مِنْ هناك
المجهول، غير المبرهَن؛ هذا ما تقوم عليه الحياة، فالجهل هو دافع التفكير، وغير المُثبَت هو دافع الفِعل.
هناك، حيث السكونُ جاثم، والظلام دامس، حيث لا حياة تدب كما نعتقد، فضاءٌ واسع لا نهاية له، ننظر فنرى ملايينَ من النجوم تَزينُ سوادَ السماء ليلًا، وندرس فنعرف أن هناك ملايين المجرات، ومليارات الكواكب، عوالم لا نعرف عن أجوائها شيئًا، وعوالم نعرف عنها القليل.
ونتأمَّل، ماذا كانت تلك المنطقة التي نجلس بها الآن قبل أن توجد حياة على وجه الأرض، كيف كان يبدو كوكبنا وهو هادئ ساكن قبل هذا الصخب الذي حل به.
وفجأةً تبرق في أذهاننا فكرةٌ ربما كانت غريبة، ربما كانت شاذةً؛ هل يكتفي الفضاء بأن يُرسِل إلى الأرض تلك الصخورَ المشتعلة التي تأتينا من حينٍ لآخر؟ أم أن هناك شيئًا في أحشاء تلك الصخور جاء يومًا إلى الكوكب الأزرق الزاهي، فغيَّر من شأنه وقلَب بيئته رأسًا على عَقِب، وكان سببًا لوجودي ووجودك في مكانَيْنا الحاليَّين؛ أنا أكتب، وأنت تقرأ؟
سُلالة أندروميدا
تبدأ القصة بسقوط قمر صناعي تابع للجيش فوق «بيدمونت» ﺑ «أريزونا»، فيحل الخراب بهذه المنطقة ويموت جميع من فيها، ما عدا طفلًا رضيعًا وشيخًا مسنًّا.
يجمع الجيش علماءه ليُحاولوا تفسير ما حدث، فيكتشفوا أن هذا الجسم العائد لم يسقط وحده، بل أتى من الفضاء بكائن عضوي هو مَن سبَّب تلك العدوى التي انتشرت بين أهالي المنطقة وأدَّت لهلاكهم.
وبالرغم من أن الرواية مكتظَّة بالعلم والحقائق العلمية، والتي بسببها لن تعرف الفاصلَ بين العلم والخيال في الرواية، إلا أننا سنُركز على النقطة الأخيرة موضوعًا لهذا الفصل، ألا وهي نقطة «قدوم كائن حي على متن جسم قادم من الفضاء؛ أرضيًّا كان أم خارجيًّا».
الآن، لنفترض وجود حياة ميكروبية في الفضاء، هل هناك احتمالية لأن تنتقل هنا بهذه الطريقة؟ وكيف سيتمكَّن هذا الكائن من الحياة في البيئة الفضائية القاسية بالنسبة لكائن حي؟ وهل هذا التنقل اعتباطي أم لهدف؟
أسئلة سنُحاول الإجابة عنها في الأسطر القادمة، ثم سنُنهي الفصل بمحاولة استقصاء بعض الآراء القائلة بأن الحياة الموجودة على الأرض ليست أرضيةً في الأساس، وإنما قدمت لكوكب الأرض محمولةً على تلك الأجسام الساقطة عليها من الفضاء الغامض!
لغرضٍ وليس اعتباطًا!
بالرغم من ضَعف تلك الاحتمالية، إلا أن البعض يعتبر أنه، لو حدث وأن سقط أيٌّ من تلك الأحياء الميكروبية على الأرض، فإن ذلك سيكون له مغزًى أعمقُ مِن كونه سقوطًا عشوائيًّا من حياة غير عاقلة ساقَتْها الأقدارُ لكوكبنا الوديع!
لنفترض أن هناك حضارةً عاقلة تُريد إعلامَ باقي الحضارات العاقلة في الكون أنها موجودة، ماذا ستفعل؟
هل ستستخدم موجات الراديو المعتادة؟
موجات الراديو كغيرِها من الموجات تضعف مع المسافات الكبيرة، وكلُّنا يعلم أن المسافات الفضائية شاسعةٌ بحيث لن تُصبح الموجات قادرةً على الوصول للأماكن البعيدة بنفس شدتها، بل ستضعف وتضعف حتى تبلغ شدتها مقدارًا ضئيلًا لا يُمكن اكتشافه.
وكذلك الحال مع موجات الضوء، وغيرها من الموجات.
فما الحل إذن؟
لذا لو سقط فوق منزلكم أيٌّ من تلك الأحياء، فاعلم أن هناك رسالةً محمولة في أحشائه من حبيب في مجرة «أندروميدا» إلى محبوبته القاطنةِ في ضواحي مجرة «درب التبانة»، فاحرص على توصيلها لها!
