في روايات كثيرة من روايات الخيال العلمي، تكون الكواكب الأخرى مسرحًا
لكثير من الأحداث، فكثيرٌ من كتَّاب الخيال العلمي يرون في تصوراتهم المستقبلية أنَّ
الأرض
لا بد وأن تُغادَر جزئيًّا أو كليًّا لصالح كوكب آخر، وربما كانت رواية «موعد مع راما» Rendezvous with Rama للإنجليزي آرثر كلارك من أشهر
الأمثلة على الانتشار البشري في المجموعة الشمسية، لقد أصبحت المجموعة الشمسية في الرواية
مرتعًا بشريًّا، وعالَمًا واحدًا يجتمع قادتُه لتحديد القرارات الخطيرة في منظمات
تجمُّعهم.
لكن مهلًا، كيف تستقيم تلك التصورات ونحن نعرف أن بيئات الكواكب الأخرى تُعادي الحياة
معاداة فجَّة؟ وأرضنا تُعَد في غالب الأحوال هي مستقرَّ الحياة الوحيدَ في المجموعة
الشمسية، وهي كذلك البيئة الوحيدة المناسبة للحياة البشرية؟
ولكن من وجهة نظر أخرى؛ إذا كانت الأرض كذلك، ما الذي يمكن أن يحدث لو حدثَت كارثةٌ
قضَت
على الأرض؟ هل سيضيع الإرث البشري بمئات الآلاف من السنوات من التاريخ والتطور في لحظة؟!
عالم من دون بشر، عالم من دون فضول، سوادٌ قاتم وسكونٌ ممتد، كون بلا وعي يَسبُر غَوره!
يبدو شيئًا غريبًا، أليس كذلك؟
الخيال العلمي مجددًا
حاول بعض المهندسين إعادة تهيئة جوِّ كويكب صغير؛ ليكون آهلًا بالسكان في قصة
«مدار التصادم»
Collision orbit، لكاتب أمريكي
اسمه «جاك ويليامسون»
Jack Williamson (١٩٠٨–٢٠٠٦م)،
وفي تلك القصة استُخدم لأوَّل مرة مصطلح
terraforming
أو «تكوين أرض»: وهي عملية تحويل بيئة معادية إلى بيئة مناسبة للحياة البشرية،
١ وبالرغم من أنَّ المصطلح ذُكر لأوَّل مرة في تلك القصة، إلا أنَّه استُخدم
في عدد سابق من قصص الخيال العلمي ضمنيًّا؛ منها رواية «ﻫ. ج. ويلز» الشهيرة
«حرب العوالم»
War of the worlds، والتي حاول فيها
المرِّيخيون تهيئة جو الأرض ليكون مناسبًا لهم، إلا أنَّ ما حدث لهم لم يكن في حسبانهم
إطلاقًا.
المريخ كالعادة
على امتداد التاريخ، كان المريخ يُعَد دومًا محطَّ أنظار البشر الناظرين إلى السماء،
والمتطلعين إلى جيران عاقلين يُبدِّدون وَحدة الأرض القاسية في الكون، لم لا؟ فهو —
بلونه الأحمر — جارنا الأقرب (بعد القمر) في السماء.
وأخيرًا، بدأ العلم يتخذ موقفه من المريخ بمحاولات — بحثية نظرية بطبيعة الحال — حول
ما إذا كانت بيئة المريخ تصلح لأن يتم تحويلها بطريقة ما إلى بيئة صالحة للحياة
البشرية.
يبلغ الضغط الجوي على المريخ حوالي ٠٫٦ كيلو باسكال، في حين يبلغ الضغط الجوي على
الأرض ١٠١٫٣ كيلوباسكال! كذلك هناك اختلاف كبير جدًّا بين نِسَب العناصر المكوِّنة
للغلاف الجوي الأرضي والمريخي؛ فالأكسجين في غلاف حبيبتنا الأرض تبلغ نسبته ٢٠٫٩٤٪ في
مقابل ٠٫١٤٥٪ في غلاف المريخ الجوي، ثم نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون التي تُمثل ٩٦٪ من
جو المريخ مقابل ٠٫٠٤٪ من غلاف الأرض، والجاذبية على سطحه تُقارب ٣٨٪ من الجاذبية
الأرضية. وبتلك الأرقام وغيرها يتضح حجم التحدي والوقت الذي سيستغرقه التحويل، لو تمَّ
فعلًا، كذلك فإن الإشعاعات الكونية والأشعة فوق البنفسجية ترتع على سطحه بلا مانع كما
هو الحال في الأرض.
