هيرودوت المؤرِّخ
إلى الآن تحدَّثنا عن القصص التي أوردها هيرودوت في عمله. لكن كفانا من القصص؛ إلى متى سنتجاهل السؤال الواضح وضوح الشمس:
هل يستحق هيرودوت في واقع الأمر لقب مؤرِّخ الذي أسبغته عليه بكل سرور؟
فهل ينتمي المؤرخون حقًّا إلى هذه القائمة؟
يقول أشد نقاد هيرودوت: كلا. ويصرخون قائلين: أَلَا ترون؟ كل هذه الاستشهادات بالمصادر — «أخبرني الكهنة»، «يقول المقدونيون»، «هذه هي رواية أهل كريت … لكن الكاريون يختلفون معهم» … إلخ — وهذا الادعاء بشهادات شهود العيان، أليس هذا ما كان سيقوله المرء «لو كان مختلقًا الأمر برمته»؟ مؤكدين أن هيرودوت لم يسافر على نطاق واسع، بل اعتمد بالأحرى على روايات الآخرين، وعندما لا يجد هذه الروايات — كما كان الحال عادةً — كان يختلقها ببساطة. هذه الادعاءات من أنواع مختلفة؛ إذ يؤكِّد بعض الأكاديميين أن هيرودوت يكذب بتبجُّح، محاولًا تضليل جمهوره، فيما يجادل آخرون بأنه كان يكتب في إطار لون أدبي خيالي معروف جيدًا، وأن معاصريه لم يخطر لهم ببال أننا نحن المحدثين سنخضع حتى الحكايات الفولكلورية المحضة الواردة في «تاريخ هيرودوت» إلى المعيار الإثباتي الذي لم يكن قد تطوَّرَ بعدُ. فكيف يمكننا التعامل مع هذه الادعاءات؟
يقول هيرودوت فعلًا إنه سافر على نطاق واسع، ولا تَدَعُ أوصافه المفصلة للقرابين المقدَّمة في دلفي في برِّ اليونان الرئيس وملطية في أيونيا، إلا مجالًا قليلًا للشك في أنه رآها رأي العين، لكنه يذكر صراحة أيضًا أنه سافر جنوبًا حتى جزيرة إلفنتين عند الجندل الأول بنهر النيل، وشمالًا حتى منطقة البحر الأسود أثناء استقصائه السكيث، وكذلك إلى صُور في فينيقيا. وهو يقينًا يريد منَّا، على نحوٍ أقل صراحة، أن نصدق أنه زار بابل وقورينا في ليبيا، فهل يمكننا التأكُّد من أنه سافر فعلًا على هذا النطاق الواسع؟
لو أننا سنكون أمناء تمامًا مع أنفسنا، فلا بد أن نعترف بأننا لا يمكننا ذلك. ربما حصل هيرودوت في بعض الحالات على معلومات من أحد السكان المحليين ممَّن رحلوا عن موطنهم، أو زائر سابق، أو نص مكتوب، بدلًا من ذهابه شخصيًّا كما يوحي في بعض الحالات أو يصر في بعضها الآخَر. وثمة شذرة من عمل هيكاتايوس تبيِّن أنه كان مصدر وصف هيرودوت البائس لفرس النهر، الذي له شعر في العنق وذيل حصان، فليس هيرودوت وحده الذي لم يَرَ فرس نهر، بل الظاهر أن هيكاتايوس هو الآخَر لم يره! ويجب أن نعترف أيضًا أن بعضًا من الأشياء التي يقولها تستعصي على التصديق، وهناك مثالان يقدِّمان أنواعًا مختلفة من التحديات؛ فكلٌّ من المصريين والعرب، حسبما ذكر، يقولون إن أبا منجل يحظى بإجلال كبير في مصر نظرًا للخدمة التي يسديها بقتله الثعابين المجنحة التي تطير من شبه الجزيرة العربية، وليس هذا فحسب؛ إذ يروي أنه رأى بنفسه الهياكل العظمية للثعابين الطائرة بأعداد لا تُحصَى. وهذا مستحيل، لأنه لا توجد الآن ثعابين مجنحة، كما لم تكن موجودة في زمان هيرودوت، فما الذي يُحتمَل أن يكون قد رآه واشتبه عليه فظنه هياكل عظمية لأفاعٍ مجنحة؟ ليس واضحًا، وقد استغل منتقدوه هذا كدليل مادي على تدليسه. ويدَّعِي آخرون أن النص الإغريقي يمكن تأويله بحيث يعني «رفات» لا هياكل عظمية، وأنه ربما كان يعني الجراد، ويظل هناك فريق ثالث يعتبر هذا لغزًا لم يُحَل بعدُ. ثم هناك حالة ميليس والأسد؛ فهيرودوت يحكي لنا أنه قيل لميليس، وهو أحد ملوك سارديس، إن الأعداء لن يستولوا على المدينة أبدًا لو حُمِل الأسد الذي أنجبته له محظيته ودير به حول أسوارها، لذا يأمر، منصاعًا، بحمل الأسد والدوران به حول التحصينات، ما عدا بقعة واحدة اعتبر انحدارها الحاد كافيًا للدفاع عنها، وعند هذه البقعة المنحدرة بالضبط استولى رجال قوروش فيما بعدُ على المدينة عندما صار كرويسوس ملكًا.
