أعطِني حُريَّتي!
هل تعلم لماذا لم نُرسل آلاتٍ لهذه المهمات؟ … الآلات سيئة في الارتجال، لأنك لا
تستطيع أن تُبرمجها على الخوف من الموت … غريزة البقاء على قيد الحياة لدينا هي
أعظم مصادرنا للإلهام.
دكتور «مان» من فيلم الخيال العلمي
الشهير Interstellar
في مشهد مَهيب من قصة رجل المائتي
عام
Bicentennial Man للعبقري الأمريكي «إسحاق أزيموف»،
١ وبداخل قاعة المحكمة، يُحاول الروبوت «أندرو» أن يُدافع عن حقه في أن يكون
حرًّا.
يقول القاضي مُستغرِبًا: «لماذا تريد الحرية يا أندرو؟» فيردُّ الروبوت: «هل ترغب
في أن
تكون عبدًا سيادتكم؟ … لقد قيل هنا إن الإنسان فقط هو مَن يستطيع أن يكون حرًّا … أنا
أقول
إن مَن يرغب في الحرية فقط هو من يستطيع أن يكون حرًّا.»
فجاء حكم المحكمة أنَّ «الحرية حق لمن له قدرات عقلية تُتيح له فَهم معناها.»
٢
الذكاء الاصطناعي تاريخيًّا
ربما كانت بداية الذكاء الاصطناعي أو التفكير في احتمالية وجود آلة مُفكِّرة أو
«ذكية» Intelligent Machine، ربما كانت فلسفية — مثلها
مثل علوم كثيرة — كنوعٍ من أنواع الأفكار التي نستطيع بها أن نُحدد ما معنى أن تكون
إنسانًا، أو ما هي الصفات المميِّزة للإنسانية. ومن الفلاسفة الذين استخدَموا المصطلح
مَجازيًّا الفيلسوف الفرنسي الكبير، «أبو الفلسفة الحديثة» كما يُطلَق عليه،
«رنييه ديكارت» René Descartes
(١٥٩٦–١٦٥٠م).
تطوَّر المفهوم بعد ذلك من قِبَل بعض الفلاسفة الآخرين، ومنهم الألماني «جوتفريد
لايبنتس»
Gottfried Wilhelm Leibniz (١٦٤٦–١٧١٦م)،
والذي رأى إمكانية حقيقية لصناعة آلة منطقية ميكانيكية تستخدم القواعد المنطقية لحلِّ
المسائل.
٣
الشِّطرنج الملهم
في عام ١٦٦٩م قدَّم مُخترع هِنجاريٌّ اسمه «فولفانج فون كمبلين» Wolfgang von Kempelen آلة ميكانيكية أُطلِق عليها «التورك» The Turk تستطيع لعب الشطرنج بطريقة احترافية جدًّا،
بل وفازت في جولات عديدة على شخصيات مشهورة جدًّا أمثال «نابليون بونابارت» و«بنيامين
فرانكلين».
هناك بعد ١٥٠ عامًا من ظهور تلك الآلة العجيبة، اكتُشِف أنها كانت خُدعة ميكانيكية
لا
أكثر. فقد كان يجلس بداخل تلك الآلة مُحرِّك آدمي ماهر هو مَن يُحرِّك قطع الشطرنج
باستخدام تقنيات ميكانيكية معقَّدة.
الآلة رغم كونها مزيفة فيما يخص الهدف الذي «نُشِر» أنها صُنِعت من أجله، إلا أن
تركيبَها كان معقدًا، وأظهرت بشكلٍ ما شغف الناس، حتى منذ مئات السنين، بموضوع الآلات
المُفكرة.
والشطرنج لكونه لعبة تتطلب ذكاءً ومنطقًا شديدَين، كان يُعَد تحدِّيًا كبيرًا
للمهتمِّين بالذكاء الاصطناعي على مر العصور حتى عصرنا الحالي، إلى أن نجح كمبيوتر
أخيرًا في الفوز على اللاعب الأفضل في العالم منذ أمَدٍ ليس بالبعيد.
