عالم هيرودوت
تركَتِ المحصلة المذهلة التي تمخضت عنها الحروب الإغريقية الفارسية انطباعًا عميقًا لدى مَن كانوا أحياء في ذلك الزمان. ومن المتصور أن هيرودوت تذكَّر أبويه وقد بلغهما نبأ انتصار الإغريق على خشایارشا في سلاميس سنة ٤٨٠. وكانت إحدى كبريات أميرات البحر في جيش خشایارشا، وهي أرتميسيا، ملكةً على مدينة هاليكارناسوس — موطن هيرودوت — الواقعة على الساحل الأناضولي، حيث يوجد اليوم ميناء بودروم التركي الحديث، وقد قاتلَتْ ببسالة في تلك المعركة. وربما يرتبط افتتان هيرودوت بالسيدات القويات ارتباطًا وثيقًا بخبرته إبَّان طفولته بهذه المرأة الجسورة التي قادت سفنًا حربية قيادة فعلية، وربما كان مؤرخنا يبلغ من العمر خمس سنوات عندما حدثت المواجهة الأخيرة التي دارت رحاها في ربيع العام التالي في الأناضول نفسها. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، ظل انتصار الإغريق المذهل الذي حقَّقه «أعظم جيل» موضوعَ نقاشٍ مثيرًا في العالم الهيليني، وكان شباب الجنود ما زالوا في المتناول لإجراء الحوار معهم عندما بلغ هيرودوت رشده، وكانوا على الأرجح يجدون ما يُشبِع غرورَهم في سؤالهم عن تجاربهم في الحرب، وكانوا متلهفين للحديث، فغالبًا ما يعيش الرجال والنساء من جيل ما بعد الحرب هذه الحرب بشكل غير مباشِر من خلال أحاديث طاولة الطعام وغيرها من الأحاديث التي يرويها الآباء، والعمات والخالات، والأعمام والأخوال، والأجداد، ممَّن ينتمون إلى هذا العالم الأقدم من عالمهم. وكان هيرودوت نفسه — وبشكل شبه يقيني — صديقًا للكاتب المسرحي سوفوكليس، الذي اختير وهو في سن المراهقة لأداء واجب وطني، وهو قيادة أناشيد الكورال احتفالًا بانتصار الإغريق البحري في سلاميس. وفي عام ٤٧٢، أنتج أسخيلوس مسرحيته «الفرس» التي تدور حول ذلك الانتصار، وكان الرجل الذي بذل المال لتدريب كورَس المسرحية هو بركليس، الذي سيصبح أبرز رجل دولة أثيني في زمن هيرودوت. وفي عموم بلدان البحر المتوسط، ظلت الحرب حية على مدى أجيال كلحظة حاسمة في التاريخ. وفيما تقاتل التحالفان الأثيني والإسبرطي، في البداية في حرب غير معلَنة استمرت من ٤٦٠ إلى ٤٤٦، ثم في الحرب البيلوبونيزية الكبرى بين عامي ٤٣١ و٤٠٤، بقيت ذكريات الوحدة الإغريقية كتذكرة مؤلمة بأزمنة أحسن حالًا.
لا نعرف إلا تفاصيل قليلة عن حياة هيرودوت بعد طفولته في هاليكارناسوس. لقد تعرَّض على الأرجح للإبعاد في واحدة من موجات الحرب الأهلية التي اتَّسَمت بها المدن الإغريقية، وأمضى جزءًا كبيرًا من حياته مترحلًا في منفاه، وزار أثينا، ومات على الجانب المقابل من العالم الهيليني في مستعمرة ثوريوم الإغريقية في جنوب إيطاليا بعد سنة ٤٣٠ بحين من الدهر، على الرغم من قول بعضهم إن وفاته كانت على الحافة الشمالية في مدينة بلَّا المقدونية. وتذكر المصادر اللاحقة أن اسم أبيه ليكسيس، وأمه درايو أو رويو أو ربما شيء مختلف بالكلية، الأهم من ذلك اسم شخص آخَر من أقاربه (ربما عمه أو ابن عمه) هو الشاعر بانياسيس، الذي أشاد به بعض القرَّاء (بعد موته فقط للأسف) وقالوا إنه لا يفوقه مكانةً إلا هوميروس. كتب بانياسيس عن بدايات المدن الإغريقية في أيونيا — الاسم الذي كان يُعرَف به ساحل الأناضول الغربي — فجعل بذلك هيرودوت منتميًا إلى عائلة أدبية، على الرغم من أنه كان يكتب شعرًا، ومن ثَمَّ فلم يشكِّل إلا سابقة جزئية للعمل البارز الذي اضطلع به هيرودوت.
