مستقبَل علم الجينوم
«ما يُعد خيالًا اليوم سيصير واقعًا في الغد.» تنطبق هذه العبارة المتداولة بسلاسة على علم الأحياء الجزيئية وعلم الجينوم. وفي هذا الفصل الأخير، سنستكشف بعض الطرق التي سيُواصِل بها علم الجينوم توسيع حدود آفاق المعرفة البشرية، وتغيير عالمنا وطريقة تفاعلنا معه. وقد أثيرت بالفعل قضايا أخلاقية وقانونية واجتماعية مهمة. فمن يمتلك تسلسل جينومك ومن له حق الاطلاع على المعلومات التي يحويها؟ هل ينبغي أن يقر القانون «تصميم» أطفال بتعديل الحمض النووي للأجنَّة البشرية؟ وهل ينبغي إعادة أنواع منقرِضة إلى الحياة وإطلاقها في البيئات البرية الطبيعية؟ مع تزايد شيوع الطب المشخصن وطب الإنجاب القائمَين على علم الجينوم، لن تبقى مثل هذه الأسئلة مجرد أسئلة افتراضية بعد الآن.
جينومات عند الطلب، وبأبعادٍ ثلاثية
غير أنَّ سهولة حمل مثل هذه الأجهزة شيء، والقدرة على تحضير عينات الحمض النووي سريعًا شيء آخر، وهذا العامل ما زال مفقودًا حتى الآن. لذا تعمل شركة أكسفورد نانوبور تكنولوجيز على ذلك أيضًا. فالآونة الحالية تشهد ابتكار أدوات وكواشف جديدة يُمكن استخدامها ميدانيًّا خارج المختبرات، وستُتيح الانتقال من العينة البيئية وصولًا إلى مرحلة تحديد تسلسل الجينوم في غضون دقائق. وعليه فالإمكانيات لا حصر لها. تخيَّلْ أنك تقتفي مسار تفشِّي مَرضٍ مُعدٍ اقتفاءً آنيًّا، أو أنك تُراقِب جناحًا بالمشفى في مكانه الفعلي لرصد انتشار بكتيريا مقاوِمة للمضادات الحيوية، أو تقيِّم تَقدُّم بكتيريا مُهندَسة وراثيًّا في محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي.
وبالعودة إلى التنبؤ بمستقبل تحديد تسلسل الجينوم داخل المختبرات، فإنَّ وتيرة تحديد تسلسل الجينوم ستصبح أسرع فأسرع. وستظل أطوال قراءات تسلسل الحمض النووي تزداد إلى أن يصبح من المعتاد قراءة التسلسل من أحد طرفَي الكروموسوم إلى الطرف الآخر. وستتلاشى مشكلة تجميع الجينوم. وكذلك سيُمكن تحديد تسلسلات جينومات خلايا مفردة مأخوذة من أي مكان وكل مكان وتسلسلات ترانسكريبتوماتها بدقة عالية. فالإمكانيات في هذا الصدد أيضًا لا سقف لها. إذ سيُمكن تحديد تسلسل الحمض النووي الريبوزي مباشرةً دون الحاجة إلى تحويله أولًا إلى حمضٍ نووي (في الواقع، يستطيع جهاز مين أيون أن ينجز تلك المهمة بالفعل). وسيعود تحديد تسلسل البروتينات بقوة؛ فمن حيث المبدأ، يمكن تحديد تسلسل أي مادة بوليميرية يمكن تمريرها خلال مسام نانوي، بما في ذلك سلاسل الأحماض الأمينية التي تتكون منها بروتيناتنا. وقد نستغني في النهاية عن الاستعانة بالمسامات النانوية، ونلجأ بدلًا من ذلك إلى استخدام مَجاهِر إلكترونية ذات قدرة عالية ومدرَّبة على تحديد تسلسل الجزيئات المفردة بدقة ذرِّية. وتجدر الإشارة إلى أنَّ بذور هذه التكنولوجيا قد نُثرت بالفعل.
وفضلًا عن ذلك، سيصبح لدينا فهمٌ شامل للجينوم في ثلاثة أبعاد. فعلى مرِّ العقد الماضي، قدَّمت الأبحاث التي تركِّز على الموضوعات المشتركة بين علم الجينوم والفحص المجهري نظرةً عميقة على بيولوجيا الكروموسومات في الخلايا الحية، لكنَّ علماء الجينوم (بمن فيهم أنا) ما زالوا يميلون إلى اعتبار الجينومات كيانات خطية عقيمة. وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. وفي هذا الصدد، يُعَد فهم طبيعة التفاعلات الطويلة المدى بين مناطق كروموسومية مختلفة عاملًا رئيسيًّا لفهم الكيفية التي تُنشَّط بها الجينات وتُثبَّط في الخلايا الطبيعية والخلايا السرطانية. ومن المهم أيضًا فهمُ التفاصيل العملية الأساسية التي تنطوي عليها عملياتٌ أساسية مثل انقسام الخلايا وإعادة الاتحاد الجيني. وهكذا فإنَّ الجينوم سيصبح كيانًا حيًّا في بيولوجيا الخلايا في المستقبل.
وسوف يتسنَّى لنا تحديد تسلسل «الجينوم البشري» كاملًا حتى آخر زوج قاعدي فيه. وسيتحقَّق ذلك بالجمع بين أحدث الطرق وأعلاها إنتاجيةً والتفكير التقليدي المتعلق ﺑ «الخرائط الفيزيائية»، وهذا بمثابة تزاوج بين الاستراتيجيات المتنافسة التي حدَّدت أول سباق نحو تحديد تسلسل الجينوم البشري. وبذلك سيُحدَّد تسلسل جينومك وجينومي، إذا شئنا. وهكذا فإنَّ التحدي الأصعب الذي سيواجه علم الجينوم في المستقبل هو معرفة ما ينبغي فِعله بكل هذه البيانات التي ستتوفر.
