مهندس الخيال الأكبر
كل معارفنا كان لها أصلٌ في مخيلاتنا.
بالرغم من تعليمه المتواضع، كان دافنشي يستطيع أن يتخيَّل كيفية عمل اختراعات كبيرة.
ربما يكون هذا الفصل غيرَ متعلق بالخيال العلمي بوصفه مصطلحًا أدبيًّا حديثًا نوعًا ما، ولكن جرعة الخيال المنطلق من العلم التي وُجِدت في أعمال هذا الرجل، جعلت زيارة مملكته الأدبية ضرورة ملحَّة إذا تحدثنا على الارتباط بين العلم والخيال، تلك المملكة التي أخرجت لنا عددًا من الأفكار العظيمة، لكن هذه المرة أخرجتها على صورة رسومات وتوضيحات بدلًا من الشكل المعتاد للخيال العلمي في رواية أو فيلم. فعندما يجتمع الفن والعلم والمخيلة الخِصبة في شخصٍ ما عاش منذ مئات السنين، فيتصور بل ويُصمم آلاتٍ لم يتم صناعتها فعليًّا إلا بعد وفاته بزمن غير يسير، ويتجلَّى فنُّه في لوحات لا زالت تشهد على عبقريته منذ تلك القرون حتى لحظتنا هذه، بل وسيظل تأثيرها باقيًا إلى أن يشاء الله، فلن تملكَ حين تعرف كلَّ هذا إلا أن تركب سفينة خيالك وتُزودَها بوَقود العلم اللازم لننطلقَ إلى أغوار الماضي، ونسلب منه دقائقَ نتعرف فيها على هذا الفذ العبقري «ليوناردو دافنشي».
ولأن العلم وخياله هما شاغِلُنا الأساسي، سنُلقي نظرة على اختراعاته العبقرية ورسوماته (العلمية) الفذة التي تنمُّ عن بصيرة نافذة وحسٍّ علمي تخيُّلي لم يوجد في كثير من البشر على مر الزمان.
الطيران
أولًا: الهيليكوبتر
بالرغم من أن الطائرة الهيليكوبتر لم تُصنَع قبل ١٩٤٠م، إلا أنَّ دافنشي رسمها، أو رسم شكلًا بُدائيًّا لها، قبل ذلك بمئات السنين، وفي واقع الأمر فإن دافنشي لم يصنع الطائرة الهيليكوبتر نموذجًا واقعيًّا، لكنه وضع مع تلك الرسومات، الموضحة في الشكل، وضع تعليمات وطرق تشغيل هذه الآلة.
وهو يقول مذيلًا تلك الرسوماتِ إنه إذا صُنِعت هذه الآلة مع مِروحة مصنوعة جيدًا، فإنه مع دوران تلك المروحة سينتج دوامة هوائية تُؤدي إلى رفع هذه الآلة في الهواء!
ثانيًا: وماذا عن الطيران بالأجنحة؟
أعتقد أنك لا بد وأن تساءلت بعد أن قرأت فقرة الهيليكوبتر، كيف له أن يُفكِّر في الهيليكوبتر الذي لم يكن له مثيلٌ واضح في عصره، ولم يُفكر في الطائرات المجنَّحة، والتي كان لها نظيرٌ طبيعيٌّ لا يخفى على أحد وهو الطيور التي درسها حقَّ دراستها؟!
حسنًا! لم تَفُت هذه على «دافنشي» بالمرة؛ فقد وضع بالطبع رسوماتٍ توضيحيةً وشروحاتٍ لطريقة عمل هذا النوع. ولعل من أبرز هذه الرسومات تلك الرسمةَ التي تُوضح طائرة تُشبه إلى حدٍّ كبير الوَطواط، وكان ذلك في عام ١٤٨٨م، وفي آلته العجيبة تلك، يجلس «الطيار» على سطح خشبي ويتحكم في الطائرة عن طريق دواستَين بقدَمَيه بحركة متناوبة! وكما يقول، ولأسباب الأمان، لا بد من أن يُجرب الجهاز على سطح بُحيرة قبل أن يتم اعتماده فعليًّا!
عربة دافنشي ذاتية الدفع!
