الغرق في الخيال!
كانت الحكاية السالفة مُعبرة بشدة عن صورة أعماق البحار بوصفها صندوقًا سحريًّا مليئًا بالقصص والأساطير الغريبة التي سبَّبت اشتياقًا شديدًا للوصول إليها على مر العصور؛ فالأعماق بعد كل شيء كانت بعيدةً جدًّا عن المتناوَل البشري، ولا زال حتى الآن يكتنف الغموض مساحات واسعة من أعماق المحيطات الأرضية.
قد يكون أسلوب «جول فيرن»، الكاتب الفرنسي ومؤلف تلك الرواية العبقرية، قد خلَب لُبُّك، فغُصتَ مع أبطال الرحلة في أعماق المحيط، وحبستَ أنفاسك عندما تعرضوا للخطر داخل غواصتهم الكهربية، وتنهَّدتَ بارتياحٍ عندما أصبحوا بأمان. لكن، وكما أعتقد، فإنك لم تتوقع، أو لم يقترب من حقل جاذبية عقلك حتى، أنَّ فكرة أن هذه الرواية، التي صدرت عام ١٨٧٠م، قد كتبها «فيرن» قبل أن تتم أولى المحاولات لإنتاج الغواصات الكهربية بسنوات عديدة!
حُوِّلت الرواية لعدة أفلام، تحت نفس الاسم، كان أشهرها ذلك الذي عرض في دُور السينيما الأمريكية عام ١٩٥٤م من إنتاج شركة والت ديزني بيكيتشرز.
ما قبل فيرن
وكانت معظم تلك الغواصات البدائية تعتمد في بِنْيتها على هيكل خشبي مغطًّى بجلود، ويمتد من جسم الغواصة مجاديف لتعمل على دفعها.
وجاء دور الخيال العلمي ليُدلِيَ بدلوِه، والذي سيكون توقُّعه بل وتفسيره للتطور الحادث في الغواصات بتفاصيل مذهلة، في محله تمامًا، وذلك عن طريق واحد من مؤسِّسي ذلك النوع من الأدب، الفرنسي العملاق «جول فيرن».
البداية
تبدأ أحداث روايتنا الجميلة ببعض المشاهَدات لجسم عملاق في البحر، البعض فسَّره على أنه وحش بحرى، والبعض الآخر فسره على أنه جزيرة عائمة، حتى أرسلت حكومتا الولايات المتحدة وفرنسا بعثة مشتركة على متن سفينة تُدعى «إبراهام لينكولن»؛ وذلك للبحث عن هذا الجسم المجهول!
وبعد أيام من البحث، وجدت الجسم الغريب، ولكن للأسف، أغرق هذا الجسم السفينة «إبراهام لينكولن»، ولم ينجُ منها سوى ثلاثة أشخاص بينهم عالم، سبحوا حتى وصلوا للوحش، واكتشفوا في الأخير أنه جسم مَعدِني وليس كائنًا بحريًّا!
أُدخِل الثلاثة لذلك الجسم بواسطة رجالٍ جاءوا من داخله، فعرَفوا أن هذا الجسم عبارة عن غواصة تسمى «نيوتيلوس» يقودها شخص غريب يُدعى الكابتن «نيمو»، وهو الذي صنعها مع رجاله على جزيرة مهجورة!
وهناك في «النيوتيلوس» رأوا ما لم يرَه سوى عددٍ محدود من البشر!
البُعد العلمي في الرواية
ويُكمل: «يُستخدَم بعضٌ من هذه المِضخَّات لتزويد الغواصة بالهواء، والبعض الآخر يُستخدَم لملء خزانات المياه، وبهذه الطريقة تعمل المضخات على تمكين الغواصة من الغوص في المياه أو الارتفاع إلى السطح.»
وفي موضعٍ آخر من الرواية، نرى استخدام حديث للكهرباء، فقد وُصِّلت الكهرباء بسُلَّم الغواصة بحيث إنه عندما تكون طافية، لا يقترب أحد منها إلا ويُصعَق، وبهذه الطريقة قضَوْا على جماعة من المتوحشين الذين حاولوا اقتحام الغواصة!
وتمضي الرحلة بهؤلاء الثلاثة، فيرَون من خلال النوافذ الزجاجية، معالم الأعماق المبهرة، ومخلوقاته الرائعة، حتى إنهم زاروا مصر، وكانت قناة السويس ساعتها لا تزال في طَور الحفر!
