لفكرة أن «الفيروسات تُعَد نشالة للجينات». فعلى سبيل المثال، تشتهر جينومات العاثيات الزرقاء — وهي عاثية فيروسية تصيب البكتيريا الزرقاء — باحتوائها على جينات مرتبطة بالتمثيل الضوئي مستمدة من كائناتها المضيفة (فالعاثية الزرقاء نفسها لا تمارس التمثيل الضوئي)، وبأنها تنقل تلك الجينات نقلًا متبادلًا بين سلالات بكتيرية مختلفة. فهل تنتمي الفيروسات إلى شجرة الحياة؟ لا تزال الإجابة غير محسومة، لكن الشيء الحتمي أنَّ الفيروسات «مرتبطة» ارتباطًا راسخًا بشجرة الحياة، وقادرة على نقل الجينات جيئة وذهابًا من فرع إلى آخر. فما دامت توجد خلايا على وجه الأرض، توجد فيروسات تصيبها.
الميكروبيوم البشري
إذا ضربنا مثلًا برجلٍ وزنه ٧٠ كيلوجرامًا وطوله ١٫٧ متر، نجد أن جسده مؤلَّف من حوالي ٣٠ تريليون خلية، منها ٢٥ تريليون خلية دم حمراء تقريبًا. وفي هذا الرجل نفسه، سيصل إجمالي عدد الخلايا البكتيرية إلى ما يقرب من ٣٩ تريليون خلية؛ وبهذا يزيد عدد الخلايا البكتيرية على عدد الخلايا البشرية بنسبةٍ مقدارها ١٫٣ إلى ١ تقريبًا. ليس من السهل أبدًا حصر عدد العتائق وحقيقيات النواة الميكروبية التي تعيش على أجسادنا وداخلها؛ وبالرغم من تأثيرهما الواضح على صحتنا، فإن عدد البكتيريا يفوق عدد كليهما بعدة قِيَم أسِّية. وهذه أرقامٌ استثنائية، خصوصًا إذا أخذنا في الحُسبان أنها لا تشمل عددًا لا حصر له من الفيروسات التي تتغذى على الميكروبات المرافقة لنا. إن أجسامنا أنظمة إيكولوجية معقدة، ومثلها مثل أي بيئة طبيعية أخرى، فهي عُرضة للاضطراب.
وتتمثل إحدى المعلومات الأساسية المستفادة من أبحاث الميكروبيوم البشري التي أُجريت على مرِّ العقد الماضي في مدى تبايُن تركيب المجتمعات الميكروبية داخل الأفراد الأصحاء والمرضى وفيما بينهم. فعلى عكس ميكروبيوم الجلد، تُهيمِن على ميكروبيوم الأمعاء البكتيريا اللاهوائية، التي ربما يصل عدد أنواعها إلى ٥٠٠ نوع إجمالًا، منها ثلاثون نوعًا بالأخص متوافرة بكثرة. وتنتج بعضٌ من هذه البكتيريا فيتامينات مثل فيتامينَي إتش وكيه، ويُمكن أن تساعد في تحسين الكفاءة التي نهضم بها الأطعمة المشتقة من النباتات. ويرجع ذلك إلى أنها تنتج إنزيمات تحلل بعض الكربوهيدرات إلى أحماض دهنية نهضمها فيما بعدُ باستخدام إنزيمات تشفرها جيناتنا.
التنقيب البيولوجي في عصر علم الميتاجينوم
تُعرِّف منظمة الصحة العالمية التنقيب البيولوجي بأنه «البحث المنهجي عن مصادر جديدة للمُركَّبات الكيميائية والجينات والكائنات الدقيقة والكائنات العيانية ومنتجات أخرى قيِّمة من الطبيعة وتطويرها». وسرعان ما أصبح علم الميتاجينوم تقنيةً أساسية في هذا المجال التنافسي الذي يُعد أحد مجالات البحث التطبيقي. يجمع التنقيب البيولوجي، في ذروة مستوياته، بين المعلوماتية الحيوية واستراتيجيات تجريبية تتسم بإنتاجيتها العالية من أجل اكتشاف أنشطة كيميائية حيوية جديدة في مجتمعات ميكروبية. تسمح تلك الاستراتيجيات التجريبية للباحثين بتجاوز التحدي المتمثِّل في التنبؤ الدقيق بوظائف الجينات من التسلسلات وحدها. بل إنَّ الباحث لا يحتاج في البداية إلى أي بيانات متعلقة بالتسلسلات؛ فكل ما يهم هو أنَّ جزء الحمض النووي البيئي س مرتبط بالنشاط ص. وعليه يمكن تحديد تسلسل الجين (أو الجينات) الكامن وراء النشاط في وقتٍ لاحق.
