هيرودوت والآلهة
ظل الإيمان بأن هناك «شيئًا موجودًا» خارج نطاق ما هو بشري محض وطبيعي محض قائمًا على مر التاريخ؛ فقد كان الدين في أغلب الأحوال من العموميات الثقافية عبر الزمان والمكان، على الرغم من أقلية عنيدة من المشككين، بعضها سرِّيٌّ وبعضها الآخَر علنيٌّ. ويبدو الإيمان بالقوى فوق البشرية — أو الخوف منها — وبقدرتها على تشكيل الأحداث واسع الانتشار، وقد صُمِّمتْ شبكة واسعة من المنظومات لتحقيق الوصول إلى خواطرها وأمنياتها بالصلاة، أو بتأويل أشياء كالطوالع والأحلام ونبوءات الآلهة، أو بالاثنين معًا.
وسوف نكتفي بالنظر في نبوءات الآلهة. أقام المصريون معبدًا في بيت وادجيت حتى قبل تأسيس الدولة المصرية في أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد، وفي زمان هيرودوت، كان هذا الموقع يُعرَف باسم بوتو، وكانت كاهنته ما زالت محل تبجيل كبير. وكان الصينيون الذين عاشوا إبَّان أسرة شانج يلتمسون الإرشاد والهداية من «صدَف الكهان». وأقام شعب مكسيكا مدينة تينوتشتيتلان في الموقع الذي تحتله الآن مدينة مكسيكو سيتي استنادًا إلى إحدى نبوءات الآلهة. وفي منطقة الهيمالايا، ما زال العرَّافون يلعبون دورًا مهمًّا في اتخاذ القرارات الحكومية ويوفرون أيضًا المعلومات الاستخباراتية، وكثيرًا ما يستشير الدلاي لاما عرَّافَ التبت الرسمي، كاهن نيتشونج. بل إن بعض الأنفس الشجاعة تتوسل إلى نوع جديد من العرَّافين، حيث يُخضعون أنفسهم لاختبارات وراثية لا تخبرهم بعمرهم المتوقع فحسب، بل أيضًا بالمرض الذي يُرجَّح أن يودي بحياتهم في النهاية.
تُبرِز مساحةٌ كبيرة من «تاريخ هيرودوت» أهميةَ استيعاب تصريحات العرَّافين وتحليلها بتواضع وحذر. ولا يدهشنا أن هيرودوت يستخدم الطريقة التي يستجيب بها مَن جاءوا في كتابه للعلامات الإلهية لبيان كلٍّ من شخصية أفراد معينين والطبيعة الإنسانية بشكل أعم، ولقول شيء عمَّا يقرر مسارَ التاريخ وما لا يقرره.
تأمَّلْ كرويسوس، الذي عندما تقلقه قوة قوروش المتنامية يرسل مبعوثين إلى تشكيلة واسعة من العرَّافين في كل أنحاء اليونان وإلى كاهن آمون في ليبيا، مختبرًا إياهم ليكتشف أيهم يعرف ماذا يفعل في اليوم المائة من انطلاق الرجال في رحلتهم. وعندما تصيب كاهنة أبولو في دلفي كبد الحقيقة — وكان هو على وجه التحديد يسلق لحم حمل وسلحفاة في قِدر من البرونز — يقرِّر أن يضع ثقته في دلفي ويقدِّم قرابين سخية هناك. وعندما نُصِح بضرورة تبيُّن أي الدول الإغريقية ستكون أقوى حلفاء له، وأُوعِز إليه بأنه إذا خاض حربًا مع الفرس فسوف يدمِّر إمبراطورية قوية، يشرع في استقصاء للسياسة الإغريقية (وهو ما يتيح لهيرودوت فاتحة طبيعية لبعض الخلفية عن أثينا وإسبرطة). كل شيء على ما يرام حتى تلك المرحلة، وكرويسوس يتصرَّف مثل مستقصٍ هيرودوتيٍّ بكل معنى الكلمة، لكن في خضم لهفته على هزيمة قوروش، فاته أن يسأل أي إمبراطورية سيدمِّر.