الحمض النووي باعتباره جهاز تخزين
احتاج جوناثان روثبرج في عام ٢٠١١ إلى شخصٍ مميز يُجرِّب عليه تقنيته الجديدة التي ابتكرتها شركة أيون تورنت. فاستعان بجوردون مور، الذي شارك في تأسيس شركة الإلكترونيات العملاقة إنتل، وقد كان هذا اختيارًا مناسبًا من عدة جوانب. إذ إنَّ «قانون مور» ينص على أنَّ عدد الترانزستورات التي يُمكن حشرها في دائرةٍ متكاملة يتضاعف كل ثمانية عشر شهرًا تقريبًا. وهذا يحدث منذ منتصف ستينيات القرن العشرين. ولكن مع الأسف، شارفت هذه الزيادة المنتظِمة في أداء الإلكترونيات على النهاية. ففي ظل استخدام التكنولوجيات الحالية القائمة على السيليكون، تضع قوانين الفيزياء حدًّا أقصى على كثافة الترانزستورات. وما زالت الحلول المحتملة لهذه المشكلة، مثل ابتكار أجهزة كمبيوتر كمية، محصورة في إطار الخيال العلمي. ولكن ماذا عن الحمض النووي؟ هل يُمكن تحويل وحدات البت والبايت التي يتكون منها عالمنا الرقمي إلى قواعد أدينين، وسايتوسين، وجوانين، وثيامين، بغرض تخزين البيانات؟
تَحقَّق ذلك بالفعل. ففي عام ٢٠١٢، نشر جورج تشيرش، الباحث الرائد في مجال علم الجينوم من جامعة هارفرد وصاحب التنبؤات المستقبلية المثيرة للجدل، كتابًا بعنوان «الإحياء» يستكشف فيه بصحبة المؤلف المشارك — إد ريجيس — الحياة في عصر الهندسة الوراثية. وفي نهاية الكتاب، يوضح تشيرش كيف حوَّل نسخة رقمية من محتوى الكتاب (المؤلَّف من ٥٣٤٢٦ كلمة وإحدى عشرة صورة) إلى لغة الحمض النووي. إذ أُعيدَ تشفير جميع أرقام الواحد والصفر ورُكِّبت في صورة عدة آلاف من سلاسل قصيرة (١٥٩ نيوكليوتيدة) من الحمض النووي مرتبطة برقائق دقيقة. ثم ضُخِّم «الكتاب» بتفاعل البوليميريز المتسلسل، و«قُرئ» تسلسله على أحد أجهزة إلومينا المُستخدَمة في تحديد تسلسلات الحمض النووي. وحينئذٍ اكتُشفت عشرة أخطاء.
أما نيك جولدمان وزملاؤه، من المعهد الأوروبي للمعلوماتية الحيوية في المملكة المتحدة، فقد استخدموا الحمض النووي من أجل تخزين صور وسونيتات شكسبير والورقة البحثية الشهيرة التي ألَّفها واطسون وكريك عن البنية اللولبية المزدوجة للحمض النووي، مستعينين في ذلك باستراتيجية مختلفة لإعادة التشفير. وصحيح أنَّ تشيرش وجولدمان وزملاءهما ليسوا أوَّل من خزَّن بيانات في الحمض النووي — إذ تحقق ذلك لأول مرة في عام ١٩٨٨ — لكنهم هم الأبرز بين مجموعة طموحة من العلماء تُوسِّع حدود الممكن. هذا وتسير وتيرة التطور بخُطًى سريعة. فباستخدام استراتيجية تخزين تُسمَّى «نافورة الحمض النووي»، استطاع يانيف إرليتش ودينا زيلينسكي، من مركز جينوم نيويورك، مؤخرًا أن يشفِّرا نظامًا كاملًا من أنظمة تشغيل الكمبيوتر وفيلمًا (يصل حجمه إلى حوالي ٢ ميجابايت من البيانات المضغوطة) في حمض نووي بكثافةٍ مقدارها ٢١٥ بيتابايت في كل جرام من الحمض النووي. ثم فُكَّ تشفيره بدقة تامة بواسطة عملية تحديد التسلسل بتقنية إلومينا.
وصحيح أنَّ كل هذا باهر، ولكن توجد تحديات جسيمة يجب التغلب عليها قبل أن يسود استخدام الأقراص الصلبة القائمة على الحمض النووي. وأكبر تلك التحديات هو عملية تخليق الحمض النووي التي تكلِّف مبالغ طائلة وتتَّسم ببطء شديد في الوقت الحالي. فتخليق أجزاء الحمض النووي البالغ عددها ٧٢ ألف جزء المستخدَمة في تجربة إرليتش وزيلينسكي يتكلَّف ٧ آلاف دولار (إلى جانب إنفاق ألفَي دولار آخرين على تحديد التسلسل). وحتى لو كان تخليق الحمض النووي رخيصًا، فإنَّ أسرع أجهزة تخليق الحمض النووي لا يمكنها إنتاج الجزيئات بالسُّرعة الكافية لتكون مفيدة في تخزين البيانات على نطاقٍ تِجاري.