ثم كانت الثورة الصناعية. والآلات التي كانت مُستحيلةً في أوقات مضت بدأت تغزو
المصانع لتقوم الآلة الواحدة بأعمال عشرات الرجال، وسارت تلك الآلات في درب التطور حتى
وصلنا لعصور كتابة الخيال العلمي بعد ذلك، حيث كانت الروايات تُحاول صياغة أشكال منطقية
من تلك الآلات؛ فها هو «فرانك بوم»
Frank Baum، صاحب
الرواية الخيالية المشهورة «ساحر أوز»
Wizard of Oz،
يكتب في رواياته عن شخصيات ميكانيكية متعددة تستطيع القيامَ بأعمال متعدِّدة. ومن تلك
الشخصيات، شخصية «تيك توك»
Tik-Tok النحاسية؛ فيصفه
بأنه يُفكِّر، ويتكلم ويفعل أي شيء يفعله الإنسان ما عدا أنه ليس حيًّا. وتُعَد تلك
الشخصية من أوائل الروبوتات التي ظهرت في أعمال أدبية. وكان هناك كذلك الرجل الصفيح
الذي ساعد «دورثي» في رحلتها للوصول لساحر أوز، رغم أنه كان بشريًّا في يومٍ ما!
٤
الخيال العلمي والذكاء الاصطناعي
لا يُمكن أن يُذكَر الذكاء الاصطناعي في الخيال العلمي بدون ذكر الأمريكي «إسحاق
أسيموف»
Isaac
Asimov (١٩٢٠–١٩٩٢م)،
فهو تقريبًا أغزرُ كتَّاب الخيال العلمي في مجال الذكاء الاصطناعي، إن لم يكن أغزرَ
كُتَّاب الخيال العلمي على الإطلاق.
٥
فقد خلق أسيموف عوالمَ آلية في مئات القصص والروايات، استخدم فيها قوانينه الثلاثة
المشهورة، وأضاف لها قانونًا صِفريًّا بعد ذلك.
٦
فشخصيةٌ مثل شخصية الروبوت أندرو في القصة التي بدأنا بها الفصل، أثارَت تساؤلاتٍ
عديدة حول مفهوم الحرية للإنسان الآلي، وتعريف المخ في مواضعَ أخرى من القصة، وهل هو
مجرد خلايا؟ أم أن آلية عمله هي التي تُميزه؟ باختصار: ما الذي يجعل المخ مخًّا؟ وهل
لو
وجدت آلةً تستطيع «التفكير»، بموادَّ أخرى غير تلك الموجودة في المخ، هل ستُعتبَر
مخًّا؟ وما هو الحدُّ الفاصل بين الإنسان والروبوت؟ إذ يمكن أن يحتويَ جسد الإنسان على
الكثير من الأجهزة الصناعية (أطرافًا وأعضاءً وما إلى ذلك).
٧
كل هذه الأسئلة أثارَتْها قصةٌ واحدة خلَّابة من قصص «أسيموف».
(القصة تحولت إلى فيلم جميل تحت نفس العنوان Bicentennial
Man من بطولة «روبن ويليامز»، صدر في عام ١٩٩٩م.)
نأتي لنموذج آخر عالجه الخيال العلمي فيما يخص الذكاء الاصطناعي، وهو يُعَد امتدادًا
للنموذج الأول (نموذج امتلاك حرية الإرادة والتفكير المستقل)، ألا وهو نموذج الآلة
المُتحكِّمة أو المسيطرة على الإنسان، وهنا يدخل عملاقٌ جديد من عمالقة الخيال العلمي،
ألا وهو ساحر الفضاء (كما سمَّيته في فصل مستقلٍّ يحمل نفس العنوان) آرثر سي كلارك
Arthur C.
Clarke (١٩١٧–٢٠٠٨م)،
وذلك بنموذج من أشهر نماذج الذكاء الاصطناعي، ألا وهو
HAL
9000، وذلك في رائعته «٢٠٠١: أوديسا الفضاء»
2001: Space odyssey. ووصفه كلارك في روايته كالتالي: «والعضو
السادس من أفراد الطاقم ليس بشريًّا، بل هو كمبيوتر متقدم جدًّا من طراز هال ٩٠٠٠، وهو
العقل والجهاز العصبي للسفينة.»