يمضي كرويسوس — غير راغب في التخلي عن مسعاه بينما هو في الصدارة كما قد يبدو — ليسأل عمَّا إذا كان عهده سيدوم طويلًا، فترد الكاهنة بقولها إنه سيكون آمِنًا حتى يتربَّع بغل (والكلمة ذاتها بمعنى هجين) على عرش فارس. وهناك كثير من السخرية في استخدام هيرودوت النبوءات؛ فالجمهور يعرف أن ليديا ستسقط في يد قوروش، لكن كرويسوس لا يعرف، وهو — غير عارفٍ بمسرحية ماكبث — لا يدرك أن ما يُقدَّم له ضمانة زائفة. وكحال الملك الاسكتلندي الذي تروقه النبوءة التي تقول إنه لن يلحق به أذى شخص ولدته امرأة، يُسرُّ كرويسوس برد الكاهنة؛ إذ كيف يمكن لبغل أن يحكم إمبراطورية؟ لكن كما سيُقتَل ماكبث على يد مكدوف، «الذي أُخرِج من رحم أمه مبتسرًا»، يُهزَم كرويسوس على يد قوروش، وهو «هجين» نصف ميدي ونصف فارسي. ففكرة «النبوءة الخادعة» الشائعة تفسد حياة كرويسوس ومملكته؛ فعلى الرغم من تحرياته الشاملة، فإن إغفاله مرتين تحري العناية الواجبة — التحقُّق أي الإمبراطوريتين سيدمِّر، وتحري إمكانية أن تكون كلمة بغل مستعملة استعمالًا مجازيًّا — كان فيه نهايته.
وهناك المزيد. كانت الكاهنة قد حذرت سلف كرويسوس وقاتل مليكه جيجس من أن سلالته لن تدوم إلا إلى الجيل الخامس. وبإغفاله هذا الموضوع، رتَّب هيرودوت ببراعة لكي ينساه قرَّاؤه، تمامًا مثلما نسيه كرويسوس. لكن سقوط الملك في نهاية المطاف محتوم على نحو مزدوج؛ إذ كان كرويسوس غير دقيق في تفسيره للنبوءة، لكنه كان أيضًا ضحية قدر لا يرحم. وليس من قبيل المصادفة أن «تاريخ هيرودوت» وُضِع خلال أوج المأساة الإغريقية التي حام فيها القدر والإرادة الحرة حول أحدهما الآخَر مع حصول نتائج كارثية، والتي كانت على الرغم من ذلك مثقلة بالسخرية أكثر من كتاب هيرودوت.
يُكشَف لنا أيضًا عن شخصيات أساسية في معارك الحروب الفارسية من خلال الطريقة التي تستجيب بها لنبوءات الآلهة؛ إذ يؤكِّد هيرودوت أنه بسبب نبوءة تقول إنه لا يمكن تحقيق نصر إغريقي في ثيرموبيلاي إلا بموت ملك إسبرطي، صرف الملك ليونيداس السواد الأعظم من قواته. وهكذا تُصوَّر الحملة كتضحية طوعية لا هزيمة في معركة، وتُضفَى صفات البطولة على ليونيداس. ومن جانبه، يُصوَّر الأثيني تيميستوكليس كمستجيب لنبوءة إلهية، لا بالتضحية بالنفس بل بالحنكة والمهارة السياسية؛ إذ عندما تتنبَّأ عرَّافة دلفي بأن جدارًا خشبيًّا سيساعد الأثينيين، فإن تيميستوكليس هو الذي يتمكَّن من إدارة دفة الحديث عن النبوءة نحو اعتبار أن الجدار الخشبي لا يعني الأكروبوليس الحصين بل الأسطول، فيوجِّه تيميستوكليس وقدراتُه على الإقناع المفاوضاتِ بين الدول الإغريقية التي تتسم بالحدة أحيانًا، فيطرح — وهو المفاوِض الصعب دائمًا — نبوءات إلهية (حقيقية أو مختلَقة) تتنبَّأ بأن الأثينيين سينتقلون يومًا ما إلى إيطاليا؛ ليعضد تهديده بسحب الأسطول الأثيني إذا رفض الآخرون القتال في سلاميس. وعندما يترنح الائتلاف، توقع حنكته وجرأته الفرس في شَرَك شنِّ الهجوم في الوقت الذي تكون فيه الفرق العسكرية الإغريقية في خطر التفتت والتبعثر عائدةً إلى ديارها، فيلي ذلك انتصار إغريقي حاسم.