من حوالي خمسةَ عشر عامًا، عرَض متحف تاريخ العلوم في فلورنسا بإيطاليا نموذجًا — يعمل فعلًا — من أول عربة ذاتية الدفع في التاريخ، بحسب ما قال مدير المتحف، واستغرق العمل فيه أربعة أشهر. وكان النموذج مبنيًّا على رسومات صديقنا العزيز — دافنشي — بكل تأكيد. وإن كان حجمه لا يتعدَّى ثُلث الحجم الأصلي الذي رسمه دافنشي به.
ربما تكون نظرية السيارة التي تسير بالزنبركات مألوفةً لديك بشكل كبير، ولكن تذكر أن ذلك كان في القرن الخامس عشر. لربما لو رأى أحدهم عربة دافنشي تلك تسير بشكل تلقائي لطالب بحرق دافنشي بتهمة السحر والهرطقة!
وكذلك عسكريًّا
لم تكن اختراعات دافنشي بمنأًى عن الأغراض العسكرية، فكان له اختراع بديع جدًّا، حاول باختراعه ذلك المِدفَع الرشاش (عام ١٤٨١م) الذي يُمكنه ضربُ ١٢ مقذوفة أن يُقلل من نسبة الخطأ الذي يقع عند استخدام مقذوفة واحدة، وذلك عن طريق رصِّ هذه المدافع على شكل المروحي الذي يُتيح مجالًا أوسعَ للإصابة. كذلك فهو يُفيد في حالة الحشد العسكري المهاجم، وهو كذلك يحمل ميزة مهمة جدًّا وهي خفَّة الوزن وسهولة التحرك في أرض المعركة، كذلك كان له قابليةٌ للدوران بسهولة، مما يُكسِبه ميزة عظيمة في المعارك التي تتطلب القتال على أكثرَ من جانب.
كان طول هذا المدفع الرشاش حوالي ٢٦ مترًا؛ لذلك هو كبير نسبيًّا، وإن كانت له مميزات عدة، كما ذكرنا، تُعوض هذا الكِبَر في الحجم.
طيران من نوع آخر
ومنذ التاريخ الذي ذكرناه مسبقًا لأول استخداماتٍ للمظلات، تطورَت المظلات بشكل كبير، وكانت تختلف إلى حدٍّ ما مع مظلة «دافنشي». إلى أن جاء العام ٢٠٠٠م والذي شهد طيران أول نموذج مصنوع لمظلة دافنشي بحذافيره.
الفارس الآلي!
- الأول: نظام تحكُّم رباعي للتحكم في: اليدين والكوع والمِعصمَين والأكتاف.
- الثاني: نظام تحكم ثلاثي في كلٍّ من: الوَرِكَين والركبتَين والكاحلَين.
ناسا تستفيد من دافنشي!
لم يكن الفارس الآلي هو الوحيدَ الذي حاول به دافنشي محاكاة الحركة الحية؛ فقد صمَّم كذلك أسدًا ميكانيكيًّا يُمكنه المشي والوقوف أوتوماتيكيًّا. وهذا الأسد تم إنشاؤه فعلًا ولكنه فُقِد إلى أن تم إعادة إنشائه عام ٢٠٠٩م في فرنسا.
الجسر الدوَّار!
صمم «دافنشي» الجسر ليكون مَعبَرًا سريعًا من فوق المجاري المائية؛ فهو قابل للمد فوق المجرى المائي والعودة إلى وضعه الطبيعي على الضفة التي هو مرتكز عليها، وبذلك فهو صالح للهروب السريع من الأعداء، بحيث يمكن إعادة قبضه بعد العبور من فوقه، وبحسب «دافنشي»، هذا الجسر سيكون خفيفًا كفايةً للقيام بالأغراض التي ذكرناها، واستخدم في تصميم الجسر نظام الحبل والبكرات في ميكانيكية القبض والبسط، أو الإغلاق والفتح.
وفي الأعماق أيضًا!
لم يكن الغوص بعيدًا عن ذهن «دافنشي»؛ فهو محاكاةٌ لكائنات حوله، مثله مثل الطيران الذي رأينا كيف أبدع في رسومات وشروحات تصف آلاتِه التي تُستخدَم الكثير من مبادئها حتى الآن، خصوصًا وأن دافنشي كان من أبناء مدينة الماء «فينسيا».