٨
كان ذلك الجهاز مسئولًا عن إدارة المركبة الفضائية «ديسكفري ون»
Discovery one، والتي كان عدد أفراد طاقمها خمسة أفراد، وهو قادر على
اللعب مع الطاقم، والتحدث معهم ومُحاكاة المشاعر الإنسانية وغيرها. إلى أنْ تغير الحال
في مرة من المرات، ولم يسمح الروبوت للطاقم ببعض الأشياء، وتطوَّر الأمر حتى تسبب في
مقتل أربعة من أفراد الطاقم (كان منهم ثلاثةٌ في حالة سُبات شتوي من أجل تخفيض المؤن
المستخدَمة في الرحلة إلى المشترى).
٩
وفي النهاية قرر بومان (البشَري الأخير على السفينة) إغلاقه، بعد محاولات من هال
لأن
يُثنِيَه عن فعلته صارخًا ومتوسلًا بألَّا يفعل: «لقد كنتُ أكثَركم حماسًا للمهمة، أنت
تُدمر عقلي! ألا تفهم؟! سأعود طفلًا من جديد، سوف أصبح لا شيء.» ومضت ذكرياته تتلاشى
شيئًا فشيئًا.
١٠
كانت الصورة أكثرَ عنفًا في قصة أخرى من قصص أسيموف اسمها «شعور بالقوة» Feeling Power حاول فيها البشرُ التخلصَ من
سيطرة الروبوتات التي تطورت إلى حدٍّ صنَعَت فيه أجهزة أخرى بنفسها (يُذكِّرنا هذا
أيضًا برواية أنا روبوت I, Robot لنفس الكاتب، والتي
تخلَّصَت فيها الروبوتات من قيد القوانين الثلاثة). وكان ذلك في مستقبل مظلم تدنَّى فيه
الذكاء البشري، لدرجة أن الشخص الذي كان يستطيع أن يضرب رقمَين في بعضهما كان يُعَد
عبقريًّا، ومطلوبًا في محاولة البشر الأخيرة لاستعادتهم ذكاءهم، واستعادة زِمام الأمور
التي تفلتت منهم لصالح الروبوتات.
أين نحن الآن؟
بعد تلك الجولة السريعة في تاريخ الذكاء الاصطناعي وتطور مفهومه في روايات الخيال
العلمي، نأتي لمربط الفرس: أين تقف البشرية من تلك النماذج التي أرادها الناس من الآلات
المُفكِّرة، والتي صاغها كُتَّاب الخيال العلمي منذ بدايات القرن العشرين حتى
الآن؟
الإجابة على هذا السؤال تبدو مُحبِطة نوعًا ما؛ إذ إن هناك عديدَ المشكلات التي تقطع
السبيل بشكلٍ لا يُرجى منه فرجٌ قريب. وهي مشكلات عميقة جدًّا، فلسفية قبل أن تكون
علمية؛ فالإنسان الذي تُطلَب محاكاتُه سواءٌ جزئيًّا (بخاصية من خصائصه: كالتفكير
مثلًا)، أو كليًّا؛ هذا الإنسان لم نصل بعِلمنا حتى الآن إلى إجاباتٍ شافية عن الكثير
من أسرار مُحرِّكه الذي يحمله في رأسه، وهو المخ.
لا نعرف تعريفًا محددًا للوعي، أو الذكاء مثلًا. فكيف ننتظر محاكاةَ خصائص لا نُحيط
بها من الأساس؟
التحديات
إذن، ما هو الروبوت؟
يَستخدم صانعو الروبوتات تعريفًا جامعًا للروبوت وهو: كل شيء له عقل مُبرمَج يُحرِّك
جسمًا.
١١
فالعقل المبرمَج هو العنصر الأساسي من عناصر تكوين الروبوتات، أو «الذكاء الاصطناعي».
إذن، فالتحدي الأكبر هو وجود عقل يستطيع محاكاة العقل البشري أو أعلى منه ذكاءً؛
لنستطيع أن نقول إنه يمكن أن نصل إلى مرحلة تكون تلك الآلات بالفعل مصدرَ خطر يُمكن أن
يستعبد الإنسان يومًا ما، كما صوَّرَت روايات الخيال العلمي.
لندركَ حجم التحدي؛ إليك مشكلةً في علوم الذكاء الاصطناعي مثالًا، وهي فَهْم اللغات
الطبيعية Natural Language understanding وهي
مشكلة كبيرة جدًّا بالنسبة لآلة، كيف ستتعامل الآلات مع اللغات وتفهمها في ظل وجود
تعقيدات هائلة من وجود ضمائرَ يحتمل أن تعود على أكثر من شخص أو شيء، وغيرها.