نيوتيلوس حقيقية
وربما كانت المصادفة الكُبرى أن هذه الغواصة كانت صناعة فرَنسية. أي تحقَّقت نبوءته على يد بني وطنه، وكانت «جيمنوت» مصنوعة من الصلب، بطول يقارب اﻟ ١٨مترًا، وتتسع لخمسة من الرجال، واستُخدِم لتوليد الكهرباء فيها ٢٠٤ من البطاريات لتشغيل محرك كهربي بقدرة ٤١ كيلووات، واستُخدِمت الطوربيدات لتسليحها.
ولكن للأسف، فقد لحق بها أضرار كبيرة في عام ١٩٠٧م، وكانت إصلاحاتها مكلِّفة للغاية، فتم بيعها كخُردة في نهاية المطاف في عام ١٩١١م!
الغواصات حديثًا، وكيف تعمل؟
تطورت الغواصات بشكل كبير جدًّا ومن نواحٍ عدة، واستفادت من التكنولوجيا والنظريات الفيزيائية الحديثة أقصى استفادة ممكنة، وفيما يلي سنوجز كيفية عمل الغواصات حديثًا، ولن يكون تركيزنا على نوع محدَّد من الغواصات، وإنما سنشرح المبادئ العامة التي تُصنَع على أساسها أغلب الغواصات الحديثة إن لم تكن كلها.
تكتسب الغواصات قوة الطفو والغطس من خلال خزانات تُملَأ بالماء عندما يُراد لها أن تغطس، وتُفرَّغ من الماء وتُستبدَل بالهواء عندما يُراد لها الطفو! وللوصول إلى العمق المراد، يجب أن نُوازن بين كمية الهواء والماء الموجود بالخزانات، أما بالنسبة لضروريات الحياة في الغواصات فتتوزع على ثلاثة محاور رئيسية: توفير الهواء النقي، توفير الماء، ضبط درجة الحرارة.
بالنسبة للهواء، فيتم إمداد الغواصة بالأكسجين عن طريق إما خزاناتٍ بها أكسجين مضغوط، أو عن طريق مولِّد يقوم بتوليد الأكسجين من خلال التحليل الكهربي للماء، ويُزال ثاني أكسيد الكربون عن طريق استخدام خليط من هيدروكسيد الصوديوم وهيدروكسيد الكالسيوم، يقوم هذا الخليط بسحب ثاني أكسيد الكربون من الهواء من خلال تفاعل كيميائي. أما المياه الصالحة للشرب فيكون إمداد الغواصة بها عن طريق أجهزة تقطير تُقطِّر مياه البحر وتُحولها لمياه صالحة للشرب.
وأخيرًا، بالنسبة للمحافظة على درجة حرارة الغواصة ملائمة لمن بها، فالمعروف أن درجة الحرارة في الأعماق غالبًا ما تكون أقلَّ من درجة الحرارة المعتادة الصالحة للحياة الآدمية؛ لذلك تُستخدَم سخانات كهربية لتدفئة الهواء داخل الغواصة، وتحصل هذه السخانات على طاقتها من خلال محركات ديزل تستخدم الوقود أو مفاعلات نووية تستخدم الانشطارَ النووي أو بطاريات في حالة الطوارئ، وهذه الأنواع الثلاثة تُستخدَم بنفس الكيفية لتزويد الغواصة باحتياجاتها من الكهرباء بوجه عام.
ولكن لا بد أن يكون مر على ذهنك سؤالٌ وأنت تقرأ الفِقرة الأخيرة: كيف لغواصة صغيرة أن يكون بها مفاعل نووي؟ أليس هذا خطيرًا؟
يُنتج المفاعل طاقة حرارية كافية لتوليد بخار نستطيع من خلاله أن نُشغل محركات بخارية، وتُستخدَم هذه المحركات لتشغيل مراوح الغواصة، بالإضافة لتوليد الكهرباء.
الفرق هنا بين المفاعلات المستخدَمة في الغواصة والمفاعلات الأخرى أن مفاعلات الغواصة تستخدم وقودًا مخصَّبًا جدًّا يسمح لنا بتوليد أكبر كمية من الطاقة باستخدام مُفاعِل صغير لأقصى درجة، وبهذا، وكما ترى، لن يتوقف التقدم في صناعة الغواصات إلا بهلاك الجنس البشري، أو بإيجاد وسيلة أكثرَ ملاءمةً منها!
كان الخيال العلمي نقطةَ تحول كبيرة جدًّا، إن لم يكن النقطةَ الأبرز، في صناعة الغواصات بما قدَّمه من أفكارٍ ألهمت الكثير، حتى رسومات دافنشي وإن لم تكن من الخيال العلمي، فقد كان الخيالُ هو المحركَ الأول في إنتاجها، فكان نسيجُ الخيال واقعًا ومنعكسًا بطريقة لا يمكن الجدالُ في تأثيرها على الحياة البشرية.