كانت هاليكارناسوس التي عاش فيها هيرودوت تقع عند ملتقى طرق الشرق والغرب، ويقطنها خليط من السكان الإغريق والسكان الأصليين، وتضم مزيجًا من هاتين الثقافتين، وكان السكان المحليون كاريين، وقال هوميروس إن بعضهم شاركوا في حرب طروادة حلفاء لطروادة، وتشمل معلوماتنا الضئيلة عن أقارب هيرودوت أسماء إغريقية وأسماء كاريَّة على السواء. وقد عزا بعض القرَّاء، مثل كابوشنسكي، اتِّسَاع أفق هيرودوت إلى عرقه المختلط هذا، مُدَّعِين أن «أصحاب العرق المختلط» الذين يقضون شبابهم بين ثقافات مختلفة «كمزيج من سلالات مختلفة، تتحدد رؤيتهم الكونية بفعل مفاهيم من قبيل الحدود والمسافة والاختلاف والتنوع.» وقد شُكِّلت طريقة هيرودوت في النظر إلى الأشياء بلا شك، وأُثرِيَتْ بفعل الثقافة المختلطة التي تميَّزتْ بها مدينته الأصلية، وكذلك بفضل مخاطر العقلية الإمبريالية التي اكتسبها الأثينيون من بلاد فارس.
علاوةً على ذلك، كانت مدن أيونيا الإغريقية مرتعًا للفكر الجديد الذي اتسم بالجرأة في أغلب الأحوال. ففي ظل غياب مناهج علمية راسخة، كانت ما نعتبرها الآن فروعًا فكرية منفصلة (العلوم الطبيعية، الفلسفة، علم النفس، اللاهوت) مندمجة أكثر بكثير منها اليوم. وكان طاليس قد تكهَّنَ بأصل المادة، وانتهى إلى أن كل شيء كان في الأصل على هيئة ماء، لكن من جهة أخرى كان أنكسيمانس يرى أن كل شيء نشأ من الهواء، الذي يمكنه التحول إلى نار أو ريح أو سحاب أو — عند تكثيفه — إلى مادة صلبة، في حين قال أنكسيمندرس بأن المخلوقات الأولى نشأت من الطين، وأن البشر تطوروا من أنواع حيوانية أخرى، وكان أول إغريقي يرسم خريطة للعالم المعروف. وقدَّر زينوفان — المعمر الذي وُلِد هيرودوت في حياته — أن البشر خَلقوا الآلهة وليس العكس، حيث زعم — مستخِفًّا — أنه لو استطاعت الأنعام والخيل والأُسْد أن ترسم، لصوَّرَ كلٌّ منها صورَ آلهة شبيهة بجنسه. وقال هيراقليطس — الرجل الذي نربط بينه وبين ادِّعَاء أن المرء لا يمكنه الخوض في النهر نفسه مرتين أبدًا — بأن كل شيء في حالة تدفُّق. وكان هيرودوت وريثًا لهذا التراث الأيوني بما اشتمل عليه من فضول وشكوكية.
