الفصل الرابع
المنظر الأول
الأرض العاشبة
(يدخل إدغار.)
إدغار
:
لأن أكون هكذا زريَّ الحال مع العلم به خير من أن أكون زريًّا ويخدعني الناس
في أمري. إن أكن في أسوأ حال فشر الأحياء وأسفلهم، وأزرى من وضع الحظ منهم، لا
تفارق قلوبهم الآمال، ولا يعيشون في وجل من تبدُّل الحال. أنكى التبدُّل ما كان
من النُّعمى. أما تبدل الشقوة فمرجعه إلى الفرج. مرحبًا بك أيها النسيم اللطيف
أضمُّك إلى صدري. لقد عبثت بي أعاصيرك، ورمتني في البؤسى، فليس لها عليَّ
جميل.
(يدخل غلوستر يقوده رجل عجوز.)
إدغار
:
أبي يقاد هكذا، يا دنيا! يا دنيا! يا دنيا! لولا غيرك العاتية، وصروفك
القاسية التي تُكرِّهنا فيكِ ما ألمَّ١ بنا وهن الشيخوخة.
الرجل العجوز
:
كيف ذا يا سيدي؟ لقد كنت مستأجرًا أرضك وأرض أبيك من قبلك أبد تلك الثمانين
من السنين.
غلوستر
:
بل انصرف، انصرف عني أيها الرجل الطيب، ابعد عني، ليس يجديني الرثاء بتاتًا،
ولربما أصابك أنت منهم الأذى.
الرجل العجوز
:
وا أسفًا يا سيدي! إنك لا تستطيع أن تبصر الطريق.
غلوستر
:
ليس لي طريق، فما لي من حاجة إلى البصر، لقد عثرتُ يوم كنت أبصر، ولطالما
رأينا كمال حواسنا يشعرنا بالأمن فنزل ونقع. حين يُشعرنا نقصها بالشك فنأمن. آه
يا ولدي العزيز إدغار! يا من كنت فريسة غضب أبيك المخدوع! لو عِشتُ حتى أراك
باللمس من يدي لأقولن يومئذ رُدَّت إليَّ عيناي كلتاهما.
الرجل العجوز
:
ما هذا؟ من هنا؟
إدغار
(لنفسه)
:
رباه! مَن ذا الذي يستطيع أن يقطع بأنه في الدرك الأسفل من سوء الحال؟ إني
لأسوأ الآن حالًا مما كنت منذ قليل.
الرجل العجوز
:
هذا توما المجنون المسكين.
إدغار
(لنفسه)
:
وقد أكون أسوأ حالًا فيما بعد. لا، ليس أسوأ أحوالنا ما يكون ما دمنا نستطيع
أن نقول: إن هنالك ما أسوأ.
الرجل العجوز
:
أين تذهب يا صاحبي؟
غلوستر
:
أهو أحد المتسولين؟
الرجل العجوز
:
مجنون ومتسول معًا.
غلوستر
:
لا بد أن يكون فيه شيء من الرشد، وإلا ما استطاع أن يستجدي. في زوبعة ليلة
الأمس رأيت مثل مَن تصف، فخيل إليَّ أن الإنسان في حقارته دودة. عندئذ خطر ولدي
على بالي؛ بيد أن البال لم يكن طيبًا له، على أني سمعت منذ ذلك أنباء لم أكن
عليمًا بها إذ ذاك. نحن بني البشر لُعب في يد القدر، تعبث الآلهة بنا وتُردينا
في لهوها بنا كما تفعل الصبية العابثة بالفراش.
إدغار
:
كيف حدث هذا يا ترى؟ ما أسوأ تجارتي! تقضي عليَّ أن أمثل برغمي دور المجنون
الهازل أمام رجل محزون، فأحزن قلبي وقلبه معًا. بورك فيك يا سيدي.
غلوستر
:
أهذا هو الفتى العاري؟
الرجل العجوز
:
أجل يا مولاي.
غلوستر
(إلى العجوز)
:
إذن فإني أرجو منك أن تنصرف، وإذا لم يكن لك بد أن تتبعني إكرامًا لي؛ فكن
على مدى ميل أو ميلين مني في طريق دوفر. افعل هذا سألتك بحق الحب القديم العهد،
وأحضر شيئًا من الغطاء لهذا المخلوق العاري، إني سأتوسل إليه أن يأخذ
بيدي.
الرجل العجوز
:
ويحي يا سيدي! إنه فاقد الرشد.
غلوستر
:
هو الخطب الشائع هذه الأيام أن يستهدي العميان بالمجانين. لا عليك، افعل كما
قلت لك، أو بالأحرى افعل كما يحلو لك، وقبل كل شيء انصرف.
الرجل العجوز
:
سأحضر له خير ثوب عندي، وليكن ما يكون (يخرج).
غلوستر
:
أيها الفتى العاري.
إدغار
:
توما المسكين مقرور. (لنفسه) ضقت ذرعًا
بهذا التنكر.
غلوستر
:
ادن مني يا فتى.
إدغار
(لنفسه)
:
بيد أن التنكر واجب. بورك في عينيك يا سيدي. إنهما تدميان.
غلوستر
:
أتعرف الطريق إلى دوفر؟
إدغار
:
معالمها وحواجزها، طريق الراكب فيها والراجل. توما المسكين شردوا عنه العقل،
وقيت يا ابن الكرام أذى العفريت الأسود. لقد كان في بدني خمسة عفاريت معًا، أو
بديكوت أمير الجشع، وهوبيدانس أمير البكم، وماهو أمير اللصوص، ومودو أمير
القتلة، وفليبرتيجبت أمير المتعوجين والمتصنعين. وهذا العفريت هو الذي يركب
الخادمات والوصائف؛ فلتحمك الآلهة منهم يا سيدي.
غلوستر
:
خذ هذا الكيس لك أيها الشقي المسكين الذي رمته عوادي السماء بكل نازلة، طب
الآن نفسًا بما ترى من شقائي. وأنت أيتها السماء، استرسلي واحزبي بنوازلك كل ذي
ثروة مستفيضة، المنغمس في الملذات والشهوات، والذي يسخر شريعتك لمراده، والذي
لا يبصر لأنه لا يشعر. احزبيه عساه يشعر على عجل بقدرتك حتى يذهب التوزُّع
بالزوائد، ويكون لكل امرئ كفايته. تُرى أتعرف دوفر؟
إدغار
:
أجل يا سيدي.
غلوستر
:
هناك صخرة لها ناصية عالية، منكبة منحنية تطل على غور البحر الحبيس إطلالًا،
يبعث الرعب في القلوب. خذني إلى غرار الحافة منها أُصلِح لك ما أنت فيه من
البؤس بعطية ثمينة، ولن أكون في حاجة بعد ذلك إلى مَن يقودني.