وكذلك توجد مشكلة استرجاع البيانات. فإذا كانت ملفات بياناتك مخزَّنة في حمض نووي، فكيف يمكنك الوصول إلى الملفات التي تريدها فقط، مثلما يمكنك الوصول إليها على جهاز الكمبيوتر الخاص بك، دون أن تُضطر إلى استرداد كل الملفات (أي: تحديد تسلسلها كلها في هذه الحالة) في الوقت نفسه؟ إحدى الطرُق التي حقَّقت نجاحًا بالفعل هي وَسمُ كل ملف بباركود فريد أثناء تخليق الحمض النووي. وباستخدام بعض بادئات تفاعل البوليميريز المتسلسل المُصمَّمة خصوصًا لوسومٍ محددة، يمكن للمرء تضخيم الملفات التي يريدها فحسب وتحديد تسلسلها. غير أنَّ تفاعل البوليميريز المتسلسل يستغرق وقتًا ومُعرَّض للخطأ. وفي الوقت الحالي، يُظهِر الحمض النووي مؤشرات واعدة بأنَّ استخدامه كوسطٍ لأرشفة البيانات على المدى الطويل سيكون أنجح من استخدامه لتخزينها فترةً قصيرة. وبصرف النظر عن النهج المستخدَم لكتابة الحمض النووي وقراءته، يجب أن يكون قادرًا على اكتشاف الأخطاء التي تسبِّبها إنزيماتُ الطبيعة المعيبةُ وتصحيحها.
وما زال عصر الحمض النووي الرقمي (إذا انتهى المطاف إلى وجوده) بعيد المنال. إذ يلزم إجراء ملايين التحسينات في حجم عملية تخليق الحمض النووي وسرعتها، إذا كان مقدَّرًا لها أن تصبح حلًّا عمليًّا لمشكلة تخزين بيانات العالم المتزايدة. ولكن تجدر الإشارة إلى أنَّ تكلفة تحديد تسلسل الحمض النووي قد انخفضت بمقدار مليونَي مرة منذ عام ٢٠٠٣، وهي وتيرة تتجاوز قانون مور. ولتضع في حُسبانك أنَّه يُمكن نظريًّا، عند كثافة قصوى مقدارها وحدتَا بت في كل نيوكليوتيدة، تخزين كل بيانات العالم في كيلوجرام واحد فقط من الحمض النووي. هذا يعني كثيرًا من الحمض النووي، ويعني كذلك كثيرًا من البيانات! ومن ثَم، فليس صعبًا أن نتصور مستقبلًا تزخر فيه مراكز أرشفة البيانات في العالم برقائق مصنوعة من الحمض النووي بدلًا من الأقراص الصُّلبة التي تستخدمها أجهزة الكمبيوتر.
جينومات مُحررة — إعادة كتابة كتاب الحياة
أحد الجوانب المثيرة للإعجاب في تخزين البيانات القائم على الحمض النووي أنَّ الأدوات متوفرة في كل مكان حولنا. وعند تخزين البيانات كما ينبغي، ستصبح متاحة للأجيال القادمة باستخدام إنزيمات الأنظمة البيولوجية الخاصة بمعالجة المعلومات (وحتى لو تفتَّت الحمض النووي، فقد أظهرت الأبحاث التي أُجريت على الحمض النووي القديم أنَّ الحمض النووي المفتَّت بشدة يُمكن أن يظل قابلًا للقراءة). فمجال التكنولوجيا الحيوية تأسَّس على عطاء الطبيعة. فالإنزيمات المستخدَمة لأول مرة، في سبعينيات القرن العشرين، لقَطعِ الحمض النووي من كائنات مختلفة وتضفيره معًا مشتقة أصلًا من بكتيريا، و«وظيفتها الأساسية» هي تدمير الأحماض النووية الفيروسية الدخيلة. وكذلك فإنزيم البوليميريز «تاك» المستخدَم في إجراء التضخيم بتفاعل البوليميريز المتسلسل مُشتق أصلًا من بكتيريا المستحرة المائية، التي تعيش عند درجة حرارة ٧٠ درجة مئوية في الينابيع الحارَّة بحديقة يلوستون الوطنية. وكما تعلَّمنا في الفصل السادس، أصبح علم الميتاجينوم أداة فعَّالة لتسخير الإمكانات الكيميائية الحيوية الكامنة في العالم الطبيعي.
ومع أنَّ تقنية التحرير الجيني «كريسبر-كاس ٩» ما زالت جديدة تمامًا، فقد استُخدمت بالفعل في مجموعة متنوعة من تطبيقات الأبحاث الأساسية والتطبيقية. وأثارت ضجةً احتفالية وجدلًا معًا. فعلى سبيل المثال، استُخدم النظام لإصلاح طفرات مسبِّبة للأمراض في الفئران. ونُفِّذ ذلك بحقن مكونات «كريسبر-كاس ٩» المنشودة داخل جنين في مراحله المبكرة أو زيجوت (بويضة مُخصَّبة).
فور تحرير الحمض النووي، يظل التغيير دائمًا إلى الأبد؛ فيتطور الكائن الحي حاملًا التسلسل المعدَّل في جينومه وينقله إلى الأجيال القادمة. وتشهد المختبرات كذلك تحرير جينومات الخلايا البشرية باستخدام تقنية «كريسبر-كاس ٩». غير أنَّ أحد التحديات والشواغل الرئيسية التي تواجه هذه التقنية هي مسألة حدوث تعديلات خارج الموقع المستهدَف. صحيح أنَّ نظام «كريسبر-كاس ٩» كُفءٌ للغاية في إجراء عمليات التحرير المنشودة في الموقع المستهدَف، ولكن يُمكن أن تحدث كذلك تغييرات غير مقصودة في أماكن أخرى من الجينوم. وهذا شيء غير مرغوب فيه، وقد يُشكِّل خطورة، حسب طبيعة التطبيق الذي تُستخدم فيه التقنية. لذا يستكشف الباحثون طرقًا متنوعة للحد من هذه المشكلة إلى أدنى درجة على أمل القضاء عليها تمامًا. ومع وضع كل العوامل في الحُسبان بوجهٍ عام، فإنَّ تقنية «كريسبر-كاس ٩» تُظهر مؤشرات واعدة على إمكانية استخدامها بنجاح للعلاج الجيني والعلاج بالخلايا الجذعية. ولكن لأسباب متعلقة بالسلامة والأخلاقيات، توجد مخاوف من استخدام تقنية «كريسبر-كاس ٩» لتحرير الزيجوت البشري.