وتُعَد الطريقة الأكثر استخدامًا لإجراء الغربلة القائمة على الوظيفة هي استخدام ما يُسمى بنواقل «التعبير». وتُستنسخ في هذه الطريقة أجزاء من حمض نووي بيئي مُكوِّنةً نواقل تحتوي على تسلسلات، وعندما تُدمَج هذه التسلسلات داخل كائن حي مضيف معين، ستحفِّزه على التعبير عن الجين (أو الجينات) الموجود على كل جزء. ويشيع استخدام بكتيريا الإشريكية القولونية كائنًا مُضيفًا في مثل هذه التجارب، ولكن توجد خيارات أخرى أيضًا تشمل جنس الخميرة الأحادي الخلية. ثم يحتاج المرء بعد ذلك إلى طريقة لغربلة كل البكتيريا المختلفة (والنُّتف الصغيرة الخاصة بها من الحمض النووي البيئي) بحثًا عن النشاط أو البروتين أو الجين محل الاهتمام. وهنا كثيرًا ما تُمثِّل «القراءة» اكتشافَ ناتجٍ أيضي معين يمكنه الكشف عن وجوده بتغيير لون وسط النمو، على سبيل المثال. وبإجراء مقايسة قوية بما يكفي، يمكن غربلة نواتج البروتين الناتجة من كثير من بكتيريا الإشريكية القولونية في الوقت نفسه. فالموازاة ضرورية؛ إذ توجد العديد من التحديات التقنية المرتبطة بعملية الغربلة القائمة على نواقل التعبير، ومن المفيد للباحث تعظيم فرص الحصول على «نتيجة منشودة».
وتجدر الإشارة إلى أنَّ إمكانية التوصُّل إلى اكتشافات باستخدام مثل هذا النهج تُعد عظيمة. فعلى سبيل المثال، عندما أتى بعض الباحثين بجزيئاتِ حمض نووي مستخرَجة مباشرةً من التربة — التي تُعَد واحدة من أكثر المجتمعات الميكروبية التي عرفها العلم تنوعًا — وغربلوها بناءً على وظائفها، أسفر ذلك عن تمييز بروتينات جديدة كثيرة خاصة ببدائيات النواة لها استخدامات مهمة في مجال التكنولوجيا الحيوية. وتشمل هذه البروتينات بعض إنزيمات هضم الدهون، التي تُستخدم في الصناعات الغذائية والمنظفات ومستحضرات التجميل، بالإضافة إلى إنزيمات تحمل خصائص مضادة للسرطان والميكروبات. وقد أنتجت بعض الفطريات البحرية إنزيمات مقاومة بطبيعتها لدرجات الحرارة والحموضة القاسية. ومن حيث المبدأ، فإن أي بيئة تزدهر فيها الميكروبات تُعَد مصدرًا محتملًا لاكتشافاتٍ جديدة. فإحدى عمليات المسح الميتاجينومي التي أُجريت حديثًا على بكتيريا مرتبطة بالإنسان أسفرت عن اكتشافٍ مذهِل عُثر فيه على جينات مرتبطة بإنتاج المضاد الحيوي اللاكتوسيلين. بل أظهرت تجارب أُجريت فيما بعدُ أنَّ ما يُنتج اللاكتوسيلين بالفعل ميكروباتٌ تعيش في المهبل يُفترض أنها تتيح وقاية طبيعية من بعض مسببات الأمراض. وهكذا ربما يثبت الميكروبيوم البشري أنه مصدر غني، ومربح، بأدوية تحمل خصائص مضادة للميكروبات.