الطب والتشريح
وكما نظر للطبيعة من حوله واقتبس منها اختراعاتٍ ملهمة، لم يكن «دافنشي» بعيدًا عن النظر في الجسد البشري، والذي حظي بجزء غير يسير من اهتمامه. والذي، على مدار حياته، رسم الآلاف من الصفحات وحرر مثلها ملاحظات عن الجسد البشري. وفي هذه الفقرة بالذات، تستطيع أن تُسمِّيَه «طبيب الخيال»!
ربما كانت خبرة «دافنشي» المعمارية والهندسية قد ساعدته إلى حدٍّ ما في فَهم ورؤية ميكانيكية عمل الجسم بطريقة دقيقة. وقد رأينا ذلك في محاولته محاكاةَ الجسد البشري في الفارس الآلي الذي ذكرناه آنفًا. وسنستعرض هنا مثالَين لتوضيح دقة دافنشي العالية وحرفيته المبهرة فيما يخص التشريح، وهما: الجمجمة، والعمود الفقري.
أولًا: الجمجمة
يعتقد الأطباء والمتخصصون، اعتمادًا على ما تبقى من رسوماته التوضيحية، أن ليوناردو في هذا المجال «قد سبق عصره مئاتٍ من السنين!» وهي الجملة التي سوف تعتادها عند القراءة عن دافنشي واختراعاته وأفكاره!
الرسمة التالية رسمها دافنشي عام ١٤٨٩م، وهي صورة لجمجمة مقطوعة لإظهار ما بها من تفاصيل، ويجب أن تأخذ باعتبارك أن عمل مقطع في جمجمة حقيقية بهذا الشكل لهو أمرٌ صعب للغاية، وغالبًا لن يتم بدون تحطيم الأجزاء الداخلية، وملحوظة أخرى، أن هذا الرسم التوضيحي للجمجمة كان جزءًا من سلسلة رسومات وتوضيحات خصصها دافنشي» للجمجمة البشرية.
ثانيًا: العمود الفقري
«الصورة التالية التي توضح العمود الفقري، والتي رسمها «دافنشي» يعتقد أنها الصورة الدقيقة الأولى للعمود الفقري في التاريخ.»
قدَّم دافنشي رسومات تشريحية لأعضاء أخرى كانت دقتها في أغلب الأحيان تبلغ حدًّا أدهش علماء العصر، فرسم كذلك الجذع والرحِمَ وغيرها.
الفن والهندسة والرياضيات
ربما تكون هذه الجملة، والتي قالها «دافنشي»، خير مقدِّمة ودليل على اهتمام دافنشي بالهندسة والرياضيات. لم يكن الفن منفصلًا يومًا عن النظريات الهندسية والرياضية؛ لذلك آثرنا أن يكونا تحت نفس العنوان في دراستنا لما قدَّمه «دافنشي» بصددهما.
الرجل الفيتروفي
ومن تلك النِّسب التي استخدمها، مثلًا أن طول الذراع يساوي أربع مرات طول راحة اليد، وكذلك المسافة من منبت الشعر إلى الحاجبَين يساوي ثلثَ طول الوجه، والمسافة من الكوع إلى الإبط تساوي ثمن طول الإنسان، والمسافة من أسفل الذقن إلى أسفل الأنف تساوى ثُلثًا من طول وجه الإنسان وهي نفس النسبة من أسفل الأنف إلى منتصف الحاجبَين، وأيضًا نفس النسبة من منتصف الحاجبَين إلى منبت الشعر، وغيرها الكثير من النسب.
النهاية!
غادر «دافنشي» عالم الأحياء في عام ١٥١٩م عن ٦٧ عامًا، بعد أن ترك للبشرية إرثًا قلما تركه فرد، ويقال إنه قد طلب قبل موته أن يتبع جنازته ٦٠ شحاذًا حتى قبره! (ربما هناك مغزًى في هذا الرقم الذات). ترك «دافنشي» البشر، وما زالت أعماله تحكي عنه، وتُخبرنا يومًا بعد يوم كم كان ذاك العقل من فرط اشتعاله ذكاءً وإبداعًا وخيالًا، لا نجد حتى كلمات يُمكنها أن تصفه وتُعطيه حقه كما ينبغي.