علم الأحياء التخليقي
يوجد عند مُلتقى علم الأحياء بالهندسة مجال سريع التقدم يُسمَّى علم الأحياء التخليقي. فتصميم الخلايا وأجزاؤها وتعديلها وحتى تجميعها من جديد يتطلب نهجًا اختزاليًّا وعقلانيًّا ومعياريًّا. وكما هو متوقع، فإن علم الأحياء التخليقي مبنيٌّ على التطورات التي شهدها علم الأحياء الجزيئي طوال عقود، ويستفيد من أحدث الأدوات مثل تقنية «كريسبر-كاس ٩». غير أنَّ ذلك المجال طوَّر لغةً خاصة به، مستلهِمًا ذلك من الهندسة الكلاسيكية. إذ يُطلق على الوحدات الأساسية لعلم الأحياء التخليقي اسم «أجزاء اللبنات الحيوية»، وهي تسلسلات حمض نووي تحتوي على عناصر وظيفية مثل جينات مشفرة للبروتين والمحفزات التي تنظم عملية التعبير عن هذه الجينات. وهذه الأجزاء محدودة من عند حوافها بمناطق مُعرَّفة يُمكن للإنزيمات هضمها؛ مما يسمح للباحثين بإضافتها داخل نواقل استنساخ بكتيرية وخلطها ومطابقتها من أجل بناء «أجهزة». وهذه الأجهزة عبارة عن مجموعاتٍ من أجزاء لبنات حيوية جُمِّعت لتنفيذ وظيفةٍ معينةٍ داخل الخلايا. ثم تُدمَج الأجهزة في «أنظمة» يمكنها أن تؤدِّيَ مجموعات أكبر من المهام البيولوجية للخلايا.
وتُسلِّط مجالاتٌ كثيرة في علم الأحياء التخليقي (ولكن ليس كلها) تركيزًا كبيرًا على توحيد المقاييس والعلوم «المفتوحة المصدر». ويتجسد هذا التركيز في المسابقة الدولية للآلات المُهندَسة وراثيًّا، التي تُعقَد سنويًّا في بوسطن. وقد توسَّعت هذه المسابقة على مرِّ العقد الماضي لتشمل مُشارِكين من مختلف أنحاء العالم، من بينهم طلاب في المدارس الثانوية والجامعات. وتتمثل أهداف المسابقة في تعزيز الوعي بعلم الأحياء التخليقي والاهتمام به، مع إنتاج أجزاء لبنات حيوية موحَّدة لمصلحة المجال ككلٍّ في الوقت نفسه. ووسط هذه الأهداف المُهتمة بالمجتمع، تُجرى أبحاث تطبيقية في الأوساط الصناعية، وكثيرًا ما تكون بالتعاون مع علماء في مختبرات أكاديمية.
ومن أكثر الاستخدامات إثارةً بين تطبيقات علم الأحياء التخليقي هندسةُ الخلايا وجعلها بمثابة «مصانع» لإنتاج مركبات حيوية مفيدة للعلم والمجتمع. ومن حيث المبدأ، يمكن تحقيق ذلك باستراتيجيتين مختلفتين؛ إحداهما «تصاعدية متدرجة من أسفل إلى أعلى»، والثانية «تنازلية متدرجة من أعلى إلى أسفل». تبدأ هذه الطريقة الثانية بخلايا طبيعية، وتسعى إلى تعديل تكوينها الجيني تدريجيًّا. وكان أحد إنجازاتها الفارقة ابتكار نظام لإنتاج عقار الأرتيميسينين المضاد للملاريا. ويُعَد المركب المُبتكَر واحدًا من التربينويدات، ويوجد طبيعيًّا في نبات الشيح الحولي، الذي يُستخدم في الطب الصيني التقليدي؛ صحيح أنه يُمكن استخراج هذا المركب من مصدره مباشرة، ولكن يتم هذا بصعوبة بالغة وتكلفة باهظة. وقد استطاع أستاذُ علم الأحياء التخليقي جاي كيسلينج وبعض زملائه إعادةَ هندسة المسارات الأيضية للإشريكية القولونية، ثم الخميرة بعدئذٍ، لإنتاج الأرتيميسينين في المختبر. وتشمل الأمثلة الأخرى الحديثة على «الهندسة الأيضية» استخدام الخميرة لإنتاج الإيزوبوتانول كوقود حيوي، واستخدام الإشريكية القولونية لتخليق مركبات طليعية كيميائية تُستخدم في إنتاج ألياف الاسباندكس الصناعية، واستخدام البكتيريا الوتدية لإنتاج أحماض أمينية لأغراض تجارية مثل حمض اللايسين.