نحن البشرَ لا نجد صعوبة كبيرة في فَهم اللغة رغم عدم معرفتنا بقواعدِ استدلال واضحة
نصل بها إلى فَهْم النص، وبدلًا من ذلك نحن نستخدم مجموعة واسعة من موادِّ معرفتنا التي
نكتسبها من خلال الفطرة السليمة، ومن خلال إحساسنا بالعالم حولنا وإدراكنا بالعلاقات
الاجتماعية والسياسية … إلخ. ومن الصعب جدًّا أن نُعطيَ الآلة تمثيلًا لكل هذه الأجزاء
من المعرفة الفطرية والتلقائية.
١٢
بدأت المحاولات في التعامل مع تلك المشكلة من الستنينيَّات حتى هذه اللحظة، دون
الوصول لطريقة تُحاكي طريقة البشر في فَهم النصوص، وللعلم؛ فهناك العديد من المشكلات
الفرعية تتفرع من تلك المشكلة الكبيرة، وهذه واحدة فقط من مشكلات الذكاء
الاصطناعي.
ولن نصل!
هكذا يُجادل عالِم الرياضيات والفيزيائي الإنجليزي الشهير روجر بنروز Roger Penrose (١٩٣٧م–…) فيقول إنه بغضِّ النظر عن
تلك المشكلات، لن تصل الآلةُ لذكاء البشر.
في عام ١٩٣١م برهن العالم «كورت جودل» Kurt Gödel
(١٩٠٦–١٩٧٨م) على أن هناك بعضَ القضايا الرياضية لا يمكن أن نُبرهن على صحتها باستخدام
خوارزمية أو طريقة للحل، بمعنى أن تلك المسائل ستُحَل بعدد لا نهائي من الخطوات.
(الخوارزمية Algorithm: هي مجموعةُ إجراءات حسابية
أو منطقية متتالية تصل بنا إلى حلِّ مسألة ما، وسُمِّيت بهذا الاسم نسبة إلى العالم
المسلم محمد بن موسى الخوارزمي.)
هذا يعني — من وجهة نظر بنروز — أنه من المستحيل وضعُ خوارزمية معينة تُمثِّل المخ
البشري؛ لأن كل ما يمكن الآلةَ فعلُه هو تتبع خوارزمية معينة. والخوارزمية لا يمكن أن
تصل دائمًا إلى حل لبعض المشكلات التي يحلها البشر عن طريق الحَدْس، إذن المخ غير
خوارزمي فلا يُمكن تمثيله بخوارزمية. فالفَهم الرياضي عنده «لا يُعَد شيئًا حسابيًّا،
وإنما يعتمد على مقدرتنا على الوعي بالأشياء.» وبالتبعية لن تصل آلةٌ في يوم ما إلى
الذكاء البشري.
ويحاول تفسير أن البشر يستطيع حل مشكلات لا حلَّ خوارزميًّا لها، بأن العقل البشري
يقوم بالحوسبة الكمومية.
١٣
بكل تأكيد كان هناك ردٌّ على ذلك بأن الخلايا العصبية أكبرُ من أن تظهر عليها
التأثيرات الكمومية؛ لذلك قال بنروز إنَّ الخلايا العصبية تحتوي على تكوينات صغيرة
تُسمَّى
microtubules قد تستطيع إجراء الحوسبة الكمومية.
١٤
ماذا لو تجاوزنا ذلك، هل نستطيع مجاراة تعقيد المخ البشري؟
سنفترض أننا استطعنا بالفعل تمثيل المخ بعدد خلاياه العصبية التي تُقدَّر بنحو ١٠٠
مليار خلية، وعدد الوصلات البالغة ١٠٠٠ وصلة لكل خلية بإجمالي ١٠٠ تريليون وصلة.
١٥ (وللعلم فقد قامت شركة آي بي إم في عام ٢٠٠٨م بتمثيل ١٠ مليار خلية عصبية،
و١٠٠ تريليون وصلة عصبية على كمبيوتر
فائق
Supercomputer بمكونات إلكترونية.)
١٦ واستطعنا كذلك تمثيل التفاعلات (التي لم نَفهمها بشكل كامل حتى الآن)
الحادثةِ بين تلك الخلايا، والإشارات الكهروكيميائية التي تُرسلها بعضُها لبعض، بعد هذا
كله ستبقى مشكلة كبيرة جدًّا.