إدغار
:
أعطني يدك؛ سيقودك توما المسكين (يخرجان).
المنظر الثاني
أمام قصر دوق ألباني
(تدخل غونوريل وإدموند.)
غونوريل
:
مرحبًا بك يا سيدي، إني لأعجب لِمَ لمْ يأت زوجي الوديع للقائي؟
(يدخل أوزوالد.)
ماذا؟ أين مولاك؟
أوزوالد
:
مولاتي، هو في القصر، ولكني لم أر إنسانًا اعتراه من التغير ما اعتراه! لقد
خبرته عن الجيش الذي ورد فابتسم لما سمع، وخبرته أنك آتية فكان جوابه: «هذا
أسوأ وأكره»، وخبرته عن خيانة غلوستر وولاء ولده، فما إن انتهيت حتى سماني أبله
وقال: أخطأت النظر وخدعت. وكأني به أصبح يحب ما كان يجب أن يكره، ويكره ما يجب
أن يحب.
غونوريل
(إلى إدموند)
:
إذن فقد انتهت مهمتك. لم يقعده عن النهوض إلى الخطب إلا ما ركِّب في نفسه من
الرعدة والجبانة. إنه لا يرى جناحًا في أمر يلزمه أن يغضب له ويستشيط؛ إذن
فلينفذْ ما اتفقنا عليه في الطريق، عد إلى صهري كورنوال، وأعنه على حشد جنوده
عاجلًا، وكن على رأس الجيش. وسأنصرف أنا في غضون ذلك إلى مبادلة زوجي بمهمتي في
الدار، فآخذ السيف من يده، وأعطيه المغزل بدله. وسيكون هذا الخادم الأمين
رسولًا فيما بيننا، ولعله لا يطول بك الوقت، إذا أنت أقدمت على تحقيق مرادنا؛
حتى تتبين أن التي تأمرك بذلك خلة تحبك وتهواك. البَسْ هذا (تعطيه حلية للتذكار) لا، لا تتكلم، مِلْ برأسك.
إذا كان لهذه القبلة لسانٌ نطقت بما يرفع آمالك في أجواز السماء. فكِّر في
الأمر، ولتصحبك السلامة.
إدموند
:
أنا عبدك حتى الممات.
غونوريل
:
وأنت الحبيب الأعز يا غلوستر.
(يخرج إدموند.)
ما أوسع البون بين الرجل والرجل! على مثلك تعطف المرأة لا على مثل ذلك
المأفون الذي يستبيح جسمي استلابًا.
أزوالد
:
أتى مولاي يا سيدتي.
(يدخل ألباني.)
غونوريل
:
لقد أصبحت ولا يعتد بي.
ألباني
:
أنت يا غونوريل لا تعدلين التراب الذي تسفيه الريح على وجهك. أرى في شيمتك ما
ينزل الرعب بنفسي! إن المرأة التي تزري بأبيها لقمينة أن تقترف كل منكر، ولعمري
إن الوليدة التي تنفصل وتنشق على معين الحياة من الجزع الذي أنبتها لا بد أن
يعالجها الذبول والجفاف، وتتناولها أيدي الردى.
غونوريل
:
كفى! هذا كلام سخيف.
ألباني
:
لا غرو أن تكون الحكمة والفضيلة سقطا في عيني الساقط. الدنس لا يستطيب إلا
الدنس. ماذا فعلتما أيتها النمرتان — ولا أقول الابنتان — ماذا اقترفتما؟ أكذا
تصنعان بأبيكما الرجل المسن الوقور الذي تملك شيبة رأسه مشاعر النفس، ولو كانت
نفس دبة مقودة. يا أضرى الخلق، وأعق النفوس! أعراكما الجنون؟ بل كيف أجازته
رجولة عديلي الكريم، ونبل نفسه، وعظيم عرفانه بالجميل! لعمري لو أغضت السماء
طرفها فلم ترسل سوط نقمتها تعزيرًا على مثل هذه الجرائم؛ لأكل الناس بعضهم
بعضًا كما تفعل وحوش اليم العميق.
غونوريل
:
يا ذا الكبد البيضاء، الذي يحمل خدودًا للطمات، ورأسًا لتنصب عليها المهانة،
والذي لم تركَّب تحت حاجبه عين تتبين ما يرفعه وما يحطه، إنه لهو الأحمق الذي
يشفق على أولئك الأوغاد، ويأسى لعقابهم قبل أن يوقعوا ما انتووه من الشر. أين
طبلك ونفيرك في قومك؟ لقد خفقت بنودُ ملك فرنسا في بلادنا حين لا تسمع فيها
قعقعة سلاح منا لمقاتلته، ولا لجب جيش لمقاومته. تقدم فرسانه المعلمون نحو حماك
ليستبيحوه وليحكموه حين تخلد أنت للسكينة والفلسفة الحمقاء. صارخةً «وا أسفًا»!
لماذا يفعل ملك فرنسا بنا هذا؟
ألباني
:
تأملي نفسك أيتها الشيطانة المريدة، بل لعمري لدمامة نفس الشيطان وهي منه،
أقل قبحًا في العين من دمامة نفس المرأة.
غونوريل
:
قُبِّحت من غرٍّ مأفون.
ألباني
:
أيتها الكائن الممسوخ والهنة المتنكرة، استحيي ولا تتبدَّي في صورة الوحشة
الضارية. لو كان يجمل بي أن أطلق يدي طوع دمي لسخلت هبر لحمك، وفككت أوصال
عظمك. إنك لشيطانة مريدة؛ بيد أنك تتبدين في مسلخ امرأة، وتجعلين لنفسك درعًا
من ذلك وحمًى.
غونوريل
:
مرحى، أرى عليك الآن مخايل الرجولة.
(يدخل الرسول.)
ألباني
:
ما وراءك؟
الرسول
:
أسفًا يا مولاي! مات دوق كورنوال! قتله خادمه حين كان يهمُّ باقتلاع عين
غلوستر الأخرى.
ألباني
:
يقتلع عيني غلوستر!
الرسول
:
خادم نشأ في بيته وجَد لما رأى؛ فأنكر الفعلة، ورفع سيفه على مولاه الكبير،
فاستشاط غضبًا وحمل عليه وقتله بين الجمع لساعته، ولكنه كان قد أصيب بطعنة
بالغة قضت عليه بعد ذلك.
ألباني
:
إن في ذلك لدليلًا على أنك في العلا أنت أيتها الآلهة العادلة بما ترسلين من
جزاء مُعجَّل، تعزِّرين به جرائمنا في هذه الدنيا، ولكن وا أسفًا عليك يا
غلوستر! هل فقد عينه الثانية؟
الرسول
:
كلتيهما يا مولاي كلتيهما. هذي الرسالة يا مولاتي تتطلب جوابًا عاجلًا، وإنها
من أختك.