وصحيح أنَّ الهندسة الأيضية بالنهج التنازلي تحمل إمكاناتٍ كامنةً هائلة، لكنها تستلزم عملًا شاقًّا أيضًا. فالخلايا الحية شديدة التعقيد لدرجة أنَّ عملية إيصال «مصنع خلايا» جديد إلى مرحلة يمكن فيها استخدامه لإنتاج مركب كيميائي مهم على نحوٍ فعَّال ومُجدٍ اقتصاديًّا، قد تستغرق فترةً تتراوح بين خمس سنوات وعشر، وتتكلَّف عدة ملايين من الدولارات (إذ استغرق إنتاج الأرتيميسينين عشرة أعوام، وتكلَّف حوالي ٥٠ مليون دولار أمريكي). وتجدر الإشارة إلى أنَّ الاكتفاء بإدخال الجينات الصحيحة في جينوم كائن مُستخدَم بكثرة في التجارب المختبرية ليس كافيًا؛ فالعمل الذي أنجزه كيسلينج يؤكِّد أهمية اتباع دورة «التصميم، فالبناء، فالاختبار، فالتعلم» التي يألَفُها المهندسون كثيرًا. وفي حالة الهندسة الأيضية، غالبًا ما يتوجَّب تكرار الدورة مرارًا من أجل تحقيق النتيجة المرجوة. لكن وتيرة التقدم تتسارع، وتساعدها على ذلك مجموعة متنامية من أدوات علم الأحياء التخليقي والمعرفة المكتسبة عن طريق التجربة والخطأ.
وكذلك فإنَّ الطرق التصاعدية في علم الأحياء التخليقي صعبة بالقدر نفسه. يمكننا نظريًّا أن نبني إحدى الخلايا قطعةً بقطعة واضعين نتيجةً محدَّدة في حُسباننا دون التقيُّد ﺑ «الفوضى» المتأصلة في الحياة. ولكن لأنَّ الخلايا تطورت بالانتقاء الطبيعي، فحتى أبسط الخلايا لديها دوائر جينية معقَّدة، وكثيرًا ما تكون زائدة عن الحاجة، وربما تكون ذات صلة بأغراض الباحث أو لا، لكنها مع ذلك يجب أن تؤخذ في الاعتبار. وفي هذا الصدد، دمج كريج فينتر وزملاؤه بين طرق تصاعدية وأخرى تنازلية في بحثهم الذي أجرَوه على ما قد يوصف بأنه «أبسط» كائن حي معروف، وهو بكتيريا تُسمَّى الميكوبلازما. ففي عام ١٩٩٩، استخدموا تقنية تعطيل الجينات ليتنبَّئُوا بأنَّ أقل عدد من الجينات يحتاج إليه الكائن الحي ليبقى حيًّا يبلغ حوالي ٣٧٥. وفي عام ٢٠١٦، خلَّق فينتر ورفقة من الباحثين الآخرين نسخةَ جينوم كائن حي مُعاد ترتيبها من الصفر في المختبر، واستخدموها بنجاح ﻟ «تشغيل» خلية ميكوبلازما قد أزيل جينومها الأصلي.
لكن حتى بكتيريا الميكوبلازما كائنٌ معقَّد يحمل مئات الجينات. وتُعَد النُّهج التصاعدية المتبَعة في علم الأحياء التخليقي أشبه بالكيمياء العضوية. فهي تركِّز على أنظمة خالية من الخلايا يمكن فيها التلاعب بجزيئات تخليقية، مثل جزيئات الحمض النووي الريبوزي من أجل توضيح العمليات الكيميائية الحيوية الأساسية، والتحكم فيها في نهاية المطاف. وصحيح أننا غير متيقِّنين ممَّا إذا كنا سنتمكَّن على الإطلاق من إنشاء الخلايا من الألف إلى الياء، ولكن لا شك أننا سنتعلم كثيرًا من المحاولة. ولعل أفضل ما يُعبِّر عن عقلية هذا الفرع من علم الأحياء التخليقي هو المقولة الشهيرة التي كتبها ريتشارد فاينمان على سبورة سوداء، قائلًا: «ما لا أستطيع إنشاءه، لا أفهمه».
علم الجينوم الإحيائي
يُعَد علم الأحياء المعني ﺑ «الإعادة من الانقراض» (أو إحياء الأنواع المنقرِضة) مجالًا علميًّا يتقدم بخُطًى سريعة ويثير جدلًا، ويستكشف إمكانية إعادة الأنواع المنقرِضة إلى الحياة في يوم من الأيام. ويعترف علماء الأحياء حاليًّا بثلاثة نُهُج عامة ربما يمكن استخدامها لجعل هذا الأمر حقيقةً واقعية، وهي: التهجين الرجعي، والاستنساخ، وتحرير الجينوم. في واقع الأمر، إنَّ التهجين الرجعي لا يؤدي إلى إحياء أنواع منقرِضة، بل يستخدم التهجينَ الانتقائي لكائنات حية حالية من أجل إعادة خصائص جسدية و/أو سلوكية محددة فُقدت بمرور الوقت.