وفي الوقت نفسه، شاع التكهن بالصلات بين الجغرافيا والمجتمع. كان عمل هيرودوت منتشرًا، كلامًا وكتابةً، قبل أن يبلغ الطبيب أبقراط ذروة نجاحه كطبيب، لكن أبا أبقراط وجدَّه كانا طبيبين، وكان البحث عن تفسيرات علمية للمرض تنبذ الأسباب الإلهية يجري على قدم وساق منذ زمن ليس بقصير، وكانت جزيرة كوس التي عمل فيها أبقراط تقع على الجانب الآخَر من المضيق قبالة هاليكارناسوس. وقد ربَطَتْ ملاحظاتُ شهود العيان والحوارات وتقييم الأدلة واستخدام القياس وتحليل البيانات التراكميُّ عملَ هيرودوت بعالم الأطباء، فتعلَّمَ هو منهم بلا شك وتعلَّموا منه. كل هذا يقدم لنا تفسيرًا عميقًا لثراء عقل هيرودوت وعكوفه على البحث وجرأته في فضوله بشأن المناخ والطبوغرافيا، وانفتاحه على الأفكار الجديدة وتسامحه مع التنوع الثقافي، لكن وجود دافعية غير عادية هو وحده الذي يمكنه تفسير قراره الاضطلاع بعمل غير مسبوق بهذا الحجم. كان «تاريخ هيرودوت»، بتغطيته نطاقًا واسعًا من حيث الزمان والمكان، أطول من أن يُلقَى بكامله على المسامع في مهرجان ما، بل إن فريقًا من القرَّاء يعمل أعضاؤه بالتناوب كانوا سيحتاجون إلى خمسين ساعة على الأقل لتلاوته.
يصعب علينا اليوم أن نستوعب بدعة تأليف كتاب كامل على هيئة نثر؛ فنحن نتعلم التحدث والكتابة نثرًا قبل أن نقرض الشعر، وبعضنا لا يصادف كلامًا موزونًا إلا عند الغناء أو الاستماع إلى الأغاني أو سماع أناشيد رياض الأطفال، وأما النثر فهو ببساطة موجود في كل مكان، مما يجعله غير ملحوظ، فهو لغة الصحف وأفلام الإثارة وكتيبات التعليمات والبريد الإلكتروني. كانت هذه التراتبية، من نواحٍ عديدة، مقلوبةً في اليونان القديمة، حيث كان الأدب يؤلَّف في البداية شعرًا ولا يؤلَّف نثرًا إلا فيما بعدُ. وفي الحقيقة، لم يكن لدى الإغريق على أيام هيرودوت كلمة للإشارة إلى النثر، ولم يدخل تعبيرُ «الكلام المجرد» (ويُقصَد به الكلام غير الموزون) أو «اللغة التي تسير على القدمين» (ويُقصد بها اللغة التي لا تستعين بمركبة الشعر المجنَّحة) نطاقَ الاستخدام كتصنيف للنثر إلا بعد قرن أو نحو ذلك من الزمان. وكُتِب النَّصَّان التأسيسيان للحضارة الإغريقية — وأعني الإلياذة والأوديسة — على هيئة شعر، والتجأ إليهما الإغريق جيلًا بعد جيل طلبًا لنماذج بطولية ملهمة، وأساليب تعبير راقية، ورؤية كونية كاملة، ورغبة في الاطلاع على حكاية سردية طويلة ثرية، بها كثير من المنعطفات؛ فكانتا زادًا معتادًا للإلقاء والتلاوة كمادة ترفيهية بعد العَشاء في عصرٍ خلا من المصابيح الكهربائية والتليفزيون والإنترنت.