غونوريل
(لنفسها)
:
يطربني سماع هذا النبأ على وجه ما، ولكنها أصبحت أيِّمًا وفتاي غلوستر بين
يديها، وقد يكون في ذلك تقويض لأمانيَّ يجعل حياتي رهن الشقاء، ولكن هناك
طريقًا آخر أسلكه. ليس في نبأ موت الرجل ما تنزعج له النفس. سأقرأ الرسالة
وأجيب عليها (تخرج).
ألباني
:
أين كان ولده حين اقتلعوا عيني أبيه؟
الرسول
:
كان قد انصرف في رفقة مولاتي إلى هنا.
ألباني
:
إنه ليس هنا.
الرسول
:
لا يا مولاي، لقد لقيته في الطريق عائدًا.
ألباني
:
أيعرف ما أوقعوا بأبيه؟
الرسول
:
أجل يا مولاي، إنه هو الذي وشى به إليهم، وغادر القصر متعمدًا ليوسع لهم مجال
النكال بأبيه.
ألباني
:
غلوستر، سأحيا لأؤدي واجب الشكر لك على ما أظهرت من المحبة للملك، ولآخذ
الثأر لعينيك. ادن مني يا صاحبي، وخبرني بما لا يزال لديك (يخرجون).
المنظر الثالث
المعسكر الفرنسي بالقرب من دوفر
(يدخل كنت والأمين.)
كنت
:
ترى لماذا عاد ملك فرنسا إلى بلاده فجأة؟ أتعرف السبب؟
الأمين
:
السبب في ذلك أنه كان قد خلف وراءه من أمور الدولة أمرًا غير مستقر اشتغل به
باله منذ حضر، وإذ كان من الخطورة بمكان مَخوفٌ؛ فقد كانت عودته ضرورة
لازبة.
كنت
:
ومن القائد الذي استخلفه من بعده؟
الأمين
:
ماريشال فرنسا مسيو لافار٢ (Mons. La Far)
كنت
:
تُرى هل بَعثت رسائلُك في قلب الملكة شيئًا من الأسى؟
الأمين
:
أجل يا سيدي، لقد تناولتها وقرأتها في حضرتي، وكنت أرى قطرات الدموع تسَّاقط
على خدها الرقيق من آنٍ لآن، وكأنما كانت تغالب عاطفة الوجد حتى كبحت جماحها
وهي ثائرة بقوادها تود لو تستطيع أن تتغلب عليها.
كنت
:
إذن فقد أثارتها الرسائل.
الأمين
:
نعم، ولكنها لم تُزِلها عن وقارها، وكأنما تباري الصبر والحزن؛ أيهما أقدر
على تجليتها في أروع مظهر؟ أرأيت إشراق الشمس وانسجام المطر معًا؟ كذلك كان على
الفضل ابتسامها وبكاها، وكأنما كانت تلك البسمات الحلوة التي افترَّت عنها
شفتاها الناضجة تجهل في سكونها ما استقر من ماء الشجون في جفونها، فما لبثت أن
انفرطت من عينيها الدموع كما تنفرط حبات اللؤلؤ من جوهرتين مشرقتين، ولعمري لو
كان يتجلى كل ذي حزن فيما تجلت به من روعة الحسن؛ لكان الحزن بهجة للعين، وهوًى
لكل فؤاد.
كنت
:
ألم تنبس بشيء؟
الأمين
:
بلى تنهدت مرة أو اثنتين تنادي «والدي» وقد احتبس نفَسُها وتهدج كأنما كان
القلب يعاني عبئًا أناخ عليه، ثم صرخت منادية «أختاي! أختاي!» يا عار النساء،
أختاي! كنت! أبي! أختاي! ويلاه! في العاصفة، في ظلام الليل! لا، لا، ما أكذب
دعوى الرحمة! ثم رأيتها أسالت قطرات الماء المقدس من عينها السماوية، وأعولت،
ثم انصرفت تعالج وجْدًا في انفراد.
كنت
:
إنها هي الكواكب، الكواكب التي فوق رءوسنا تتصرف في أمورنا وتتحكم، وإلا فما
يتأتى لزوجين بعينهما أن يختلف نتاجهما كل هذا الاختلاف. ألم تكلمها بعد
ذلك؟
الأمين
:
كلا.
كنت
:
أكان ذلك قبل سفر ملك فرنسا إلى بلاده.
الأمين
:
بل بعد سفره.
كنت
:
إذن فاسمع يا سيدي، إن الملك لير المثقل القلب بالهم نازلٌ الآن بالمدينة،
ولقد يعاوده الصواب في بعض أحيانه فيذكر ما جئنا لأجله، ولكنه يأبى أن يلاقي
ابنته.
الأمين
:
لم هذا يا سيدي؟
كنت
:
تمنعه خجلة بالغة تصاحب نفسه؟ قسوة قلبه التي جردت كورديليا من مطارف بركته
وأسلمتها إلى مخاطر الغربة، بعد إذ حرمها حقَّها، وخلَعه على قلبي الذئب من
ابنتيه. هذه الأمور تلدغ فؤاده لدغ الأفاعي، وتثير في قلبه جوَى خزْيٍ يُقعِد
به عن رؤية كورديليا.
الأمين
:
أسفاه على الرجل!
كنت
:
ألم تسمع شيئًا عن جيوش ألباني وكورنوال؟
الأمين
:
يقولون إنهم على الأهبة.
كنت
:
سأسير بك الآن إلى الملك لير سيدنا، وأتركك هناك لترعاه، وسيضطرني بعض الحال
أن أظل على ما أنا فيه من التنكر هونًا ما، ولكن إذا حان الوقت لتعرفني على
حقيقتي فلن تأسى لتفضلك عليَّ بمعرفتك. تفضل يا سيدي واصحبني (يخرجان).
المنظر الرابع
نفس المعسكر، خيمة
(تدخل كورديليا بطبول ورايات ومعها طبيب وجنود.)
كورديليا
:
واأسفاه! إنه هو بعينه. رأوه منذ هنيهة هائجًا كالبحر الثائر يصيح بأعلى صوته
مغنيًا، وقد توَّج رأسه بأعشاب الأخاديد وأزاهيرها الشديدة العبق، وبكل شائكة
سامة من الحشائش والأزهار في حقول القمح الكريمة. لتذهب شرذمة في طلبه،
وليجوسوا خلال كل جانب في المرج الباسق الزروع ويأتوا به إلينا. (يخرج ضابط) ماذا في مقدور حكمة الإنسان عمله
لترد إليه الصواب؟ مَن يشفه ينلْ كل ما ملكت يدي.