وبسبب ذلك الغلاف الجوي الضعيف (الناتج بدوره عن الجاذبية الضعيفة) فإن كوكب المريخ
لا يستطيع الحفاظ على حرارة الشمس التي تسقط عليه، أضف لذلك أنَّه أبعدُ عن الشمس من
الأرض، تحصل على كوكب تصل الحرارة على سطحه في المتوسط إلى (−٦٠ درجة سيليزية)، تختلف
من فصل لفصل (فهو يملك أربعة فصول مثل الأرض بسبب ميل محوره) ومن مكان إلى مكان، فقد
تبلغ عند أقطابه في الشتاء إلى (−١٨٠ درجة سيليزية).
٣
فرفع درجة الحرارة على الكوكب يُعَد البدايةَ الأمثل في طريق ترويضه، ولكن كيف سيحدث
ذلك؟
هناك عدة طرق مقترَحة لذلك؛ منها إرسال كميات ضخمة من الكلوروفلوروكربونات إلى
المريخ. وهي غازات — كما نعلم — ساهمت في ظاهرة الاحتباس الحراري على الأرض، ورفع درجة
حرارتها، وبالتالي يُقترَح استخدامها لرفع درجة حرارة سطح المريخ كذلك، ولكن تلك
العملية ستكون مكلفة وصعبة جدًّا، خصوصًا مع الاحتياج لكميات مهولة لا بد أن تُنقَل إلى
المريخ، كذلك فإن ذلك يستلزم شحنات يومية لمدة قرن تقريبًا.
٤
لذلك يمكن استخدام بكتيريا معدَّلة وراثيًّا تقوم بتحويل نيتروجين غلاف المريخ إلى
أمونيا، وهي أيضًا من غازات الاحتباس الحراري التي ستقوم برفع درجة حرارة
الكوكب.
وباستخدام إحدى هاتَين الطريقتَين يمكن الحصول على غلاف جوي دافئ يسمح بوجود مياه
سائلة على سطح المريخ، وهي مياه كانت موجودة أساسًا على سطحه قديمًا، حيث تميل معظم
النظريات حول تاريخ المريخ إلى أن الضغط والحرارة على المريخ كانا في فترة ما مناسبَين
لوجود مياهٍ سائلة، أما المياه نفسها فتتواجد على قُطبَي المريخ مجمدة ومختلطة بثاني
أكسيد الكربون المتجمد، ولو رفعنا درجة حرارة الكوكب بطريقة تُذيب هذا الجليد، ستُقدَّر
كمية المياه — نظريًّا — بمحيط هائل يملأ سطح المريخ بعمق أحد عشر مترًا.
٥
يلي ذلك زراعة نباتات مهندَسة وراثيًّا تستطيع أن تُطلق كميات من الأكسجين إلى غلاف
المريخ الجوي، وحينها سيقترب المريخ من أن يكون مأوى البشرية الثاني.
والزهرة أيضًا
في رواية الخيال العلمي «أول الرجال
وآخرهم» Last and First Men، للبريطاني أولاف ستابلدون William Olaf
Stapledon (١٨٨٦–١٩٥٠م) في عام ١٩٣٠م، والتي يُحاول فيها استقصاء
مستقبل البشرية خلال بليونَيْ عام قادمة، كانت النباتات المعدَّلة بيولوجيًّا هي وسيلةَ
الأرضيِّين في تعديل جوِّ كوكب الزهرة، وذلك بضخِّ الأكسجين على كوكب الزهرة.
بعكس المريخ؛ الغلاف الجوِّي لكوكب الزهرة كثيف جدًّا، فيبلغ ضغطه الجوي حوالي ٩٢
مرةً قدر الضغط الجوي الأرضي، ودرجات الحرارة هي الأخرى مرتفعة ارتفاعًا مُريعًا؛ فهو
أقرب للشمس من الأرض، ويبلغ متوسطها ما يُقارب ٤٥٦ درجة سيليزية.