لا ريب أن كتابة النثر لم تكن شيئًا مجهولًا في زمان هيرودوت؛ حيث استخدم أنكسيمندرس وأنكسيمانس على السواء النثر للتعبير عن أفكارهما، وأودع هيراقليطس عملًا فلسفيًّا منثورًا في معبد أرتميس المهيب في إفسوس، وهو أحد عجائب الدنيا السبع القديمة (أقصد المعبد لا الكتاب). وقرب نهاية القرن السادس الميلادي، بدأ الإغريق يدوِّنون أساطير الماضي العظمى نثرًا، ليصبحوا ما نسمِّيه «جامعي الأساطير»، وكان الخيط الناظم لهذه الأساطير سجلات سلاسل النسب المفصلة التي تتناول الآلهة والأبطال، وبحلول بداية القرن الخامس، كان هناك عدد متداول من هذه السجلات، وأبرزها الذي وضعه هيكاتايوس، الذي تُوفي على الأرجح سنة ميلاد هيرودوت، حيث تتبع في كتابه «علم الأنساب» أنساب العائلات الإغريقية البارزة وصولًا إلى أسلافها الإلهيين، واستخدم تحليلًا عقلانيًّا لتخفيف لهجة الأساطير الشاذة التي صادفها (لكن دون نبذها نبذًا مباشرًا). كذلك استخدم هيكاتايوس أيضًا النثر لتأليف كتابه المعَنْوَن «رحلة حول العالم»، واتسم صراحةً بالتشكك الذي كان يكتسح أيونيا، والذي اشترك معه فيه يقينًا هيرودوت. وتقول إحدى الشذرات التي وصلتنا: «هيكاتايوس الملطيُّ يقول ما يلي: أنا أكتب ما أعتبره صحيحًا؛ لأن قصص الإغريق كثيرة وتبدو لي مضحكة.» ويذكر هيرودوت هيكاتايوس في أكثر من مناسبة ويبدو أنه اعتمد عليه من حين إلى آخَر.
نال النثر في زمان هيرودوت المكانة التي يستحقها، وبالأخص في ديمقراطية أثينا الآخِذة في الازدهار، التي شهدت بالفعل وضع القوانين الأولى نثرًا في أواخر القرن السابع، وسرعان ما أصبحت المهارة في الخطابة الجماهيرية (أمام الحشود وفي المحاكم) تضاهي كرم المحتد والثروة والبسالة في ساحات الوغى. وكان الفلاسفة/الخطباء المتجولون المعروفون باسم السوفسطائيين في المتناول، وكلهم حماسٌ لتدريب الشباب على هذا الفن الذي ينال تقديرًا متزايدًا، وأعني فن الإقناع. ونظرًا لنزوعهم إلى النظر إلى المسائل القديمة من زوايا جديدة (وطرح أسئلة حول أشياء لم يسأل عنها أحدٌ قبلهم قطُّ، على الأقل علانية)، اتهمهم اللائمون بكسب عيشهم بتعليم مراهقين مزهوين بأنفسهم عدم احترام الآلهة والوالدين، لكن الحقيقة أن ما فعلوه كان من نواحٍ كثيرة لا يختلف عمَّا يفعله المعلمون (الصالحون منهم) اليوم؛ وهو تعليم الشباب التشكيك في السلطة وطرح حجج قوية. ولم يقتصر هؤلاء على أثينا في الترويج لبضاعتهم. وعلى الرغم من أن المدن الإغريقية لم تكن كلها ديمقراطيات، فإن روح الحوار المفتوح والتفنيد التي وسمت القرن الخامس تواءمت جيدًا مع الفورة العارمة في التدبُّر الفكري التي ميَّزت القرن السادس لتضع الأساس لنوعية الاستقصاء التحليلي الذي نراه في عمل هيرودوت.
في نهاية المطاف، كان «تاريخ هيرودوت» كتابًا ديمقراطيًّا بعمق، بوجهات نظره الموضوعية المتعددة ودعوته المفتوحة للقرَّاء، كي يتخذوا قراراتهم بأنفسهم ويقفوا دائمًا موقف المقوِّم. وليس ذلك فحسب، فمجرد وجود أشكال ديمقراطية (أو على الأقل غير مَلكية) من الحكم، كان قد خلق عالَمًا يستطيع فيه الإنسان العادي صُنْع التاريخ؛ أي يستطيع فيه الأشخاص أنفسهم الذين يقرءون عمل هيرودوت أو يسمعونه صُنع هذا التاريخ. كان النَّظْم لغة الآلهة، وأما النثر فكان لغة الناس، كان وسيطًا لغويًّا يستطيعون به تحدي الناس الآخرين أو حتى الآلهة ذاتها. ومن الجائز تمامًا أن تكون وجهات النظر الموضوعية المتعددة هذه هي التي تفسِّر ازدياد شعبية هيرودوت في الأزمنة الأخيرة، فبعد أن كان يُعتبَر ذات يوم تافهًا عند مقارنته بثوسيديديس، بنهجه التربوي وجدِّيَّته البالغة، صار «تاريخ هيرودوت» الآن يحظى بالتقدير لانفتاحه على وجهات النظر المتعارضة، ونسبيته الثقافية، واهتمامه بالتاريخ الاجتماعي، واعترافه بوجود نوعين جنسيين. (ويقينًا، لن يكون رد فعل الجميع متطرفًا كرد فعل أستاذة علم المصريات سليمة إكرام التي استغربت فكرة تقديم ثوسيديديس على هيرودوت، وصاحت قائلةً: «حسنًا، إذن فثوسيديديس مؤرِّخ أفضل، لكنه مملٌّ جدًّا ومضجر بشدة؛ أيا إلهي، سأطلق النار على نفسي!»)