ما كان سرد هيرودوت ليكتمل دون المحاولات العقيمة لإفشال نبوءات العرافين؛ إذ يتبيَّن لنا أن كورنثة كانت تخضع لحكم أوليجارشيَّة قليلة العدد، قوامها عشيرة واحدة هي أهل باخياس، الذين لم يتزاوجوا إلا فيما بينهم. ولمَّا لم يجد أحدهم شخصًا يرغب في الزواج من ابنته الكسيحة لابدا، زوَّجها رجلًا يُدعَى إيتيون من قرية بترا، لكن الزواج لم يثمر عن أطفال. وعندما استشار إيتيون المغموم كاهنة دلفي بشأن فُرَص إنجابه وريثًا، قالت له إن لابدا حبلى في الحقيقة بطفل سيسقط على الباخياسيين كحجر رحى ويجلب العدل إلى كورنثة، فشرع الباخياسيون، الذين كان لديهم بالفعل من الصعوبات ما يكفيهم، في التخلص من وليد لابدا. والحكاية الرائعة التي يحكيها هيرودوت، أو بالأحرى يرويها على لسان شخص يُدعَى سوسيكليس الكورنثي، واحدة من أبرز الحكايات في «تاريخ هيرودوت».
يصل الجنود إلى بترا رغبةً منهم — كما يقولون — في تقديم التحية والاحترام للوليد بدافع محبتهم إيتيون، لكنهم في الحقيقة ينتوون قتله. كان المنتظَر من أول رجل يمسك بالطفل أن يقذفه بعنف على الأرض، لكن شاءت المصادفة الإلهية أن ينظر الوليد عاليًا إلى الرجل الذي ينتوي قتله ويبتسم، وهكذا يتناوب الجنود حمل الطفل مُعِيدين إياه في النهاية إلى أمه دون أن يقدر أيٌّ منهم على قتله.
عاد الجنود لمحاولة ثانية خشية مواجهة سادتهم الباخياسيين، لكنها تخفق هذه المرة لسبب مختلف؛ إذ فطنت لابدا — وهي التي لم تكن حمقاء — إلى نواياهم، فعمدت إلى إخفاء الطفل في خزانة (تعني باليونانية كيبسيلوس)، وبعد أن يعجز الجنود عن العثور على الطفل الذي بقي هادئًا على نحوٍ خارق للعادة، يرحلون، فتسمي لابدا ابنها «كيبسيلوس» تيمنًا بالخزانة، ويكبر كيبسيلوس ليطيح بالأرستقراطية الباخياسية ويصبح حاكم كورنثة (أما كيف بدأت هذه القصة غير المعقولة في كورنثة فلا يسع المرء إلا أن يتخيل؛ فربما كان الهدف منها تفسير اسم كيبسيلوس الغريب).
وهكذا يدمج هيرودوت نبوءات العرافين التي كانت واسعة الانتشار في الثقافة اليونانية في سرده لعدة أغراض؛ فتفاعُل كرويسوس مع دلفي يذكِّر القارئ بقوة القدر ويكشف عدم قدرة الملك على التعامل مع أقوال العرَّافة بحدة الذهن المطلوبة، ومثلما رفض حكمة سولون غير المرغوب فيها بلا تمحيص، يقبل الأنباء التي يريد سماعها بلا تمحيص. أولًا: كان كرويسوس قد اختبر العرَّافة بأن سألها عمَّا كان يفعله هناك في ليديا، فنجحت، ثم تختبر العرَّافةُ كرويسوس فيفشل، والنتيجة هي اتساع إمبراطورية قوروش. ويبلور تصميمُ ليونيداس على تحقيق النبوءة التي تنبَّأت بموته البطولةَ المتأصِّلة في الشخصية الإسبرطية، ويستحضر بطولة إلياذة هوميروس، كما أن المعركة التي تدور رحاها على جثته تستحضر المعركة التي تدور رحاها على جثة باتروكولوس رفيق أخيل. وفي الوقت نفسه، يُبرِز توجُّهه الوطني وميله إلى التضحية تباينًا مقصودًا مع العنصر الشديد الشخصية الذي كان يدفع أبطال هوميروس، الذين كانوا ينشدون المجد لأنفسهم لا لمدنهم. وقدرة تيميستوكليس لا على «التنبؤ» بمعنى نبوءة «الجدار الخشبي» فحسب، بل على إقناع الأثينيين المتردِّدين بأنه على صواب، تسلِّط الضوء لا على شخصيته فحسب بل على الطبيعة الشَّرْطية للتاريخ؛ إذ لو لم يكن الأثينيون محظوظين بما يكفي ليكون بينهم تيميستوكليس، لربما لم يعقدوا فعلًا أملهم على الأسطول، ولمكثوا في أثينا ولذُبحوا على أيدي الفرس. فالتاريخ — كما كتب العميد بحري صمويل موريسون — «هو كذلك، غير مضمون النتائج.» ويُسلَّط الضوء على طبيعة الأوليجارشية القاتلة من خلال فرق الإعدام التي أرسلها الباخياسيون للتخلُّص من وليد لابدا، لكن دهاء لابدا الأمومي يضاهي دهاء سينو، الجارية التي أنقذت قوروش الوليد ونشَّأته حتى صار رجلًا، وها هي مرة أخرى امرأة ترقى إلى مستوى الحدث عندما تواجه العنف الذكوري. وعلى الرغم من أن طفلها يكبر ليطيح بعائلتها، فهو على الأقل حي ليفعل ذلك.