أسد ولدته محظية! يا لها من وصفة شائقة للنجاح: «خذ الأسد الذي أنجبته محظيتك و…» هذا يقينًا مثار بلبلة! ولعل هذه المقولة العابرة تجعلنا — أكثر من أي نص آخَر في «تاريخ هيرودوت» — نريد زيارة هيرودوت في العالم الآخر، وسؤاله عمَّا كان يجول بباله عندما كتب هذه الكلمات، التي رواها على لسانه هو شخصيًّا من دون أيٍّ من عبارات مثل «يُقال إن …» أو «يزعم شعب سارديس». فهل لو فعلنا، سيجيبنا بغمزة من عينه؟
دعونا نلعب دور محامي الشيطان ونسأل كيف أمكن لهيرودوت أن يعرف أي شيء أصلًا عن مادته العلمية، من حيث تعلقها بأزمنة وأمكنة بعيدة عن عالمه؛ فلم يكن يجيد أي لغة غير لغته، وربما كان رواته من السكان المحليين جهلة، (أو عابثين، كأن يقول أحدهم: «لن يخطر ببالك قطُّ ما الحيلة التي انطلت على الرجل الإغريقي اليوم!») والتراث المسموع لا يُعوَّل عليه، ولا سيما بعد الجيل الثالث؛ فقدر كبير مما يقول يبدو مشكوكًا فيه بالنسبة لنا، فهو يبالغ كثيرًا في تقدير حجم جيش خشایارشا، فقوامه في البداية ٢٣١٧٦١٠ رجال، ثم ٢٦٤١٦١٠ بعد انضمام حلفاء إليه في طريقه، وأخيرًا مجموعه الكلي ٥٢٨٣٢٢٠ فردًا، بحساب العبيد وأتباع المعسكر وطواقم قوارب الإمدادات وغيرها من المركبات التي انطلقت مع الحملة. وبحساب هيرودوت، بينما كان طليعة الجنود يصلون إلى ثيرموبيلاي، كان أفراد المؤخرة ينطلقون لتوهم من سوسة، لقد شربوا أنهارًا حتى جَفَّتْ وهم في طريقهم، فجيش خشایارشا ليس فقط أكبر شيء في «تاريخ هيرودوت»، بل إنه الشيء الذي يعتبر حجمه السمة المحدِّدة للكتاب بأكمله. وبالنسبة لانقضاضة ماراثون الشهيرة، فإن التجارب التي أُجرِيت في جامعة بنسلفانيا الحكومية بالولايات المتحدة تشير إلى أنه لا يستطيع أحد العدو لمسافة ميل مرتديًا درع قوات المشاة الثقيلة. وبخصوص أريون، لماذا اختلق كل من الكورنثيين وأهل ليسبوس القصة ذاتها عن إنقاذ الدلفين له؟ كذلك فإن الأسماء الفارسية لم تكن كلها تنتهي بحرف «س» كما زعم هيرودوت. وتُظهِر السجلات الهيروغليفية أنه لم يَمُتْ أي عجل أبيس سنة وصول قمبيز إلى ممفيس، ويبدو أن هيرودوت يستخدم عادات السكيث في تبيان التضاد بينهم وبين الإغريق. أفلا نتساءل حينئذٍ عمَّا إذا كان ما يقوله عنهم صحيحًا أم لا؟ فهل يقينًا يصعب تصديق ما قاله عن ذلك النمل المنقِّب عن الذهب في الهند؟ كما لم يشتمل النُّصب التذكاري الذي كُرِّس في دلفي بعد انتصار بلاتايا على نقش فوق الحامل الثلاثي، كما يقول هيرودوت، بل بالأحرى كان النقش فوق القاعدة، وهو لم يكن يتألف من أفعى لها ثلاثة رءوس، كما جاء في «تاريخ هيرودوت»، بل بالأحرى من ثلاثة ثعابين متضافرة لكل منها رأسه، ومع ذلك يدَّعِي هيرودوت أن لديه دراية كبيرة بالقرابين في دلفي؛ فهل حقًّا ليس على دراية بها من الأساس؟ وبكل تأكيد، سيكون لنا تحفُّظات في الحكم على حكاية رامبسينيتوس.