وفي حين أن وجود النَّظْم هو الذي يسَّرَ إبداع الملحمتين الهوميريتين، وهما عملان يمكن استظهارهما وغناؤهما أمام جمهور متيَّم، فإن النثر المصحوب بقدر من العبقرية هو الذي أتاح إبداع التاريخ؛ وأعني فتح المجال أمام مركَّب كامل من العلاقات بين السائل والراوية، والمؤلَّف في صورته النهائية، والجمهور. وبالنسبة لمقارعة الحجة بالحجة التي نراها لدى السوفسطائيين، فقد أتاحت نقاشات مجلس أثينا والمحاكم تربة خصبة لتحليل قدر عظيم جدًّا من النظريات والحقائق في سياق أشمل الهموم البشرية. وحتى بعد أن استمعنا بأناة لكل التنبيهات بخصوص سقطات هيرودوت في الحكم على الأشياء، وأرقامه المبالغ فيها، واعتماده على رواة لا يعوَّل عليهم، وحتى بعد أن أُمطرنا مرارًا وتكرارًا بادعاءات بشأن طبيعة عمل ثوسيديديس الأكثر «علميةً» من عمل هيرودوت، وحتى بعد أن استمعنا إلى مزاعم بأن هيرودوت لم يسافر فعلًا على نطاق واسع كما ادَّعَى، ولم يَرَ كل الأشياء التي ادَّعَى أنه رآها رأي العين، فالحقيقة الماثلة أمامنا هي أن هيرودوت — كما هو واضح وضوحًا لا لبس فيه — اخترع كتابة التاريخ. فذات يوم لم تكن هذه الكتابة موجودة، ثم خرجت فجأةً إلى الوجود.
حسنًا، ربما لم يحدث هذا فجأةً تمامًا؛ حيث استغرق تأليف «تاريخ هيرودوت» عقودًا، بل جرى ذلك في غضون جيل تقريبًا. وكان الكتَّاب الأوائل قد حلَّلوا طريقة عمل الكون، ودوَّنوا أسفارهم، واستكشفوا معنى الأساطير، ووضعوا سرودًا للأحداث المحلية الجارية في مكان ما في العالم، لكنهم لم يضفوا من قبلُ محورَ تركيز على عملهم، ولم يصبغوه بالدافعية المليئة بالحماس، واحتوت كتاباتهم التي وصَلَنا قليلٌ منها، بلا شك، كثيرًا من القصص، لكنها ليست قصصًا شكَّلت في مجموعها قصةً كبيرة تفوق مجمل أجزائها حجمًا؛ فكوَّنت صورة بلغت أوجًا يؤثر على حياة كل مستمع وقارئ خطر ببال هيرودوت، وأثَّر في الحقيقة على حياتنا حتى قرننا هذا؛ لأنه من دون الهزيمة المعجزة التي مني بها الفُرْس على أيدي عصبة صغيرة من الدويلات الإغريقية خاضت الحرب لتجنُّب الاستعباد، ما كنَّا لنحصل على معبد البارثينون، ولا عقدة أوديب، ولا سقراط ولا أفلاطون ولا أرسطو. ومن دون انتصار الإغريق، من الصعب أن نتصور تاريخ الفلسفة الغربية، أو تاريخ الفكر السياسي الغربي المتأصل في مفارقة أن الأثينيين هم مَن ابتكروا الديمقراطية، وفي الوقت ذاته خرج من بين ظهرانيهم الرجال أنفسهم الذين رسَّخوا التقليد المناهض للديمقراطية في الفكر السياسي.