إذن فهيرودوت يستخدم الدين في خدمة أجندته السردية. لكن ماذا عن عقائده هو؟ ما الدور الذي نسبه هيرودوت للآلهة في تشكيل الأحداث؟ كانت مسألة معتقدات هيرودوت الدينية موضع جدال أكاديمي عنيف نوعًا ما، حيث يؤكد البعض على نزعة هيرودوت الشكوكية، ويعتبره آخرون إغريقيًّا تقليديًّا من إغريقيي عصره، ربما خاطر بركوب البحر لإشباع فضوله بشأن العالم البشري، لكنه كان يقبل التعاليم التقليدية حول آلهة جبل الأولمب قبولًا مطلقًا، وبين هؤلاء وأولئك يوجد مَن يرونه وسطًا بين هذا وذاك.
ثمة نقطة جيدة للدخول في هذا الجدال، ربما تتمثل في توضيح ما لم يكنْه إحساس هيرودوت بالآلهة؛ فالآلهة المتنازعة المتضاربة المصوَّرة بصفات بشرية التي نراها مثلًا في الإلياذة، حيث تُجرَح أفروديت في رسغها وتذهب إلى زيوس باكية من هذه الإصابة، غائبةٌ تمامًا عن «تاريخ هيرودوت». وَلْتتأمَّلِ الطاعون الذي يصيب الإغريق في مستهل القصيدة؛ فعندما يرفض القائد العام للإغريق قبول فدية مقابل سَبِيَّة حرب تصادَفَ أن كان أبوها كاهنَ أبولو، يذهب الكاهن إلى أبولو ويطلب منه معاقبة الإغريق، فيوافِق الرب:
إن لدى الرب قلبًا وكتفين وقوسًا وكنانة وسهامًا! وهو يقعد! هذا الإله الهوميري بعيد كل البعد عمَّا نجده في عمل هيرودوت.
في الحقيقة، نادرًا ما يصرِّح هيرودوت بإيمانه بإله معين من آلهة الأولمب، وهو أكثر ميلًا بكثير إلى الحديث عن «الآلهة» كقوة هادية في الشئون الإنسانية منه إلى تحليل أهم المشاركين في الحروب الفارسية باعتبارهم يقاتلون على تضاريس أرضية، فيما تخطط آلهة الأولمب المشاكسون في السماء لقتلهم على سبيل الرياضة. فما نجده في «تاريخ هيرودوت» ككل هو قوة متسامية غير شبيهة بالبشر تمارِس عملها. نعم، كثيرًا ما يُذكَر «الإله»، لكن دون تحديد أي إله بوجه عام، كما يتحدث هيرودوت أيضًا عن المصادفة الإلهية وعن التنبؤ وعن العناية الإلهية. ولم يكن هيرودوت منقطع النظير في توجُّهه، فأسلوبه في تناول «تلك القوة الموجودة هناك» يذكِّرنا بزعم زينوفان أن «هناك إلهًا واحدًا، فوق الآلهة وأعظم الرجال، ولا يُشبِه البشر بأي حال، جسدًا وعقلًا.»