تقع هذه الأشياء التي ظاهرها أكاذيب ضمن فئات عديدة؛ فأعداد قوات خشایارشا المضخَّمة ربما كانت خطأ بسيطًا، فربما خلط هيرودوت بين رقم الألف الفارسي ورقم العشرة آلاف، أو بدلًا من ذلك ربما يكون قد بالغ ليجعل انتصار الإغريق أعظم شأنًا، لكن من المحتمل أيضًا أنه كان يفتقر إلى فهم الأرقام الكبيرة. أما بالنسبة للانقضاضة المزعومة لمسافة ميل من جانب الأثينيين في ماراثون، فمن السهل أن نرى كيف كان يمكن أن يتذكرها الجنود على هذا النحو — فالمهام العسيرة غالبًا ما تبدو أكثر حضورًا في الذاكرة — بل ومن الأسهل أن نرى كيف أنهم ربما بالغوا على سبيل التباهي في سرد تفاصيل انتصارهم المذهل. وفيما يخص أريون، فقد كان هناك مؤمنون بمَن يركبون الدلافين في كلٍّ من كورنثة وميثيمنا، وهي مدينة كبيرة في جزيرة ليسبوس، وكذلك في تايناروم، وهي النقطة الواقعة في بيلوبونيز التي قيل إن الدلفين ألقى أريون على برِّها (وفيما بعدُ سُجِّلت حالات إنقاذ للقديسين المسيحيين بواسطة الدلافين. ولن أبدي رأيًا فيما يتعلق بميل الدلافين التاريخي إلى نقل المسافرين بحرًا بطريقة الأوتوستوب). أما انتهاء الأسماء الفارسية كافةً بحرف «س» فهو خطأ محض (وغير هام) مبنيٌّ على الجهل؛ إذ ظن هيرودوت أن الصيغ الإغريقية من الأسماء هي الصيغ الأصلية. وغزو قمبيز الممقوت لمصر يفسِّر تمامًا اختلاق الكهنة المحليين حكاية طعنه عجل أبيس، وهي قصة قابلة للتصديق كليةً لم يكن لدى هيرودوت مبرِّر لنبذها. وتشير الشواهد الأثرية إلى أن وصف هيرودوت لممارسات الدفن السكيثية مبنيٌّ على حقائق؛ إذ أماطت الحفريات التي نُفِّذت في تلال المدافن اللثام عن اكتشافاتٍ من قبيل الاثني عشر حصانًا المرتدية ثيابًا فخمة كاملة، التي عُثِر عليها في كازاخستان سنة ١٩٩٩. وليس ذلك فحسب، حيث أثبتت الباحثة ستيفاني وِست، المتخصصة في الدراسات الكلاسيكية، وآخرون أن «رسالة» السكيث إلى دارا المؤلَّفة من طائر وفأر وضفدع وسهام تبيِّن أنها من النوع نفسه الذي تنتمي إليه مراسلات أخرى جرت بين أشخاص من عصر ما قبل الكتابة؛ ففي ١٣٠٣، أرسل الأمير المنغولي توقطاي إلى منافسه نوجاي مِعولًا وسهمًا وحفنة من التراب، وهي الرموز التي ترجمها نوجاي على أنها: «إذا اختبأت في باطن الأرض فسوف أستخرجك، وإذا صعدت إلى السماء فسوف أسقطك، فَلْتختر ساحة قتال.» ويبدو أن هذا إلى حد كبير هو ما قصده توقطاي. لكن إساءات التفسير أمر محتمل الحدوث دائمًا؛ ففي ١٨١٩، أهدى ضابط روسي خانَ خوارزم (خيوة) مخروطَيْن من السكر وعشرة أرطال من الرصاص وعشرة أرطال من البارود وعشر زنادات بندقية، فاستنتج الخوارزميون أن مخروطَي السكر يعرضان السلام والصداقة اللطيفة، وأما الذخيرة فتوحي بأنهم إذا لم يوافقوا على هذه الصداقة، فسوف يشن الروس عليهم حربًا. والواقع أن الروسيين لم يقصدوا ذلك، وكل ما هنالك أنهم غلب على ظنهم أن هذه الأصناف المختارة ستكون هدية طيبة! ومع ذلك فإن سوء الفهم يوضح تاريخية الرسائل التي من قبيل الرسالة التي ينسبها هيرودوت إلى السكيث. وبالنسبة للنمل سيئ السمعة المنقِّب عن الذهب، ربما نكون بصدد مشكلة لغوية بسيطة؛ ففي أواخر القرن العشرين، اكتشف