لا يمكن أن يكون هيرودوت قد تنبَّأ بمسار الفلسفة الغربية والنظرية السياسية كاملًا، لكنه كان يعرف الفرق بين الشمولية والحرية، ورأى في هزيمة الأولى على يد الثانية موضوعًا جليلًا. وكان نصرًا جليلًا لكن ليس خالصًا فيما يخص الإغريق؛ ذلك لأن الحروب الفارسية مثلما «صنعت» هيرودوت، «صنعت» أيضا أثينا، فحوَّلتها إلى مركز ثقافي متألِّق سيصفه بركليس، أهم رجل دولة فيها، على صفحات عمل ثوسيديديس، بأنه «مدرسة اليونان»، لكنها حولتها أيضًا إلى دولة إمبريالية متزايدة الجشع والتعطش إلى القوة، فاستفزت الإمبراطورية الفارسية على أسوأ نحوٍ. ومثلما انتهت الإلياذة بعدم موت أخيل وإن كان مكتوبًا عليه الموت يقينًا، فإن غمامة الإمبريالية الأثينية تخيم على سرد هيرودوت المصوغ بعناية وتضفي عليه قدرًا كبيرًا من الإثارة، وذلك على نحو ما كان يرمي المؤلف بكل تأكيد.
لم يعش هيرودوت على الحدود بين دويلات المدن الناطقة باليونانية الواقعة شرقي المتوسط والإمبراطورية الفارسية في الأناضول وفي فجر النثر فحسب، بل عاش في منطقة فاصلة أخرى أيضًا؛ عاش في زمن أخذت فيه العقلية القارئة في التنافس مع العقلية السماعية فيما بين طبقات المتعلمين. هذا لا يعني أن الإغريق الذين ارتادوا المدارس قبل القرن الخامس لم يستطيعوا القراءة، لكنهم ربما لم يستخدموا القراءة بدرجة كبيرة في حياتهم، وظل السماع بالنسبة لكثيرين خلال جل القرن الخامس الطريقة الاعتيادية لاستيعاب اللغة، سواء على خشبة المسرح، حيث كانت التراجيديات بلا استثناء منظومة شعرًا، أم الخُطَب الملقاة أمام المجلس التشريعي، والتي كانت تُلقَى نثرًا. لقد قيل بشيء من الإنصاف إن هيرودوت جاء في نهاية تقليد مديد قوامه السماع، وجاء معاصره الأصغر منه سنًّا ثوسيديديس في بداية تقليد قوامه القراءة؛ ذلك هو ثوسيديديس الذي انتقد عمل هيرودوت قائلًا إن عمله (أي ثوسيديديس) لم يؤلَّف من أجل التصفيق بعد تلاوته استعراضيًّا، بل أُلِّف كعمل يُقتنَى لكل الأزمنة. ويمكننا القول إن هيرودوت دوَّن الكلام المنطوق فيما دوَّن ثوسيديديس الفكر، وإن هذا الاختلاف لهو الذي يفسِّر التباين بين سرد هيرودوت المخفَّف الماتع والموضوع بالأسلوب الذي سمَّاه أرسطو «الأسلوب المسترسل» — حيث تنساب الجملة إلى الأخرى انسيابًا طبيعيًّا — ونثر ثوسيديديس المحكم الذي كان بناؤه المحكم — وأحيانًا غير المباشر — مثار يأس كثير من دارِسِي اليونانية على مر العصور.