الطبيب
:
هوني الأمر عليك يا مولاتي، إن هناك وسائل كثيرة؛ بيد أن أهمها وأفعلها وسيلة
الطبيعة، تلك هي النوم. هذا ما يعوزه، وهناك عقاقير كثيرة من نبات الأرض الهين
في مقدورها أن تغمض عيني الوَجْد منه.
كورديليا
:
آه! ليت كل ذي نفع وفضل من أعشاب الأرض الشافية ترويها دموعي، وتنبتها عاجلة
ليكون منها الشفاء لأبي، ابحثوا عنه، ابحثوا لئلا يهيم به الوجد في مدارج الردى
فيلقى حتفه وهو سائر في الأرض مفقود الدليل من الحجى.
(يدخل رسول.)
رسول
:
جئت بنبأ يا مولاتي؛ الجنود البريطانية قادمة نحو هذا المكان.
كورديليا
:
عرفنا ذلك من قبل، ونحن على استعداد لمقابلتهم. وا أبتاه! إني إنما أتيت هنا
من أجلك. رثى لي ملك فرنسا العظيم فأجاب داعي حزني ورجاء دموعي، ما أحفزني
الطمع، وإنما دعاني الحب، الحب النقي وحقك أيها الوالد المسن! عسى الآلهة أن
تجمعني به لأسمعه وأراه!
(يخرجون.)
المنظر الخامس
قصر غلوستر
(تدخل ريغان وأوزوالد.)
ريغان
:
ولكن هل شخصت جيوش أخي ألباني إلى القتال؟
أوزوالد
:
أجل يا مولاتي.
ريغان
:
وهو بنفسه مع الجنود.
أوزوالد
:
نعم، بيد أن ذلك على الكره منه، وأرى أخت سيدتي أرجل منه.
ريغان
:
ألم يلتق لورد إدموند بمولاك في القصر؟
أوزوالد
:
كلا يا سيدتي.
ريغان
:
ماذا في خطاب مولاتك إليه يا ترى؟
أوزوالد
:
لا أدري يا سيدتي.
ريغان
:
إنه رحل في أمر خطير. لقد كان من الخطأ أن يتركوا غلوستر حيًّا بعدما قلعت
عيناه، حيثما خطرت قدمه أثار غضب القلوب علينا، وربما كان إدموند قد ذهب ليريح
أباه من عناء حياة يقضيها في ليل مدلهم من العمى، وكذلك ليستكشف حال
العدو.
أوزوالد
:
لا بد من اللحاق به يا مولاتي لأوصل إليه الخطاب.
ريغان
:
سترحل جنودنا في صباح الغد؛ فتلوَّم معنا إن الطريق غير مأمون.
أوزوالد
:
لا أستطيع يا سيدتي؛ فقد أمرتني مولاتي أن أسير في هذه المهمة بما يجب لها من
المضاء.
ريغان
:
أي ضرورة اقتضت أن تكتب إلى إدموند؟ ألم يكن في وسعك أن تحمل إليه رسالتها
شفاهًا؟ ربما كان هناك شيء. لا أدري. أكون لك صديقة إلى الأبد إذا أنت سمحت لي
بفض هذه الرسالة.
أوزوالد
:
سيدتي خير لي …
ريغان
:
أنا أعلم أن مولاتك لا تحب زوجها. إني واثقة من ذلك، ولما كانت هنا آخر مرة
رأيتها تنظر إلى إدموند النبيل التقويم نظرات غريبة تنم عن الحب، وتنطق
بالهيام. إني أعلم أنك موطن سرها.
أوزوالد
:
أنا يا سيدتي؟
ريغان
:
أجل، إني أتكلم عن علم بالحقيقة، أنا واثقة من ذلك. استمع وتنبه، لقد مات
الآن زوجي، وأصبحت حرة، وإنه لأليق أن يكون إدموند زوجي من أن يكون عندما ترى
مولاتك. ولقد تكلمت أنا وإدموند في هذا الصدد، وقد يبلغك من هذا الأمر أكثر مما
عرفت؛ ولذلك أرجو منك إذا لقيته أن تعطيه هذه الشارة، وأرجو عندما تعرف منك
مولاتك ما عرفت الآن مني أن تنصح لها بالتزام الرُّشد. والآن صحبتك السلامة،
وإذا قُدِّر لك أن تسمع شيئًا عن ذلك الخائن الضرير؛ فأعلن في الناس أن من يحمل
إلينا خبر موته يلق منا كريم الجزاء.
أوزوالد
:
آمل أن ألقاه أنا نفسي لتعرفي في أي جانب أنا.
ريغان
:
صحبتك السلامة (يخرجان).
المنظر السادس
الريف بالقرب من مدينة دوفر
(يدخل غلوستر وإدغار لابسًا ثياب فلاح.)
غلوستر
:
أما آن أن نبلغ قمة تلك الصخرة.
إدغار
:
إنك الآن تصعدها. تأمل كيف أننا نلهث.
غلوستر
:
يخيل إليَّ أن الأرض هنا مستوية.
إدغار
:
بل هي منحدر رهيب. أنصت. ألا تسمع البحر؟
غلوستر
:
كلا وربي.
إدغار
:
كيف يكون هذا إلا أن يكون ما تعانيه من الألم في أجاج عينيك قد أفسد سائر
مشاعرك؟
غلوستر
:
قد يكون الأمر كذلك؛ فإني أجد صوتك قد تغير، وأجد لسانك في عبارته أسلم،
وحديثك في موضوعه أقوم.
إدغار
:
لشدَّ ما أنت مخدوع، لم يتغير سوى الثوب مني.
غلوستر
:
إنك أنصع تعبيرًا.
إدغار
:
هلم يا سيدي، هذا هو المكان. قف ساكنًا؛ لشدَّ ما يرهب النفس ويذهل الحس أن
تلقي العين ببصرها إلى هذه الهاوية السحيقة التي لا تكاد تبدو الغربان فيها
والزيغان، وهي تسبح في لجة الهواء، إلا كما تبدو الجعلان. وأرى في منتصف المهوى
فيما بيننا وبين الماء إنسانًا مُعلَّقًا ممن يجمعون العشب، ويا هول هذا
المرتزق! وكأني به على البعد في جرمه لا يكبر حجم رأسه، وكأني بصيادي السمك
الذين يرتادون الشواطئ في صغر ما تبدو أجسامهم جرذانًا، وكأني بتلك الخلية من
السفائن الراسية قد تضاءلت حتى بدت في حجم القارب المستخف، وكأنما القارب طوف
استدق حتى لم تعد تدرك له العين أثرًا، وما تكاد تسمع من هذا المكان الشاهق
همسًا يعبر عن تلك الأمواج العجاجة المتدفقة على ركام تلك الحصباء المستنيمة.
سأقلع عن النظر؛ لئلا يعوج صوابي، ويُغمَّ عليَّ فأتردى في الهاوية
انكبابًا.