الموسوعة الجينومية
كثيرًا ما كانت القيود المالية والتقنية في الماضي تُحتِّم أن تكون الكائنات الحية التي يقع عليها الاختيار لتحديد تسلسل جينوماتها هي الأكثر قابلية للنمو بسهولة، وأن تكون ذات صلة بالطب الحيوي و/أو التكنولوجيا الحيوية. وفي هذا الصدد، تُعَد الموسوعة الجينومية للبكتيريا والعتائق مشروعًا دوليًّا طموحًا يهدف إلى التغلب على التحيزات التي تشوب عملية أخذ العينات، والتي كانت مهيمِنة على أول خمسة عشر عامًا من عملية تحديد تسلسل الجينومات الميكروبية. ويشير باحثو الموسوعة الجينومية، بقيادة نيكوس كيربيدس من معهد الجينوم المشترك الأمريكي، إلى أنَّ نسبةَ ما حُدِّد تسلسل جينوماته (أو ما زال قيد التحديد) من بين «سلالات الأصناف» البكتيرية والعتائقية — وهي أنواعٌ بدائية النواة مُسمَّاة ولها مُمثلٌ مزروع — تبلغ حوالي ٣٠ في المائة فقط. ومن ثَم، تهدف الموسوعة الجينومية إلى رأب الفجوات بتحديد تسلسل جينومات بدائيات النواة حسب انتمائها التصنيفي، وليس حسب صلتها العملية القصيرة الأمد.
تتمثل الغاية الرئيسية التي ترمي إليها الموسوعة الجينومية في «تحديد تسلسل جينوم نوع واحد على الأقل يُمثِّل كل الأنواع البكتيرية والعتائقية التي نُشر اسمها صحيحًا»، التي يبلغ عددها الإجمالي ١١ ألف نوع. ومع أنَّ مشروع الموسوعة يبدو طموحًا، فإنه يتحلى بواقعية متزايدة نظرًا إلى التطور السريع الذي تشهده تقنيات تحديد التسلسل والإمكانات المعلوماتية الحيوية. ولأنَّ كل عام يشهد تسمية مئات الأنواع البكتيرية الجديدة، فإنَّ خط النهاية الذي تركض صوبه هذه الجهودُ يتحرك باستمرار. وبالرغم من ذلك، فمن المؤكَّد أنَّ نهجًا من نوعية الموسوعة الجينومية يسعى إلى توثيق تنوع بدائيات النواة سيقدم إسهامات دائمة لكلٍّ من البحث الأساسي والتطبيقي. وما سيكون مهمًّا بالأخص هو دور الموسوعة الجينومية في تقديم نقطة مرجعية شاملة لتفسير البيانات الميتاجينومية؛ مما يسمح للباحثين بتحسين فهمهم للمجموعات الجينية الموجودة في مختلف الكائنات الحية التي تعيش في مواطن متنوعة.
غير أنَّ حقيقيات النواة الميكروبية ليست مُهمَلة إهمالًا تامًّا، بل العكس. فانطلاقًا من جينوم الخميرة الأول الذي نُشِر في عام ١٩٩٦، أصبح مجال جينوم الفطريات المقارن مجالًا ناضجًا جدًّا يحتوي على مئات التسلسلات المكتمِلة، وقد استفادت علوم الطب الحيوي استفادةً عظيمة من العشرات والعشرات من الجينومات المُحدَّد تسلسلها الخاصة ببعض مسبِّبات الأمراض مثل طفيل المتصوِّرة المسبِّبة للملاريا، والمثقبيات التي تُسبِّب داء النوم الأفريقي وداء شاجاس. وكذلك ينصبُّ تركيزٌ خاص على دراسة جينومات الطحالب الدقيقة. ومع استمرار تحسين الطرق المتبَعة في تحديد تسلسل الجينوم وتجميعه، سنرى في النهاية سعيًا منهجيًّا مدفوعًا بدراسة التصنيف نحو استكشاف التنوع الجينومي لحقيقيات النواة الميكروبية. فمستوى التنوع الجيني والبيولوجي الخلوي لدى الطلائعيات قُدِّر أنه يضاهي، أو يفوق، مستوى التنوع لدى كل الممالك الحيوانية والنباتية مُجتمعةً. وبذلك سيتوجَّب بذلُ جهودٍ متضافِرة لسدِّ تلك الفجوات المعرفية الضخمة. وهذا سيُثمِر إطارًا أقوى بكثير لتفسير الكمية الهائلة من البيانات الميتاجينومية وبيانات جينومات الخلايا المفردة الناتجة من أجهزة تحديد التسلسل في المختبَرات في مختلف أنحاء العالم.