يثير مصنَّف مؤرخنا، مسموعًا كان أم مقروءًا، سؤالًا حتميًّا: كيف يمكننا الوثوق فيما يقوله أو يكتبه هذا الشخص؟ فلم يكن هناك في الشعر تساؤل حول حجية المبدع. فكان الشاعر يقدم رواية واحدة فقط للأحداث، وعلى الرغم من إقحامه أحاديث في عمله، فقد كان يتحدث في واقع الأمر بصوت واحد، وكان ذلك الصوت في أغلب الأحوال صوت ربة الشعر. فقد استُهِلَّت الإلياذة والأوديسة كلتاهما بمناشدة لربة الشعر؛ إذ يقول الشاعر في مطلع الإلياذة: «غنِّ لي يا ربة الشعر عن غضبة أخيل بن بيليوس …» بينما استهل الشاعر الأوديسة بقوله: «غنِّ لي يا ربة الشعر عن الرجل واسع الحيلة …» وفيما بعدُ، ربما يكون ذلك الصوت صوت الشاعر نفسه، حيث تعلن سافو مثلًا أنه لا يوجد مشهد يساوي في جماله مشهد الحبيب. ولا يسع أحدًا أن يشكِّك فيهم، ولن يقول مرتاب: «هل يمكنك إثبات ذلك؟ وما أدلتك؟» لكن المؤرخين الذين يمكنهم تقديم الأصوات الجدالية في مصادرهم الكثيرة وهي تجادلهم لصياغة صورة متماسكة عن الماضي، يجب أن يبرِّروا ادعاءاتهم بأنهم يعرفون ويفهمون. إذن فالتاريخ ينطوي على تحدٍّ وفرصة على حد سواء، ويجب على المؤرخ جمع مصادره قبل أن يتسنَّى له دمجها، ولجمعها ربما يقرأ الكتب (التي لم يكن متاحًا منها إلا القليل في زمن هيرودوت) ويمحِّص السجلات الرسمية (التي لم يكن يوجد منها الكثير أيضًا)، وإجراء الحوارات مع الرواة، وتدقيق النظر في الأدلة المادية، وفي حالات كثيرة السفر. وما إن يجمع البيانات، يجب عليه بذل جهد في تشكيلها على نحوٍ يشجِّع القارئ (أو المستمع) على الانخراط في النص، على أن يكون هذا دون تشكيك في حجية المؤرخ، ودون نبذ ادعاءات المعرفة التي يدَّعِيها الفنان غير المؤيَّد بإحدى ربات الفنون. ومرة بعد مرة، وإدراكًا منه أنه لا يمكن تصديقه تصديقًا مطلقًا كشاعر، سيكون على هيرودوت أن يقنعنا — بالحجة، أو بالقياس، أو بالاستشهاد بأقوال شهود العيان، أو كلمات الرواة السماعيين — بأنه يعرف ما يتحدث عنه وهو يكتب هذا الجنس الأدبي المتغيِّر الذي نسمِّيه تاريخًا.
وإننا لنود كل الود أن نعرف كيف كتب هيرودوت هذا العمل المتشعب؛ فهل دوَّن ملاحظات أثناء سفره؟ هل أملى على عبد كان يرافقه في أسفاره؟ فقد كانت الكتابة باللغة اليونانية مسألة صعبة، بل وأصعب منها المراجعة، وكانت الكتب في واقع الأمر لفائف طويلة من البردي، وهو مادة غالية وغير عملية كانت تَثْنِي عن تأليف (أو شراء) أعمال طويلة، وربما وُضِع «تاريخ هيرودوت» في ثلاثين لفافة من هذه اللفائف. أما المراجعة، فكانت تمثِّل عقبات لوجستية كبيرة، لكن هيرودوت في حالات كثيرة كان يعلِّق فيما يبدو على ردود الأفعال تجاه عمله، منوِّهًا مثلًا إلى أن بعض الإغريق لم يقتنعوا بادعائه عَقْد دارا، قبل اعتلائه العرش، مناقشة بينه وبين اثنين آخرين من الفرس عن الفضائل النسبية للملكية والأوليجارشية والديمقراطية، لكنه يؤكد أن هذا الحديث دار حقيقةً. وتوحي مثل هذه التعليقات الجانبية بأنه قرأ تجريبيًّا فقرات مختارة في مناسبات مختلفة، وكان على وعي باستقبال الناس المقولاتِ المثيرةَ للجدل. ولم تكن فكرة وجود تاريخ معين «للنشر» مفهومًا ذا معنى في عالم قلَّما كان المرء فيه يطيق شراء كتاب. وقد نُشِر بالفعل هذا العمل في نهاية المطاف، وكان ذلك على الأرجح قبل وفاة هيرودوت بزمن ليس بالطويل، لكن أجزاء منه على الأقل شهدت يقينًا حياةً حافلةً بالإلقاء الشفهي قبل ذلك ببعض الوقت.