غلوستر
:
ضعني حيث تقف.
إدغار
:
أعطني يدك. أنت على قيد قدم من غرار الصخرة. لو أُعطيتُ ما يطلع عليه القمر
على أن أقفز في مكاني قائمًا ما فعلت.
غلوستر
:
خل يدي من يدك. إليك يا صاحبي كيسًا آخر (يعطي
كيسًا) خذ. إن فيه جوهرة ثمينة تُغري الفقير بأخذها، وعسى الأرواح
والآلهة أن تُشفعها لك بالسعادة. تنحَّ الآن عني. قل الوداع ودعني أسمع وقع
أقدامك مُنْصرفًا.
إدغار
:
الوداع يا سيدي الكريم (يتظاهر
بالذهاب).
غلوستر
:
شكرًا لك من صميم القلب.
إدغار
:
لعمري ما عبثت بما هو فيه من اليأس إلا لأشفيه منه.
غلوستر
(راكعًا)
:
يا أيتها الآلهة القادرة! ها أنا ذا أخلع الدنيا وأفارق الحياة. تحت بصرك
ألقي بيد الصبر ما تحملت من عظيم البلوى، ولو أني استطعت أن أحملها بعد يومي
هذا، بغير كفر بك، ولا اعتراض لقضائك الذي لا مرد له؛ لاحترقت ذبالة حياتي
المهينة من تلقاء نفسها، وإذا كان إدغار على قيد الحياة فباركي عليه أيتها
الآلهة، والآن ودائمًا أيها الرفيق (يسجد إلى
الأمام).
إدغار
:
وداعًا يا سيدي، لقد ذهبت. (لنفسه) أشفق
أن يبلغ الوهم بصاحبه مبلغًا يسترق منه كنز الحياة، ولا سيما إذا استهدفت
الحياة بملكها للمسترق. ولعمري لو أنه كان قائمًا حيث يزعم أني وضعته، لما بقي
حتى الآن من رشده ذماء. تراه حي أم ميت؟ هيا أنت أيها السيد! يا صاحبي، أسامع
أنت كلامي؟ يا سيدي، تكلم. قد يلوح الميت كذلك، ولكني أرى وعيه يرتد إليه. من
أنت يا سيدي؟
غلوستر
:
إليك عني ودعني أموت بسلام.
إدغار
:
يا عجبًا! لو أن جسمك مصوغ من تبن أو ريش أو من هواء حين هويت على الأرض من
هذا العلو الشاهق لتهشمت كما تتهشم البيضة؛ بيد أني أراك تتنفس، وأرى جسمك من
مادة ثقيلة، ثم أراك لا تدمى، وأجد أنك تتكلم، وأن كل ما فيك سليم، وأنت لو
أقمت عشر أسوار بعضها فوق بعض لم تبلغ طول الهاوية التي سقطت فيها. حياتك بعد
هذا إحدى العجائب. دعني أسمع صوتك مرة أخرى.
غلوستر
:
ولكن خبِّرني أسقطت أنا فعلًا أم لم أسقط؟
إدغار
:
أجل، هويت عن تلك القمة الرهيبة المطلة من تلك الصخرة. انظر بعينك في العلا،
نحن لا نكاد نرى ذلك العصفور، ولا نسمع زقزقته الحادة. ارفع عينك وانظر.
غلوستر
:
وا أسفاه! ليس لي عين فأبصر بها. أيحرم نضو الشقاء كل شيء حتى حق القضاء على
نفسه بالموت! لقد كان لي عزاء في أن تسخر شقوتي من حنق الظالم، وتفسد عليه ما
انتوت كبرياؤه.
إدغار
:
أعطني ذراعك. ارفعها. حسن. كيف حالك؟ وساقاك كيف حالهما؟ أرني كيف
تنهض؟
غلوستر
:
خيرًا مما أردت.
إدغار
:
هذا أعجب من كل عجب! ما هذا المخلوق الذي كان معك على ناصية تلك الصخرة
وانصرف.
غلوستر
:
شحاث مسكين شقيٌّ بدنياه.
إدغار
:
لقد كنت أراه وأنا واقف بأدنى الهاوية كأنما عيناه لكبرهما قمران مكتملان.
يبدو من وجهه ألف أنف، ومن رأسه عدة من قرون ملتوية تغشاها كبب ناتئة. والقرون
تتراوح مثل موج البحر الثائر. لعمري لهو أحد الشياطين، فاذكر إذن، أيها الوالد
السعيد، أنما أنقذتك الآلهة المطهرة التي تجعل من لطفها بالبشر في ساعة الشدة
دليلًا على قدسها ومجدها.
غلوستر
:
لا بد أن يكون الأمر كذلك؛ فلقد كان ذلك المخلوق الذي جاء بي إلى هذا المكان
— وكنت أظنه من بني البشر — يصيح من آنٍ لآنٍ العفريت! العفريت! سأحتمل بلواي
منذ اليوم صابرًا حتى تصيح بملكها كفى كفى، ثم تموت.
إدغار
:
سَرِّ عنك همَّك، واشرَحْ بالأمل المشرق صدرك. مَن القادم يا ترى؟
(يدخل لير وهو لابس ثوبًا مُنمَّقًا بالأزهار البرية على
صورة عجيبة.)
حقًّا لن يرضى العقل الرصين أن يبدو صاحبه في مثل هذا المظهر.
لير
:
لا يملك أحد أن يقبض عليَّ لتزييفي النقود؛ لأنني أنا الملك.
إدغار
:
ما أوجع هذا المنظر لقلبي!
لير
:
الطبيعة في هذا فوق الفن. خذ هذا عربونك. هذا الرجل يمسك بالقوس كأنه ناطور
الغيط. أعطني سهمًا ذرعه ذراع الثوب. انظر، انظر. جُرذ. صه. صه. حسبي قطعة من
الجبن المحمر. ها أنا ذا أُلقي قفاز الخصام، وأثبت صدق وعيدي حتى في مقاتلة
المردة. ليتقدم حملة الفئوس. آه، أحسنت الفرار أيها الطير. في الهدف. في القلب.
هلمَّ — ها — أعطي كلمة الشعار.
إدغار
:
زهرة المردقوش.
لير
:
مرٌّ.
غلوستر
:
إني أعرف هذا الصوت.
لير
:
ها، غونوريل بلحية بيضاء! لقد ملقوني تمليق الكلب، وقالوا كانت لي في ذقني
شعرات الحكمة البيضاء قبل أن تنبت فيها شعرات الشباب السوداء. كانوا كلما قلت
شيئًا جاروني فيه بقولهم نعم وكلا، ولم يكن قول نعم ولا كلا عن صدق ولا ولاء،
فلما غمرني المطر، وصكَّ أسناني الزمهرير، ولم تهدأ ثائرة الرعد لأمري تبينت
وجه النفاق منهم، وعرفت سوء الطوية من أمرهم، وعلمت أنهم خونة مخادعون، قالوا:
إني صاحب الأمر في كل شيء، لشدَّ ما كذبوا! هي الحمى أقوى يدًا مني.