ويتضمن أشهر مثال على التهجين الرجعي ثورَ الأُرخُص، الذي يُعد نوعًا منقرِضًا من الماشية البرية انبثقت منه ماشية عصرية مستأنَسة. إذ يهدف الباحثون إلى إعادة إنشاء تلك الكائنات البرية ذات القرون الحادَّة (والمِزاج الحاد) التي اختفت من أوروبا في مطلع القرن السابع عشر، وذلك من خلال إحداث تزاوج ممنهَج بين سلالات معينة من الماشية تُظهِر سمات شبيهة بسمات الأُرخُص. هذا وتعود محاولات إحياء ثور الأرخُص إلى عشرينيات القرن العشرين، حينما أجرى عالِما الحيوان الألمانيان لوتس هيك وهاينز هيك برنامجًا للتهجين الرجعي أنتج سلالة تُعرَف باسم «ماشية هيك» تشبه ثيران الأرخص في بعض خصائصها (ولكن ليس كلها). (تجدر الإشارة إلى أنَّ الأخوَين هيك استطاعا أيضًا أن يُوجِدا بالتهجين سلالة «حصان هيك»، التي أُنشئَت احتذاءً بالحصان البري الأوراسي المنقرِض التاربان.) وقد استفادت بعض الجهود الحالية الساعية إلى إحياء ثيران الأرخص من بيانات جينية وجينومية مستمدة من سلالات ماشية ذات أنماط ظاهرية متنوعة، ومن جينومٍ فعلي لثور الأرخص حُدِّد تسلسله من حمض نووي مستخرَج من عظمة عضد عمرُها حوالي ٦٨٠٠ عام عُثِر عليها في بريطانيا.
أمَّا نهج الإعادة من الانقراض بالاستنساخ، فيعتمد على نقل نوى الخلايا الجسمية، وهو إجراء استُخدم في التجربة الشهيرة لاستنساخ النعجة دُولِّي في تسعينيات القرن الماضي. يبدأ هذا النهج بزراعة نواة خلية جسمية مأخوذة من حيوان ما في خلية بويضة انتُزعَت منها نواتها. ثم بعد التحفيز بصدمة كهربائية، ستبدأ هذه الخلية الهجينة في الانقسام، ويمكن زرع الجنين الناتج في أم مُضيفة واستكمال مراحل نموه حتى نهاية فترة الحمل. ومع أنَّ الإجراء يبدو واضحًا وبسيطًا، فإنه يستلزم متطلبات تقنية صعبة، وقلَّما يُنتِج نسلًا صالحًا للحياة. وحتى يتسنى للباحثين إجراء عملية استنساخ لإعادة كائن معين من الانقراض، لا بد أن يحصلوا على خلايا ذلك الكائن المنقرِض (وإلا فلن توجد نواة لنقلها)، وهذه حالة نادرة؛ إذ لا يمكن أن تحدث إلا عندما يكون الانقراض حديثًا جدًّا، ويكون العلماء قد زرعوا و/أو جمدوا مواد خلاياه. وبينما أثبت الباحثون إمكانية نقل النوى فيما بين الأنواع في المختبر بين خلايا ثور الغور المهدَّد بالانقراض وأبقار داجنة، يبدو محتملًا أنه كلما زادت المسافة التطورية بين الكائنين قلَّ احتمال النجاح؛ بسبب عدم التوافق بين نواة المانح والخلية المتلقية. وهكذا فإنَّ آفاق نجاح هذا النهج على المدى البعيد في إعادة الكائنات من الانقراض تبدو ضبابية في الوقت الحاضر.
وأخيرًا، يمكن استخدام تقنية «كريسبر-كاس ٩» (أو أداة تحرير أخرى) من أجل هندسة جينوم كائن حي ليُشبِه جينوم كائن منقرِض، شَبهًا كليًّا أو جزئيًّا. ويعتمد هذا النهج على توافر بيانات تسلسلات جينومية من النوع المنقرِض محل الاهتمام، وهو ما يفرض قيودًا على عمر الكائن الذي يرغب الباحثون في إحيائه. فمن الصعب للغاية استخراج عيِّنة موثوقة من حمضٍ نووي من مادةٍ عمرها أكثر من بضعة آلاف من السنوات (ارجع للفصل الخامس)، وتعتمد «فترة صلاحية» أي حمض نووي قديم اعتمادًا كبيرًا على الظروف التي حُفظ فيها. وفي الوقت الحالي على الأقل، يُعَد التوسُّع في تحرير الجينوم مهمةً مُجهِدة أيضًا، في ظل وجود متغيرات كثيرة يجب أن توضع في الحسبان قبل استخدام الخلايا المُهندَسة في أنبوب الاختبار لنقل النوى فيما بين الأنواع.
لهذه الأسباب وغيرها، فإنَّ عملية إعادة الكائنات المنقرِضة إلى الحياة باستخدام تحرير الجينوم ما زالت مجرد خيال علمي حاليًّا. وقد أعلن جورج تشيرش أنه هو وفريقه البحثي ربما يستطيعون إحياء الماموث الصوفي قريبًا في عام ٢٠١٩. وتشير أبحاث إلى أن أعداد الماموث قد تراجعت بشدة في الفترة التي تتراوح بين ١٥ ألف عام و١٠ آلاف عام مضت، ويبدو أن آخر كائنات من هذا النوع قد ماتت قبل حوالي ٥٥٠٠ سنة على جزيرة سانت بول قبالةَ الساحل الغربي لما يُعرَف الآن بالبر الرئيسي لألاسكا، وقبل ٤ آلاف عام فقط على جزيرة رانجل شمال شرق سيبيريا. ولم تتَّضح الظروف التي أدَّت إلى زوال هذا الكائن الذي يُعتبر أيقونةً للعصر الجليدي. تفترض إحدى الفرضيات المطروحة أننا — نحن البشر — اصطدنا الماموث حتى الانقراض، ولكن من المحتمل أيضًا أن يكون ارتفاع درجات الحرارة المرتبط بنهاية العصر الجليدي الأخير قد أدَّى دورًا مهمًّا في ذلك.