هذه بحوث هيرودوت الهاليكارناسوسي، كتبها لئلَّا تُنسَى مآثرُ البشر على مر الوقت، ولئلَّا تُنسَى المُنجزات الرائعة والمذهلة التي اجترح بعضها الإغريق واجترح بعضها الآخَر الأعاجم، وأخيرًا لبيان أسباب النزاع بينهما.
بعبارة أخرى نقول إن دافع هيرودوت كان مزدوجًا؛ تخليد ذكرى المآثر العظيمة، وبيان أسباب الحروب الفارسية. ونظرًا لرغبة هيرودوت ألَّا يخمد ذكر الأشياء العظيمة، يردِّد ما كتبه هوميروس عن الأرستقراطيين في طروادة الذين حاربوا من أجل تخليد ذكراهم، وعندما يقود أوديسيوس هيئةً من المبعوثين إلى خيمة أخيل في الإلياذة، يجد أخيل ممسكًا بقيثارة ويترنم بأمجاد الرجال. لكن رؤية هيرودوت كانت أوسع؛ ذلك أنه سعى إلى تخليد ذكر الأبنية الفخمة والقبور الجليلة والعجائب الطبيعية بالإضافة إلى الأفعال، وكثير ممَّا سعى إلى تخليد ذكره لم يكن من عمل الرجال، بل في الحقيقة من عمل النساء. وعلى الرغم من أن مَن خلفوه مباشرةً لم يبدوا اهتمامًا بالنساء، فإن جهوده من زوايا أخرى كُلِّلت بالنجاح؛ ذلك أنه على الرغم من إشاراته العديدة التي تدل على أنه يفترض أن جمهوره إغريق (مثل «لن أصف البعير؛ لأن الإغريق يعرفون بالفعل هيئة البعير»)، فإن سعة اهتماماته وتعاطفه، وحساسيته تجاه كروب الحالة الإنسانية، أعطت عمله سعة نطاق، وزادت جاذبيته لدى القرَّاء في عوالم ما كان ليحلم بها أبدًا حتى هو نفسه، بانفتاحه على ما هو أجنبي. وليست وحدها أسطورة ثيرموبيلاي الخالدة — التي تُوظَّف في سياقات تتراوح بين تحرير اليونان من الهيمنة التركية إلى مقبرة فرنسية في فيتنام — التي ندين بها ﻟ «تاريخ هيرودوت»؛ حيث سحرت حكايات مثل الأمازونيات، ومغامرات قمبيز في مصر ألباب الأثريين والمستكشفين، والروائيين والأنثروبولوجيين، على مر العصور.
معرفة حدود الحالة الإنسانية. فلا علاقة لها ﺑ «لا تستغل الآخَرين، وكُنْ لطيفًا معهم»، فهذا هراء ذو طابع إنساني مسيحي من كابوشنسكي؛ وسخيف جدًّا. يقول هيرودوت: كلا، لا تظن أنك ستكون سعيدًا إلى الأبد، ولا تضع نفسك فوق الآلهة.
لكن هؤلاء السائرين على الخطى لن يجيبوا عن جميع الأسئلة التي أثيرت حول عمل هيرودوت، ومنها على سبيل المثال: ما مدى دقة تقارير هيرودوت المدهشة عن الكون المترامي الأطراف الذي تناوله في كتابه؟ وهذا سؤال سنعود إليه لاحقًا.