غلوستر
:
إني أعرف نبرة هذا الصوت. أليس هذا هو الملك؟
لير
:
أجل، الملك، من فرعه إلى قدمه. إذا رميت عيني فانظر كيف تضطرب لها الرعية.
عفوت عنك يا رجل. عش، لك الحياة. ما جريمتك؟ أعطني أوقية من الزَّباد، أيها
الصيدلي، لتنبِّه ذهني. إليك هذه النقود.
غلوستر
:
دعني أُقبِّل يدك.
لير
:
دعني أمسحها أولًا؛ إن بها رائحة الموت.
غلوستر
:
أسفًا على بدعة الخلق، وتحفة الفطرة. كيف تحطمت؟!
لعمري لن يكون تحطيم هذا الكون العظيم إلا هكذا. آه! ألست تعرفني؟
لير
:
إني لأذكر عينيك حق الذكر. لا، لا مغازلة، لا لن أحب أحدًا، حقًّا إن إله
الحب أعمى، ولكني لن أحب وليفعل بي الإله ما يشاء. اقرئي٣ هذا الإنذار، وتأملي خطه جيدًا.
غلوستر
:
لا أستطيع قراءة حرف منه ولو كان واضحًا كالشمس.
إدغار
(لنفسه)
:
لو روي لي هذا المشهد ما صدقت راويه؛ بيد أنه حقيقة ماثلة يتفتت القلب
لرؤيتها.
لير
:
اقرأ.
غلوستر
:
كيف أقرأ؟! أقرأ بظرف فارغ.
الملك
:
أو! هو! أهذا ما تعني؛ لا عيون لك في رأسك؟ ولا نقود في جيبك؟ عينك وجيبك في
ظرف مؤلم؛ بيد أن أحدهما ظرف ثقيل والآخر خفيف، ومع ذلك فإن في استطاعتك أن ترى
كيف تسير هذه الدنيا.
غلوستر
:
أراها تحسسًا.
لير
:
ماذا! أأنت مجنون؟! إن في استطاعة الإنسان أن يرى كيف تسير هذه الدنيا بغير
عيون. انظر بأذنيك؟ انظر ذلك القاضي كيف يؤنب ذلك اللص المسكين. أنصت! أريد أن
أُسرَّ إليك شيئًا بدل مكانهما، والعب بهما لعبة «الجديد»، وقل أيهما القاضي
وأيهما اللص؟ هل رأيت كلبًا من كلاب المزارع ينبح سائلًا؟
غلوستر
:
أجل يا مولاي.
لير
:
ورأيت كيف يفر الإنسان من الحيوان؟ ألا إن لك في ذلك صورة بالغة تمثل لك
السلطة على حقيقتها. هي كلب له الطاعة ما دام مُملَّكًا. إنهم يقتلون السارق
على أنك قد تجد من أصدر الحكم عليه مرابيًا؛ إلا أن الثوب الخلق ليكشف أهون
الهنات. أما الرداء والطيلسان ذو الفراء فيستران كل شيء، كفِّت الخطية بصفائح
الذهب تتكسر دونها نِصال رمح العدالة، ودرِّعها بأسمال بالية تمزقها وتخترقها
أصغر عصافة. ليس في الوجود مجرم. أقول لك ليس فيه، سأطلق سراحهم جميعًا، خذ عني
ذلك أيها الصديق، عني أنا الذي أملك أن أرتق فم الذي يقيم الدعوى وأخرسه، هيئ
لمحجريك زجاجتين، وتظاهر كما يتظاهر السياسي الحقير أنك تبصر ما لا ترى. والآن،
والآن اخلع حذائي. شد، شد. هكذا.
إدغار
(لنفسه)
:
الرشد والخبل في قراب. كم ذا في الجنون من صواب!
لير
:
إذا شئت أن تبكي سوء حظي فخذ عيني. إني أعرفك حق المعرفة؛ اسمك غلوستر، عليك
بالصبر، واذكر أننا لم ندخل هذه الدنيا إلا والدموع تسبقنا، فما نجهل أننا حين
شممنا ريحها لأول مرة بكينا وأعولنا. سأزكيك بعظة أنصت.
غلوستر
:
ما أسوأ اليوم!
لير
:
إنما يبكي الإنسان منا ساعة يولد حزنًا على نفسه؛ إذ ينزج في مرزح الدنيا
الفسيح الذي يمثل فيه المجانين. هذه قبعة٤ جيدة — حقًّا — لقد كانت فكرة رشيدة نعلهم كوكبة من الخيل باللباد،
سأفعل ذلك لأسترق الطريق إلى صهري، ثم أقتلهما، أقتلهما. اقتل، اقتل،
اقتل.
(يدخل الأمين ومعه أتباع.)
الأمين
:
ها هو ذا. لا يفلت منكم. سيدي، بنتك التي تحبها كل الحب …
لير
:
وي! ألا يأتي لنجدتي أحد؟! أسير أنا؟ أمخلوق أنا لأكون هزأة للقدر؟ أحسنوا
معاملتي، سأعطيكم فدية، ايتوني بجراحين فإني مشجوج الفؤاد.
الأمين
:
سيكون لك كل ما تريد.
لير
:
ألا يكون لي نصير؟ وي! أغشى الملحمة وحدي؟ حسب الإنسان هذا الحال ليذوب ذوب
الملح، ويرسل عينه شآبيب تروي أُصص الحدائق، وترقد عثير الخريف.
الأمين
:
سيدي الجليل.
لير
:
سأموت كريمًا كما يموت العروس اليافع المتأنق. ماذا! سأبش وأطرب. هلم، هلم،
إني ملك. أتعرفون ذلك يا سادتي؟
الأمين
:
إنك ملك عظيم، لك الأمر وعلينا الطاعة.
لير
:
إذن فلم يذهب الأمل في الحياة؟ وإذا شئتم أن تأخذوها فاجْروا في سبيلها هكذا،
هكذا، هكذا.
(يخرج جاريًا والأتباع وراءه.)
الأمين
:
مشهد توجع القلب رؤيته من أحقر الحقراء، فكيف به والمشهود ملك؟! إن لك ابنة،
أيها الملك، ستُداوي كُلوم نفسك مما سلبتك إياه فعلة ابنتيك الأخريين.
إدغار
:
سلام أيها السيد الكريم.
الأمين
:
سيدي، بوركت، لبيك.