هل ذلك المخ الجديد سيكون واعيًا بذاته؟ فنحن
نُفكر ونعي أننا نُفكر، ماذا عن ذلك المخ الوليد؟ وهل الوعي أساسًا خاصية للمادة
نفسِها؟ أم أنَّه أكبر من ذلك؟ جدلٌ قائم من قرون
طويلة أطلَق عليه بعضُهم
The Hard Problem أو «المشكلة الصعبة».
١٧
يقول عالم الأحياء توماس هكسلي Thomas Huxley
(١٨٢٥–١٨٩٥م) وهو من علماء القرن التاسع عشر: «إن الأفكار التي أعبر عنها بالنطق
وأفكارك فيما يتعلق بها، إنما هي عبارة عن تغيرات جزيئية.» وتلك هي النظرة التي تُمثل
الجانب الأول من العلماء الذين يرون أن الوعي إنما هو نتيجة لتغيرات فسيولوجية مادية،
وتفاعلات كيميائية.
أما الجانب الآخر، فيرى أن الوعي خاصيةٌ فَهمُها يتجاوز الفيزياء والكيمياء، مثل
ظاهرة أخرى وهي «الإدراك»؛ فكلاهما — الوعي والإدراك — لا نستطيع بالتفسير المادي لهما
أن نعطيَ تفسيرًا مقنعًا لأشياء مثل «الأحاسيس والمشاعر» و«القدرة على التخيل».
١٨
في كتاب «فيزياء العقل البشري»، كتب ستيفن هوكنج قائلًا: إنَّه من المستحيل أن تعرف
إذا كان «الشيء» الذي أمامك فعلًا واعيًا أم أنه يتصنَّع الوعي، فلو طرق بابك في صباح
الغد كائن أخضر، وفتحتَ له الباب وحادثتَه، لن تستطيع أن تجزم: هل هو واعٍ بوجوده أم
لا؟ هل هو يعي أنه يعي؟ أم أن أفعاله مجردُ محاكاة للأفعال الواعية؟!
١٩
لا نستطيع الإجابة على هذا السؤال حاليًّا، وبذلك يُضاف الوعي إلى أطنان المشكلات
التي تعترض طريقَ ذكاء اصطناعي يُضاهي ذكاء الإنسان، هذا كما يقول فريق من العلماء
كبير.
ولعل فيلم الخيال العلمي EX Machina من أبرز الأفلام
في العَشر السنوات الأخيرة في توضيح صفةِ عدم القياس الخارجي للوعي، فأنت عندما تلعب
مع
حاسوب شطرنج «بوسعك أن تلعب معه لكي تعرف ما إذا كان يقوم بحركات جيِّدة، لكن هذا لن
يُخبرك إذا كان يعرف بأنه يلعب شطرنج. ولن يُخبرك إذا كان يعرف ما هو الشطرنج»، كما
يقول أحد الأبطال الذي اختِيرَ لأن يُجرِيَ اختبارَ تورينج مع ذكاء اصطناعي، فكان ذلك
رده عن رأيه في محاوراته مع الذكاء الاصطناعي.
واختبار «تورينج» هو اختبار يُحدِّد ما إذا كانت الآلة قادرة على التفكير أو «ذكية».
٢٠ وسُمِّي كذلك نسبةً لواضعِه «آلان
تورينج»
Alan Turing (١٩١٢–١٩٥٤م) (الذي كان له دور كبير جدًّا في كسر الشفرة
الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية) في عام ١٩٥٠م، وفيه — باختصار — يُجيب حاسوب
(مخفيٌّ عن الأنظار) على شخص يسأله، فإذا استطاع الشخص أن يُحدد أن هذه الإجابات من
حاسوب وليست من إنسان، يكون الحاسوب قد فشل، وإذا لم يستطع الشخص أن يُحدد هل تلك
الإجابات من حاسوب أم إنسان، يكون الحاسوب نجح حينَها في الاختبار.
تأثير سلبي
تخيَّل حياةً لا يفعل فيها الإنسان شيئًا سوى إشباع غرائزه الفطرية، فكل شيء تُديره
الآلات: المصانع آلية، والمواصلات آلية، والمدرِّسون آليُّون (كما في قصة «المتعة التي
فازوا بها»، لأسيموف). وحتى المنزل، كل شيء فيه آلي.