إذن، ما مجال الإله المتسامي في «تاريخ هيرودوت»؟ بادئ ذي بدء، يكاد الإله (لكن ليس بالكلية) يعمل كقوة من قوى الطبيعة للحفاظ على التوازن. فلماذا توجد أُسد قليلة لكن توجد فيما يبدو أرانب لا حصر لها؟ إن هيرودوت لديه إجابة: بصيرة الإله في حكمته جعلت المخلوقات الوديعة واللذيذة كثيرة النسل، بحيث لا يفنى نوعها نتيجة افتراس أفراده، في حين أن الحيوانات الوحشية الضارية تنتج ذرية قليلة. فالأرانب البرية على سبيل المثال هي الحيوانات الوحيدة التي يمكنها أن تحبل ثانية وهي حبلى، بحيث تحمل الأنثى الواحدة في رحمها أجِنَّة في مراحل متفاوتة من النمو، بعضها أملس، وبعضها مكسوٌّ بالفراء، وبعضها في طور التكوين (غير صحيح، ﻓ «الحمل على الحمل» يمكن في الحقيقة أن يحدث لدى الأرانب، لكن المواليد تصل في مرحلة النمو ذاتها). من ناحيةٍ أخرى، لا تلد اللبؤة إلا شبلًا واحدًا في العمر؛ لأن براثن الشبل الحادة تدمِّر الرحم أثناء تحرُّك الجنين قبل مولده (مرة أخرى أقول كلا، وهذا أيضًا منطق مغلوط؛ فوفقًا لهذا الاستنتاج كانت الأسود ستنقرض قبل زمان هيرودوت بفترة طويلة!) هذا النوع من التوازن يظهر أيضًا فيما يتعلق بمعارك الحروب الفارسية ذاتها، حيث يستحضر هيرودوت الإله بصفته مصدر عاصفة تهب قبالة جزيرة وابية، وتدفع عددًا كبيرًا من سفن الفرس إلى الارتطام بالساحل الصخري في الظلام. وهو يقول إن هذا من «فعل الإله» لتقليص ميزة الفرس العددية في البحر، وموازنة التفاوت الهائل بين أعداد الإغريق والفرس. ليس من الواضح أن إلهًا إغريقيًّا معينًا مقصود هنا، ويبدو أن الهدف من وراء عدم تعيين إله هو الوصول إلى «معركة عادلة». وهكذا يحض ملتيادس الأثينيين على الهجوم دون إبطاء في سهل ماراثون، فيقول: «يمكننا الفوز في هذه المعركة إذا كانت الآلهة منصفة.» (والمعنى حرفيًّا: «إذا وزَّعَتِ الآلهةُ الأشياءَ بالتساوي».)
يتحرَّك الإله أيضًا لعقاب العجرفة والشطط. فهيرودوت يبدي سروره دون مواربة بتسجيل النهاية البشعة للملكة الإغريقية فرتيما التي جلبت غضب «الآلهة» (دون تسمية) بنسبها لنفسها انتقامًا لا يجوز إلا للآلهة؛ فعندما قُتِل ابنها أركيسيلاوس، ملك قورينا بشمال أفريقيا، في بلدة برقة، خوزقت فرتيما مَن اعتبرتهم مسئولين عن الفعلة على مسافات على امتداد أسوار المدينة بكاملها، ولم يَكْفِها هذا العمل الوحشي، إذ أمرت أيضًا بتقطيع أثداء زوجاتهم وزيَّنت بها الأسوار. لكن نهايتها لم تكن نهاية سعيدة؛ لأنها ماتت ميتة بشعة بعد ذلك مباشرةً، حيث أكلت الديدان جسدها وهي حية، «كما لو أن الغرض أن يبيِّن للناس أن الشطط في الانتقام يجلب سخط الآلهة.»
يمكن أن يحذِّر الإله من بلاءٍ سيأتي، لكن لا يكون التحذير دائمًا على نحوٍ يمكِّن المحذَّرين من تجنُّب ما يخبِّئه لهم القدر؛ فالناس — كما يقول هيرودوت — يتلقَّون بوجه عام علامةً على المصائب التي ستحل، مثل العلامات التي تلقَّاها شعب خيوس نذيرًا بهزيمتهم على أيدي هيستيايوس أثناء التمرد الأيوني؛ إذ من بين ١٠٠ شاب أرسلهم الخيوسيون إلى دلفي، لم يَعُدْ إلا اثنان، ومات الثمانية والتسعون الآخرون نتيجة وباء. وفي الوقت نفسه تقريبًا، وبينما كان ١٢٠ صبيًّا يتعلمون الألفبائية، خر عليهم السقف فقتلهم جميعًا إلا واحدًا؛ فهذه العلامات التحذيرية كان «الإله» قد أراهم إياها. فالإله يعرف ما يخبِّئه المستقبل، والبشر ليسوا دائمًا مسيطرين على أقدارهم.