إدغار
:
أسمعت نبأ قتال يوشك أن يقع؟
الأمين
:
أصدَقُ الأنباءِ هذا وأشيَعُها؛ سمع به كل ذي أذنين.
إدغار
:
معذرة يا سيدي، هل تسمح فتخبرني هل الجيش الآخر قريب؟
الأمين
:
إنه قريب جدًّا، وهو يغذُّ في المسير. بل إن العين لتترقب رؤية قيروانه في كل
لحظة.
إدغار
:
بحسبي هذا يا سيدي، لك الشكر.
الأمين
:
نعم، إن الملكة تخلفت في هذه الناحية لأمر خاص، ولكن الجيش قد رحل في
سبيله.
إدغار
:
شكرًا لك يا سيدي.
(يخرج الأمين.)
غلوستر
:
أيتها الآلهة الرحيمة، بيدك موتي، فأميتيني يوم تشائين، واجنبيني أن تطغى
عليَّ نفسي الأمارة فاقضي على حياتي قبل يومي الذي تقدرين.
إدغار
:
أحسنت الدعاء يا أبي.
غلوستر
:
وي! من أنت أيها السيد الصالح؟
إدغار
:
إنسان ملأت قلبه الهموم والأحزان رحمة ورثاء. أنلني يدك؛ سأسير بك إلى مكان
أمين.
غلوستر
:
الشكر لك من كل قلبي، ولتجزل لك السماء بركتها ونعمتها.
(يدخل أوزوالد.)
أوزوالد
:
مرحى! هذه هي الطريدة المنشودة ذات المكافأة المقررة. ما أسعد الحظ! رأسك
الخالي من نواظره أول رأس يحمل الحظ إليَّ أيها العجوز الخائن الشقي. اذكر
ذنوبك واستغفر، لقد جُرِّد السيف الذي قُضِي لك أن تموت به.
غلوستر
(إلى إدغار)
:
أرني قوة عضدك أيها الصديق.
(يتدخل إدغار.)
أوزوالد
:
ويك أيها الفلاح الجريء! أتجرؤ أن تحمي خائنًا مهدر الدم. إليك وإلَّا أعداك
سوء قدره. خلِّ ذراعه.
(يقلد إدغار لهجة الفلاحين.)
إدغار
:
أنا لا أدع ذراعه يا سيدي بغير سبب وجيه.
أوزوالد
:
تخلَّ عنه يا كلب وإلا قتلتُك.
إدغار
:
أيها السيد الطيب، سِرْ في طريقك، ودع الناس تسير؛ لو كانت كلمات الوعيد
تذعرني لكنت في الأموات منذ أسبوعين. إليك، إليك. إياك أن تمس هذا الشيخ وإلا
أريتك أي الهنتين أقوى، رأسك أم هراوتي.
أوزوالد
:
تنحَّ يا كومة الروث.
إدغار
:
هلم؛ سأترِّم أسنانك يا صاحبي، ولا يهمني منك لعبك بالسيف (يتقاتلان ويضربه فيقع أوزوالد).
أوزوالد
:
قتلتني أيها العبد! خذ كيسي أيها الوغد، وإذا عشت فادفنْ جثتي به، وأعطِ
الرسائل التي ستجدها معي إلى إدموند، إيرل غلوستر. ابحث عنه في الجيش
البريطاني. آه! مِتُّ قبل الأوان، مت (يموت).
إدغار
:
إني أعرفك حق المعرفة، أنت وغدٌ مشَّاء يُساير شرور مولاته إلى أبعد مدًى في الرذيلة.٥
غلوستر
:
ماذا؟ أقضَى نحبَه؟
إدغار
:
اجلس أنت يا أبي، استرح. سأفتش جيوبه. قد تكون الرسائل التي ذكرها ذات فائدة
لي. نعم قضى نحبه، وما يسوءني من أمره إلا أنني أنا جلاده. والآن فلنرَ ماذا في
هذه الرسالة. بإذنك أيها الشمع الجميل، وأنتِ يا كرائم الشيم لا تلومي؛ حلال
لنا أن نشق قلب العدو لنستعرف دخيلة أمره، فأحرِ أن يكون فضُّ رسائله أحلَّ.
(يقرأ): «تذكر ما عقدنا عليه إيماننا.
إن لديك فرصًا عديدة لقتله، وإذا لم تكن تعوزك العزيمة لم يعوزك الآن زمان ذلك
ولا مكانه. أما إذا هو عاد منصورًا فقد ضاع علينا كل شيء، وعشتُ أنا لديه
أسيرة؛ فِراشُه سجني! فخلصني من دفئه الممقوت، وخذ مكانه جزاء عملك. خادمتك
المحبة — وبودي لو أقول زوجتك الشيقة — غونوريل».
يا إرادة المرأة! ما أخفى حدود مداك! أتأتمر بحياة زوجها النبيل، وتعتاض عنه
بأخي؟ سأغيبك هنا في الرمل مثوى البُرد الأنجاس من رُسل القتلة الفسقة، وإذا آن
الأوان فسأظهر الدوق الذي يأتمران به على وثيقة الشر هذي. الخير في أن يعلم
الدوق بموتك، وبالمهمة التي كُلِّفْتها.
غلوستر
:
لقد جُنَّ الملك، فما أجمد حسي وما أقبحه! أقف مستشعرًا مدركًا عظيم الهم في
قلبي ولا أتضعضع! يا ليتني كنت مخبولًا حتى تنقطع الصلة في فؤادي بين الفكر
والهم، وتفقد الأحزان في شطط الذهن علمًا بنفسها!
(يسمع صوت طبول من بعيد.)
إدغار
:
أعطني يدك؛ يخيل إلي أني أسمع صوت طبل بعيد. تعال يا أبي، سأنزلك عند أحد
أصدقائي.
المنظر السابع
خيمة في المعسكر الفرنسي
(يرى لير في فراش نائمًا، وهناك ألحان موسيقى لطيفة، وقام في الخدمة
الأمين وغيره من الأتباع، تدخل كورديليا وكنت والطبيب …)
كورديليا
:
ألا يا كنت الخيِّر البار، خبرني كيف أحيا وأعمل لأُثيبك على فضلك؟ حياتي ما
طالت قصيرة، وجهدي ما بلغ دون كل وفاء.
كنت
:
لي من عرفانك يا سيدتي جزاء يتجاوز كل وفاء. لقد وقع ما تنبأت به على غرار
الحق الصراح، لا إفراط ولا تفريط، بل شرعًا.
كورديليا
:
عليك بثوب أليق من هذا. ما هذه الألياف إلا بقايا ساعات مشئومة، فأتوسل إليك
أن تخلعها.
كنت
:
معذرة يا سيدتي العزيزة، إن ظهور أمري اليوم يقطع عليَّ سبيل المراد. أمنيتي
ألَّا تبدو معرفتك بي حتى يحين الوقت الذي أراه أليق بذلك.