مع ذلك، فقد حُدِّد تسلسل جينوم الماموث الصوفي كاملًا باستخدام حمض نووي مستخرَج من عظام متجمِّدة في منطقة التندرا، وتُقارَن تلك التسلسلات بتسلسلات جينوم الفيل الآسيوي الذي يُعَد أقرب أقرباء الماموث من الأحياء. إذ يعكف فريق تشيرش على تحرير جينوم أجنَّة الأفيال تحريرًا منهجيًّا، بمنحها العشرات من جينات الماموث، بما في ذلك تلك الجينات التي من المتوقَّع أنها تؤدي دورًا في تكوين الشعر وترسُّب الدهون، وجينات مرتبطة بحجم الأذن. وستصبح النتيجة جنينًا مهجَّنًا من الفيل والماموث يمكن زرعه واستكمال مراحل نموه حتى الولادة في فيل أو إنماؤه في رحم اصطناعي.
ولكن لماذا قد نرغب في إحياء الماموث الصوفي، أو على الأقل إحياء فيل يشبه الماموث ذي قدرة أكبر على النمو والازدهار في درجات حرارة باردة؟ اقتُرح أن عودة مثل هذا الكائن ستساعد في التخفيف من آثار التغيُّر المناخي، وذلك بإعادة منطقة التندرا القطبية إلى ما يُسمى سهوب الماموث العشبية، كما كانت خلال العصر الجليدي الأخير، حينما كانت البيئة الطبيعية تحت هيمنة الماموث وحيوانات أخرى ضخمة تتغذى على العشب مثل البيسون. وتقوم حُجة هذا الاقتراح على أنَّ حيوانات الماموث، بسحقها للأشجار في الصيف وإحداث ثقوب في الجليد في الشتاء، ستُسهِم في إبطاء معدل ذوبان التربة الصقيعية السفلية؛ مما سيؤدي بدوره إلى إبطاء إطلاق غازات الدفيئة في الغلاف الجوي. تنبع هذه الفكرة المثيرة من العمل الذي أنجزه العالِم الروسي سيرجي زيموف. فزيموف قد أنشأ مع ابنه نيكيتا «منتزه بيلستوسين»، وهي محمية في منطقة التندرا السيبيرية النائية، وجعلها آهلةً بثيران المسك، وثيران البيسون، وخيول «أُعيدَ دمجُها في الحياة البرية الطبيعية». من المتصوَّر أنَّ شبيه الماموث الصوفي المستحدَث بالهندسة الوراثية سيصبح موجودًا هناك عمَّا قريب.
ومن المخلوقات الأخرى المتنوِّعة التي أُثيرت إمكانية إعادتها من الانقراض طائر الدودو، والنمر التسماني، والحمام المهاجر. وتختلف الأسباب من كائن إلى آخر، مثلما تختلف المخاوف المثارة ضد إعادة إحياء كل كائن منها. وفي الوقت الحالي، لا يتضح مآل كل هذا. إذ أكَّدت بيث شابيرو، أستاذة علم الأحياء التطوري بجامعة كاليفورنيا في سانتا كروز، أنَّ تقنيات إعادة الكائنات من الانقراض لا تقتصر بالضرورة على إحياء أنواع منقرِضة. بل يحمل هذا النهج إمكانات هائلة تُبشِّر بنجاح استخدامه في مجال علم الأحياء المعني بحفظ الكائنات، وليَكُن مثلًا في الحالات التي تكون فيها الأنواع المهدَّدة بالانقراض قليلة العدد، وتتَّسم بتنوع جيني غير كافٍ ليمنحها فرصة جيدة للبقاء على قيد الحياة. ينطبق هذا على الفيل الآسيوي الذي شهدت أعداده، لأسباب مختلفة (من بينها تجارة العاج)، انخفاضًا جامحًا إلى حوالي ٤٠ ألفًا في الوقت الحاضر، بعدما كانت أقل بقليل من المليون في ثمانينيات القرن العشرين. فهل ينبغي أن نستخدم علم الجينوم لفعل شيء حيالَ ذلك؟
مستقبل علم الجينوم
نعود إلى حيث بدأنا؛ أي: إلى الجينوم البشري وكيف ستتغير حياتنا بمعرفته. مع تزايد انتشار تحديد تسلسل الجينوم الشخصي، أصبحنا على مشارف عصر الطب المشخصن. بل يُمكن القول إنَّه بطريقة ما قد صار قائمًا بالفعل إذا نظرنا إلى أنَّ بعض التقنيات الجينومية يشيع استخدامها الآن في تشخيص بعض الأمراض كالسرطان وعلاجها (ارجع للفصل الرابع). وتجد بعض أدوات علوم الأوميكس الأخرى مكانًا لها في مجموعة أدوات الطب المشخصن، مُتخذةً علم الجينوم أساسًا لها. فعلى سبيل المثال، يُستخدم الآن علم الترانسكريبتوم لمراقبة نشاط جينات تُعرَف بتقلُّب مستويات التعبير عنها في أنواع معينة من سرطان الثدي وسرطان البروستاتا. ومن ثَم، يمكن تصميم استراتيجيات علاجية خِصِّيصى وفقًا لذلك.
وكذلك من المجالات التي يزداد التركيز عليها مجال «الإيبيجينوم». تُعرَف التغيرات فوق الجينية بأنها تغيرات ثابتة في التعبير الجيني ليست ناتجة من تغيُّر تسلسلات الحمض النووي. وتُعَد مَثْيَلة بقايا السايتوسين في الحمض النووي من التعديلات فوق الجينية المهمة جدًّا. فقد أثبت مستوى المَثْيَلة لدى الجينات أنه أداة لتشخيص أنواع معينة من الحساسيات تجاه بعض الأدوية، بما في ذلك عوامل العلاج الكيميائي؛ وبذلك فالحصول على هذه المعرفة يفيد عند اتخاذ قرارات بشأن أنظمة العلاج.