ويتشابه هنا الزهرة مع المريخ في كون أغلب تركيب الغلاف الجوي للكوكبَين يتكون من
غاز
ثاني أكسيد الكربون، إلَّا أنَّ غلاف الزهرة أكبر كثافة كما ذكرنا.
لحل مشكلة كثافة الغلاف الجوي، يقترح العلماء قصف كوكب الزهرة بمذنَّبات تقوم بتخفيف
حِدَّة الضغط، ويتبين أن قصف الزهرة بنيزك ضخم قُطره ٧٠٠ كيلومتر، سيجعل واحدًا على ألف
من الغلاف الجوي للزهرة يتلاشى في الفضاء، لذلك يتطلب جعلُ ضغط الغلاف الجوي للزهرة
مماثلًا للأرض عدةَ آلاف من تلك النيازك الكبيرة.
٦
ويُقترَح أيضًا لتقليل كثافة غلافه الجوي إدخالُ كميات كبيرة من الهيدروجين إلى
الغلاف، والذي بدوره سيتفاعل مع ثاني أكسيد الكاربون منتجًا ماءً وكربونًا
(جرافيت).
أمَّا درجات الحرارة على الزهرة فيمكن تخفيضها عن طريق تدمير كويكب سيَّار في الغلاف
بجوار الزهرة مما ينثر غباره في غلاف الزهرة، ما سيمنع أشعة الشمس من الوصول لسطحه
بدرجة معينة تسمح بوصول درجة حرارة الزهرة لدرجات ملائمة.
٧
يقترح الفيزيائي الأمريكي فريمان
دايسون
Freeman Dyson (١٩٢٣م–…)
٨ لوحًا عاكسًا كبيرًا يوضع بشكل دائم بين الزهرة والشمس بطول أطولَ من قطر
الكوكب بعشر مرات ما يمنع الرياح الشمسية من الوصول إلى سطح الكوكب، وذلك سيُقلل بدوره
من الإشعاعات التي تضرب سطح الكوكب.
٩ ويمكن استخدام هذه الألواح العملاقة في الاستفادة من ضوء الشمس لتوليد
الطاقة.
وبتقليل الضغط والحرارة الهائلَين على سطح الزهرة سنكون قد خطَوْنا خطوة كبيرة جدًّا
في إعادة تهيئة جو الكوكب الملتهب.
لم يكن المريخ والزهرة وحدهما محلَّ دراسات تُحاول الإجابة على سؤال ما إذا كان من
الممكن تعديلُ بيئاتها، بل كانت أقمارٌ من أقمار كواكب المجموعة الشمسية بيئةً خِصبة
لتلك الأبحاث والتصورات المستقبلية عن تعديل مناخها؛ فالقمر تيتان مثلًا، وهو أكبر
أقمار المشتري، يبلغ ضغطه حوالي مرةً ونصفًا قدر الأرض، ويوجد به كميات كبيرة من الماء
المتجمد، وكل العناصر اللازمة للحياة موجودة فعلًا هناك.
١٠
مما سبق، يبدو أن الموضوع بدأ يأخذ مجرًى عِلميًّا حقيقيًّا في بحوث العلماء من سنوات
عديدة، بعد أن تلقَّفوا الفكرة من قصص وروايات الخيال العلمي كما بينَّا، وبالرغم من
صعوبة العملية بسبب قصور تقنياتنا الحاليَّة أو بسبب طول المدة التي قد يتخذها ذلك
التحويل، إلا أنه قد يكون في نهاية المطاف حلًّا معتمَدًا ليس فقط إذا أصاب الأرضَ
كارثةٌ ما، ولكن أيضًا يُمثل حلًّا لمشاكل الزيادة السكانية على سطح كوكبنا
الأزرق.
كل ما نملك الآن، أن ننتظر إلى أن يأتيَ اليوم الذي يقطع فيه أحفادنا تذاكر السفر
إلى
المريخ أو الزهرة، ناشِدين حياةً جديدة، هاجرين الكوكب الأزرق الذي سيقطع الفراقُ
أوصالَ مشاعره، بعد آلاف السنوات من احتضانه للبشر.