كورديليا
:
ليكن الأمر كما تريد أيها السيد الطبيب. (إلى
الطبيب) كيف حال الملك الآن؟
الطبيب
:
إنه لا يزال نائمًا يا مولاتي.
كورديليا
:
أيتها الآلهة الرحيمة، ارتقي ذلك الصدع الواسع الذي وقع بجسمانه المخضد،
وأعيدي إلى أوتار المشاعر الشاذة المختلة رتوبها وانتظامها، وابعثي في الأحياء
ذلك الوالد الذي وأده عقوق الأبناء.
الطبيب
:
إذا شئت يا صاحبة الجلالة أذنت لنا أن نوقظ الملك؛ لقد طال نومه.
كورديليا
:
استهدِ بعلمك في هذا، وسِرْ في عنانٍ من رأيك. أهو مرتدٍ ثيابه؟
الأمين
:
أجل يا مولاتي كان مستغرقًا في نومه؛ فتمكَّنَّا أن نُلبسه ثيابًا
جديدة.
الطبيب
:
كوني إلى جانبه يا سيدتي حين نوقظه. لا ريب عندي أن جأشه سكن.
كورديليا
:
حسن.
الطبيب
:
وتفضل أنت بالدنو هنا. والآن فلتعزف الموسيقى عاليًا.
كورديليا
:
والدي العزيز، عسى آلهة الشفاء أن تجعل دواءك على شفتي، وتنزل على هذه القبلة
برءًا لك مما أوقعت أختاي بجلال ذاتك من بالغ الأذى.
كنت
:
سيدتي العزيزة النبيلة.
كورديليا
:
لو أنك لم تكن أباهما ما قصرت هذه الندف البيضاء أن توقظ رحمتهما. أهذا وجه
يقدر أن يقاوم الروح العاتية، ويناهض الرعود المزلزلة، ويقف بصاحبه مستهدفًا
لأنكى ضربات البروق الخاطفة المتوشجة، وما يقيه إلا تلك الشعرات الرقيقة؟ وا
رحمتاه للأب المضيع! لو رأيت كلبَ عدوِّي لآويته في تلك الليلة بجوار ناري ولو
كان قد عضَّني! وهل آثرت أيها الوالد المسكين أن تأوي إلى حظائر الخنانيص،
وتنزل خصائص الصعاليك راضيًا بالقش والوضر! بل إني لأعجب كيف لم يذهب الضر
بحياتك وحجاك معًا! إنه تيقظ، كلِّمْه.
الطبيب
:
كلميه أنت يا مولاتي؛ هذا أجدى.
كورديليا
:
كيف حال مولاي الملك؟ بما تشعر يا صاحب الجلالة؟
لير
:
إنكم لتسيئون إليَّ إذ تخرجوني من القبر. إنك روح مباركة، أما أنا فمربوط في
الجحيم على عجلة من نار تسَّاقط عليها دموعي كأنما هي رصاص مصهور.
كورديليا
:
مولاي، أتعرفني؟
لير
:
أنت على اليقين روح، خبريني متى كانت وفاتك؟
كورديليا
:
لا يزال، لا يزال على مدًى من الرشاد!
الطبيب
:
لم يفق بعد؛ دعوه وشأنه قليلًا.
لير
:
أين كنت؟ أين أنا؟ أهذا وضح النهار البهيج؟ لشدَّ ما أنا مخدوع! بل لكنت أذوب
رثاء لو رأيت امرءًا على مثل هذا الحال. لا أدري ماذا أقول، لا أقسم أن هذي
يدي. فلأختبر، إني أشعر بوخز هذا الدبوس. من لي بأن أتبين حالتي
باليقين؟
كورديليا
:
سيدي، انظر إليَّ، وارفع يديك وبارك عليَّ. لا يا سيدي لا، ليس لك أن
تجثو.
لير
:
أتوسل إليك ألَّا تسخري بي؛ إني شيخ شديد الحمق والأفن، في الثمانين فما
فوقها، لا تنقص ساعة ولا تزيد، وأشفق، في الحق، أنني غير سليم العقل؛ بيد أني
أظن أنني أعرفك، وأعرف هذا الرجل (كنت)، ولكني في ريب من الأمر؛ لأنني لا أعرف
مكاني الآن بتاتًا، ولا تعي الذاكرة شيئًا من هذه الثياب، ولا أدري أين قضيت
ليلة الأمس. سألتكم لا تضحكوا مني إذا قلت أني أعتقد أن هذه السيدة هي ابنتي
كورديليا! كما أعتقد أني إنسان من لحم ودم.
كورديليا
:
أجل، أنا ابنتك، أنا هي.
لير
:
أدموعك مسبلة حقيقة؟ أجل وربي. سألتك لا تبكي، وإذا شئت لي الموت بالسم
فآتيني به سأشربه طائعًا. لقد أساء إليَّ أختاك، فيما أذكر، بغير سبب. أما أنت
فلا تثريب عليك؛ أنت ذات سبب واضح.
كورديليا
:
معاذ الله أن يكون لي سبب.
لير
:
أأنا في فرنسا؟
كنت
:
بل في مملكتك ذاتها يا سيدي.
لير
:
لا تخدعني!
الطبيب
:
سكِّني روعك يا سيدتي البارة، ها أنت ذي ترين سَورة الخَبل قد رقدت في نفسه،
ولكن من الخطر عليه أن نستثير فيه شيئًا، حتى ولا ذكريات ما مضى من زمنه. اطلبي
إليه أن يدخل، ولا تُقْلِقي له بالًا حتى يُصبح أهدأ وأملك.
كورديليا
:
هل يطيب لعظمتك أن تتمشى؟
لير
:
جدير بكم أن تُحسنوا إليَّ، فأتوسل إليكم الآن أن تنسوا وتعفوا؛ إني عجوز
ومخبول.
(يخرج الجميع ما عدا كنت والأمين.)
الأمين
:
أحق يا سيدي أن دوق كورنوال قتل كما قيل؟
كنت
:
كل الحق يا سيدي.
الأمين
:
ومن قائد قومه؟
كنت
:
يقولون إنه ابن غلوستر غير الشرعي.
الأمين
:
يقولون إن ابنه إدغار المنفي هو الآن مع إيرل كنت في جرمانيا.
كنت
:
إن الروايات متباينة. آن وقت التنبُّه. إن جيوش المملكة قادمة على
عجل.
الأمين
:
ستكون الملحمة فيما أرى دموية. لك الصون يا سيدي.
كنت
:
أجل، وسيقضى بها كذلك في مقاصدي ودواعيَّ تبعًا لنتائج هذه الملحمة، إن خيرًا
فخير، أو شرًّا فشر.
(يخرج.)