باغتهم المد الذي تلا ذلك، والذي كان مرتفعًا على غير العادة، وفي الحقيقة كان — وفقًا لشهود العيان — أعلى من ذي قبلُ، على الرغم من أن ارتفاع المد ليس بمستغرَب هناك. فغرق مَن لا يستطيعون العوم، ومَن يستطيعون العوم قتلهم البوتيديون الذين لاحقوهم في قوارب. ويعزو البوتيديون هذا المد بالغ الارتفاع والكارثة التي حلَّتْ بالفرس إلى حقيقة أن الرجال الذين ماتوا هم أنفسهم الذين دنَّسوا من قبلُ معبدَ بوسيدون وتمثالَه المنتصب خارج البلدة مباشرةً.
لم يكن البوتيديون وحدهم الذين يعتقدون ذلك؛ إذ يكتب هيرودوت قائلًا: «أنا شخصيًّا أعتقد أن تفسيرهم هو التفسير الصحيح.»
في النهاية، اختُزِل الانتصار الإغريقي الذي شكَّل المسار المستقبلي للتاريخ إلى مواجهة بين الأوتوقراطي خشایارشا — وهو رجل منفصل عن الواقع، ظل دائمًا يرفض النصائح الصائبة واستحال إقناعه — وتيميستوكليس الذي — لكونه مواطنًا في ظل ديمقراطية — برع في الإقناع، ودائمًا ما كان يقدِّم مشورة صائبة. إذن ألَمْ يعتقد هيرودوت أن الإله لعب دورًا في نتيجة الحرب؟
لسنا نحن الذين اجترحنا هذه المأثرة، بل الآلهة والأبطال الذين ضنوا على ذلك الرجل — الذي هو فوق ذلك خبيث وأثيم — أن يحكم آسيا وأوروبا.
سيكون المرء يقينًا على صواب في قوله إن الأثينيين أنقذوا اليونان … إن الأثينيين هم — من بعد الآلهة — الذين دحروا ملك فارس.
يسعى تيميستوكليس إلى التزلُّف إلى الأثينيين بمظاهر التُّقَى، مصوِّرًا هزيمة خشایارشا كعقاب إلهي على الشطط في العجرفة، وعازيًا الانتصارات الإغريقية لا إلى الآلهة فحسب، بل إلى أنصاف الآلهة التي عبدها الإغريق أيضًا، وهم الذين يسمون «الأبطال». على النقيض من ذلك، يدفن هيرودوت إشارته التي تكاد تكون عفوية إلى الآلهة في تحليل موضوعي مفصَّل للحملة. وفي النهاية، يبدي الأثينيون بطولةً في ماراثون، ويبدي الإسبرطيون بطولةً في ثيرموبيلاي، وتتغلب استراتيجيات تيميستوكليس في سلاميس، ويضع مجهودٌ شاملٌ في بلاتايا وميكالي نهايةً للطموحات الفارسية أخيرًا وإلى الأبد. ولا شك أن الآلهة حاضرة في «تاريخ هيرودوت»، لكن البُعْد البشري هو الذي يوليه هيرودوت الصدارة.
قالوا إنهم رأوا فردَيْ قوات مشاة ثقيلة عملاقين يفوقان أي رجل طولًا يطاردانهم ويقتِّلانهم. ووفقًا لسكان دلفي، كان هذان الشخصان فيلاكوس وأتونوس، وهما بطلان محليان لكلِّ منهما مزار مقدَّس بالقرب من المعبد.
حدثت لهم معجزات أعظم حتى من التي قصصتها حالًا؛ شيء معجز تمامًا أن تنتقل الأسلحة الحربية من تلقاء نفسها، فتُرَى على الأرض خارج المعبد، لكن ما حدث بعد ذلك هو يقينًا أحد أكثر الأشياء التي عرفتها على الإطلاق إثارةً للدهشة. فبمجرد وصول الفرس إلى معبد أثينا بروناي، نزلت عليهم الصواعق من السماء، وانفلق جلمودَا صخرٍ عظيمان عن برناسوس وسقَطَا بينهم، وتهشَّمَا محدثين جلبة هائلة، فقتلا عددًا كبيرًا، فيما سُمعت في الوقت نفسه صيحة قتال من داخل المعبد … وكانت الصخور التي سقطت من برناسوس لا تزال هناك في زمني.
في حين أن هيرودوت لا يعزو هذه الأحداث المذهلة صراحة إلى إله معين — مثل أبولو (بفضل دلفي) أو أثينا (بفضل المعبد) — نُترك على الرغم من ذلك ولدينا انطباع عن رجل يخشى الإله، ويجدر بنا أن نتجنب حصره تمامًا في المعسكر الشكوكيِّ دون أي فرصة للفكاك.