أصل فكرة تنقل الحياة بين الكواكب
إذن، ما هي احتمالية وصول هذه الأحياء للأرض في الظروف الفضائية الصعبة؟
لعل الإجابة على هذا السؤال هي المفتاح الرئيسي لِفَهم إمكانية تنقل الكائنات الميكروبية بين الكواكب وبعضها عن طريق الشهُب أو النيازك أو غيرها.
- أولًا: الانطلاق من الكوكب الأم، وتشمل هذه العمَلية ضغطًا عاليًا
جدًّا.
أجرى العلماء محاكاة لعملية الإطلاق، واستخدَموا عدة أنواع من الأحياء الدقيقة، محاولين معرفة تأثير ضغط الإطلاق عليها. فوجدوا أن هناك أنواعًا تستطيع تحمل ضغوط تصل إلى عشرات الملايين من وحدات الجيجا باسكال!٣
- ثانيًا: يدخل الجسم الحامل لهذا الكائن إلى مرحلة طويلة تمتدُّ لسنوات في
الفضاء.
ولفَهم هذه المرحلة وتأثيرها على الأحياء الدقيقة، قامت «وكالة الفضاء الأوروبية» European Space Agency بإطلاق بعض الميكروبات إلى الفضاء وتركِها هناك لفترات طويلة، ثم استعادتها مرة أخرى.
فوُجِد أن بعض الأنواع تستطيع أن تحيا في الفضاء لفترات تصل إلى عام ونصف العام!
- ثالثًا: عملية الدخول في الغلاف الجوي للكوكب المضيف.
المشكلة الكبرى في هذه المرحلة بالذات هي درجة الحرارة العالية جدًّا التي تُصاحب اختراق الأجسام للغلاف الجوي للكوكب المضيف.
ولكن، لحسن الحظ — بالنسبة لذلك الكائن الزائر طبعًا — فإن هذه الحرارة لا تستمرُّ إلا لوقتٍ قليل جدًّا؛ لذلك فإن الحرارة ستُؤثر على الأجزاء الخارجية للصخرة لدرجةٍ قد تجعلها تذوب، أما الأجزاء الداخلية ستبقى حرارتها مناسبةً جدًّا للحياة الميكروبية (قد تكون درجات الحرارة في قلب الصخور أقلَّ من ٦٠ درجة سيليزية) وبالطبع كلما كانت الصخرة أكبر، قلَّ التأثير الحراري على الأجزاء الداخلية لها.
لذلك؛ نستطيع أن نستنتج من المراحل الثلاثة ومن الدراسات التي تمَّت على تلك المراحل، أن الأحياء لديها فرصة كبيرة جدًّا في الانتقال عبر الكواكب.
وبالعودة إلى «سلالة أندروميدا» سنجد أن الكائن الحي الذي أقبل مع القمر الصناعي قد مرَّ بتلك المراحل منذ انتقاله من مصدره للقمر الصناعي ثم سقوطِه على الأرض؛ لذا فاحتمالية حدوث مثل هكذا حادث ليست بالبعيدة.
ماذا عنَّا؟
ربما ارتبطت أفكارٌ كثيرة بهذا الموضوع، منها العلمي ومنها الخرافي، ومنها كما رأينا ما تم تناوله في الخيال العلمي.
ويمضي «كريك» في كتابه (الرائع بالمناسبة) «طبيعة الحياة» ليشرحَ تلك الإمكانيةَ بالتفصيل، بل ويشرح مواصفات تلك المركبة التي حملَت الحياة الأرضية على متنها.
أسئلة فأسئلة فأسئلة، هذا هو دَيْدن العلم وعادتُه التي لا تنقطع، ربما سنُجيب، ولكن بكل إجابة جديدة، مئات الأسئلة ستُطرَح ليستمر نهر العلم في جريانه، ويستلم رايتَه جيلٌ بعد جيل، تلك الراية التي نتمنَّى تسلُّمَها يومًا.
وأترك الحديث — مجددًا — لكريك؛ إذ يقول: «بعد كل مرة أكتب فيها بحثًا عن موضوع الحياة أحلف بأنني لن أعود للكتابة فيه مجددًا؛ ذلك أن فيه الكثير من التأمل يجري خلف القليل من الحقائق، لكن لا بد أن أعترف أن للموضوع سِحرَه بالرغم من كل شيء، حتى لَيبدو أنني لن أخلص لقسمي أبدًا.»
B-Berzelius (1799–1848), J. J. Analysis of the Alais meteorite and implications about life in other worlds.
C-Thomson (Lord Kelvin), W. (1871). “Inaugural Address to the British Association Edinburgh”. “We must regard it as probably to the highest degree that there are countless seed-bearing meteoritic stones moving through space.” Nature 4 (92): 261–278 [262].