ما مدى تأثير ذلك على الذكاء البشري؟
لقد نظر كُتَّاب الخيال العلمي لهذا الموضوع نظرة فاحصة، وركَّزوا على ذكره في
رواياتهم الخاصة بالمستقبل، حيث يُخبرنا ويلز في روايته العبقرية آلة الزمن أنَّ
«الحاجة للذكاء تنعدم بانعدام الحاجة للتغيير، تلك الحيوانات التي تُواجه الخطر
والحاجة، هي فقط ما يتطوَّر ذكاؤها.»
٢١ فاستقرار البيئة والرفاهية المبالغ فيها ستُؤدي حتمًا إلى انحدار مستويات
الذكاء عند البشر، ويرى صبري موسى في رواية «السيد في حقل السبانخ» أنَّ: «هناك هبوطًا
في الذكاء البشري نتيجةً لسيادة المنطق الميكانيكي، والعلماء أصبحوا متوسِّطي الذكاء؛
تقنيُّون يُجيدون استخدام الأجهزة، أو جهاز واحد، أو جزء من جهاز.»
على المدى البعيد، اختلفت التنبؤات بخصوص الروبوتات بدايةً من حياة مثالية تُساعدنا
فيها تلك الآلات الوَدودة، وصولًا إلى كوارثَ قد تنجم عن محاولات من قِبَلهم للسيطرة
على كوكب الأرض، أو حتى أن تصنعَ تلك الآلاتُ آلاتٍ أذكي منها تُساعدها في مهمتها، وهي
تنبؤات كما رأينا اختلَف فيها العلماء وأوقدَ شلعتَها كُتَّاب الخيال العلمي، وكانت
الثورة الصناعية منذ أكثرَ من قرنَين واحدة من بذور تلك الفكرة أيضًا.
أما على المدى القريب فنحن متأكدون أن الروبوتات وأنظمة الذكاء الاصطناعي بوجهٍ عام
سيكون لها تأثيرٌ لا يمكن إنكاره في ارتفاع إنتاجية المصانع والشركات، وسيكون لها كذلك
تأثيرٌ سلبي على آلاف الناس ممن سيفقدون وظائفَهم لتحلَّ محلَّهم تلك الآلات، ولترى مدى
التأثير، إليك مثالًا حيًّا؛ ففي الولايات المتحدة، ازداد إنتاج الفحم بنسبة ١٣٣ في
المائة في الربع الأخير من القرن الماضي، على الرغم من انخفاض الوظائف بنسبة ٣٣٪ بسبب
استخدام أنظمة الذكاء الصناعي والروبوتات المتاحة حاليًّا.
٢٢
في عام ١٨١٢م، وفي خِضمِّ الثورة الصناعية، أقرَّت إنجلترا عقوبة الإعدام لكل من
وُجد
مذنبًا بتهمة تحطيم آلة، وكان ذلك عقب الموجة الغاضبة التي اجتاحت البلاد عقب استغناء
المصانع عن آلاف الموظَّفين لصالح الآلات الجديدة.
٢٣
أما في عصرنا الحالي، ﻓ «التفرد» (وهو النقطة التي تصل فيها الآلة لذكاء يفوق الذكاء
البشري)، قد يكون هو ثورة الآلات الجديدة، فقد حذَّر علماء كثيرون من الوصول لتلك
النقطة، أمثال ستيفن هوكنج
Stephen Hawking (١٩٤٢م–…)،
وماكس تيجمارك
Max Tegmark (١٩٦٧م–…) وآخرون في
جريدة الإندبندنت (مايو ٢٠١٤م) مجتمِعين على أن: «الوصول لذكاء اصطناعي مماثل لذكاء
الإنسان ربما يكون الحدثَ الأهم في تاريخ البشر، وربما يكون الأخيرَ كذلك.»
٢٤
ربما مستقبلًا، نشهد قيامَ حركات على غِرار «اللوديين»،
٢٥ ولكن هذه المرة لن يكون الغضب بسبب فقدان الوظائف، بل سيكون بسبب فقدان
الحرية لصالح روبوتات لو تمكنَت لن ترحم برأي كثيرٍ من العلماء!
فهل …؟
لا، لا أجرؤ على السؤال؛ فلا أحد يضمن المستقبل!