ولن تقتصر استخدامات علم الجينوم الشخصي في المستقبل على تشخيص الأمراض وعلاجها فحسب، وإنما الوقاية من الأمراض أيضًا. وكذلك ستُصبح أداة مفيدة لأولئك الذين يتمنَّون اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن نمط الحياة من أجل زيادة مستوى الرفاه على المدى الطويل إلى أقصى حد. وهذا يشمل إدارة النظام الغذائي وممارسة التمرينات الرياضية، واستخدام الأدوية التي لا تستلزم وصفة طبية، والتأثيرات الضارَّة الناتجة من الأدوية التي تستلزم وصفة طبية. باختصار، سيُستخدم تحديد تسلسل الجينوم لنفع الأشخاص الأصحَّاء أيضًا.
ولكن من المهم أن نتذكر أن تفسير تسلسل الجينوم ليس علمًا دقيقًا، ولا يقترب من الدقة حتى. فالجينوم لا يمكن أن يخبرنا بكل شيء أو حتى بمعظم الأشياء التي قد نرغب في معرفتها عن صحتنا المستقبلية وعُرضتنا للإصابة ببعض الأمراض. إذ يختلف تسلسل الجينوم اختلافًا كبيرًا من شخص لآخر، وكلنا نحمل طفرات مرتبطة بأحد الأمراض بطريقة أو بأخرى. ففي بعض الحالات، مثل الجينَين المرتبطين بسرطان الثدي «بي آر سي إيه ١» و«بي آر سي إيه ٢»، يكون الارتباط بالمرض قويًّا (فالنساء اللواتي يحملن طفرات معينة في هذين الجينين يُمكن أن يُصَبن بسرطان الثدي أو سرطان المبيض باحتماليةٍ تبلغ ٨٠ في المائة). ولكن في معظم الحالات، تكون العُرضة للإصابة بالمرض أقل وضوحًا، وتعتمد على عدد لا يُحصى من العوامل، من بينها عوامل كثيرة غير وراثية.
وأخيرًا، من بين أكبر التحديات التي تواجه الطب المشخصن مسألة الخصوصية. فالأطباء سيُصادِفون عددًا متزايدًا باستمرار من مرضى حُدِّد تسلسل جينوماتهم بالكامل. وستكون الأسباب التي دفعتهم إلى ذلك مختلفة. وكذلك سيختلف مدى توعيتهم لأنفسهم بشأنِ ما يمكن أن يُخبِرهم به تسلسل جينوماتهم وما لا يمكن أن يُخبِرهم به، وماهية العواقب المحتملة حال اكتشاف عُرضة شديدة للإصابة بمرضٍ معين. فمن يحقُّ له أن يعرف ذلك وكيف ينبغي الحفاظ على الخصوصية؟ يجب الحرص على تحقيق التوازن بين تعظيم فائدة البيانات الجينومية في الوقاية من الأمراض وتشخيصها وعلاجها من ناحية، وتقليل احتمالية التمييز إلى أدنى حد من ناحية أخرى. وهذا يشمل، على سبيل المثال لا الحصر، التمييز في التوظيف وحق الحصول على خدمات التأمين والرعاية الصحية، وسياقات اجتماعية مختلفة.
سيغيِّر علم الجينوم عالَمنا بطرُق قد تخطر أو لا تخطر ببالنا. فتقنية «كريسبر-كاس ٩» يُمكن أن تعالج أمراضًا وتمكِّننا من تعديل الخط النسلي البشري بصفةٍ دائمة. وهذا يحمل تداعيات اجتماعية وقانونية وأخلاقية لا يُستهان بها. فعلم الجينوم الإحيائي وبعض جوانب علم الأحياء التخليقي يُثيران قضايا أخلاقية شائكة خاصة بهما. إذ إنَّ كليهما لديه إمكانية تغيير مسار تطور الأحياء على كوكبنا. وفي هذا الصدد، يتعلق أحد المخاوف المشتركة التي أعرب عنها بعض العلماء وغير العلماء بالوتيرة الاستثنائية التي تتطور بها التكنولوجيا في العلوم الجزيئية. ومع الأسف، يبدو في كثير جدًّا من الأحيان ويكأن الباحثين لم يكن لديهم الوقت الكافي لاستكشاف العواقب المترتِّبة على تكنولوجيا جديدة قبل استخدامها بالفعل. فيما يؤكِّد آخرون أنَّ الوقت قصير، وأننا نحتاج إلى التحلِّي بالشراسة والجرأة في مساعينا إلى استخدام جميع الأدوات المتاحة لنا لكي نحلَّ أزمة الطاقة الوشيكة، ومواجهة التغيُّر المناخي الناجم من الأنشطة البشرية، والتعامل مع مجموعة متنوعة من الشواغل المجتمعية الأخرى التي يمكن معالجتها باستخدام أدوات علم الأحياء التخليقي وعلم الجينوم. وهكذا فإنَّ تحديد «أفضل» المسارات التي ينبغي أن نمضي فيها قُدمًا ليس بالأمر الهيِّن، ولكن ثَمة شيئًا واحدًا واضحًا، وهو أنَّ المستقبَل سيشهد وجود عدد وفير من العلماء المبدعين الطموحين المتطلعين بتفكيرهم إلى المستقبل المستعدين لتوسيع حدود الممكن. ويقع على عاتقِ كلٍّ منا أن نقرر تثقيف أنفسنا حتى نتمكن من التوصُّل إلى رأيٍ مُستنير بشأنِ ما هو صواب.