الإثنولوجي الفرنسي ميشيل بيسيل ومستكشفون آخرون أن القوارض المكسوة بفراء خشن المعروفة باسم المرموط، التي تقارب في حجمها ووزنها حجم القطة المنزلية ووزنها، تقذف إلى أعلى بتراب يحوي الذهب أثناء حفرها جحورها في واحدة من أشد المناطق وعورة في جبال الهيمالايا، وأفاد الناس الذين يعيشون هناك أنهم يتربحون من عمل المرموط هذا منذ أجيال. وقد اعتبر هيرودوت أن كلمة «مرموط» بالفارسية تعني «نملة جبلية»؛ إذن فهي ربما ليست حكايات غير معقولة في نهاية المطاف. وفيما يخص عمود الأفاعي الشهير، فإن الإمبراطور الروماني قسطنطين كان قد أمر بنقله إلى القسطنطينية، حيث استمتعت أنا نفسي بتمحيصه سنة ١٩٩٣، وقد انفصلت الرءوس بعد موت هيرودوت بنحو ألفي سنة، لكن أجساد الثعابين ما زالت مصونة، ولو لم آتِ لرؤيتها وأنا على علم بخلاف ذلك، لكان من الجائز تمامًا أن أعتبرها ثعبانًا واحدًا.
نُظِمت قصة رامبسينيتوس، التي زُعِم أن الكهنة المصريين يروونها، ببساطة بتجميع موضوعات فولكلورية. المهم أن هذه هي المرحلة التي يعلن فيها هيرودوت — الذي نأى بالفعل بنفسه مرتين عن القصة بنسبتها إلى آخرين — أن «أي شخص يجد أشياء كهذه محل تصديق يمكنه أن يصنع من هذه الحكايات المصرية ما يشاء، ووظيفتي طوال هذا السرد هي مجرد تسجيل، أيًّا ما كان ما أسمعه من كل مصدر من مصادري.» إن هيرودوت يسعى يقينًا إلى تأمين نفسه هنا، بل وربما أكثر مما يجب؛ بما أن قرَّاءه ببساطة لن ينظروا إلى هذه القصة نظرتهم إلى الانتصار الذي تحقَّق في سلاميس.
وأخيرًا، فإن مقدار المعلومات الدقيقة في «تاريخ هيرودوت» مذهل في ضوء العقبات الكثيرة التي وقفت في طريقه، كالمسافات الهائلة وحواجز اللغة والتضليل العمدي أو الفكاهي من قِبَل الرواة المحليين. وتواصِل الاستقصاءاتُ الأثرية الجارية في أصقاع كثيرة من العالم تأكيدَ حقيقة كثير مما نجد في كتاب هيرودوت؛ فمدافن السكيث هي ما نراه سطحيًّا والبقية تأتي، وما زال علماء المصريات تُذهِلهم مدى إصابة هيرودوت فيما كتب، واكتشف الاختصاصيون القادرون على قراءة اللغات التي أربكت هيرودوت أن النصوص القديمة تؤكِّد اكتشافاته أكثر مما تدحضها. ولو كان هيرودوت كاذبًا في بعض مما يرويه لكان من الممكن أن يفنده إخوانه الإغريق بسهولة. وقد ركز بعض منتقصي قدره على تعداده القتلى الأثينيين في ماراثون بأنهم ١٩٢، لا أكثر من ذلك ولا أقل، مؤكدين أنه اختلق هذا الرقم بالضبط لترجيح العدد القليل جدًّا من الرجال الذي يزعم أن الأثينيين فقدوه، لكن الأثينيين كانوا يعرفون تمامًا عدد مَن قُتِلوا هناك، حيث سُجِّلت أسماؤهم على شواهد القبور. وقد اكتُشِف الآن النقش الذي يخلِّد ذكرى الموتى من عُشر الأثينيين الذي ينتمون إلى قبيلة إريكتيد، ويبدو أنه يحمل ما بين ٢٥ إلى ٣٠ اسمًا، وهو رقم من شأنه تأكيد أن إجمالي ضحايا المعركة يبلغ نحو ٢٠٠ قتيل.
وأما عمود الأفاعي ذلك الموجود في دلفي، فهو أسهل شيء يمكن فحصه في العالم؛ فكان الجميع يذهبون إلى دلفي. فتأليف الكتاب من دون إيمان جازم بصحة الوصف الذي قدَّمه في صفحاته فيه مخاطرة شديدة، والتفسير الطبيعي تمامًا لمعدل نجاحه المذهل هو أنه، بشكل عام، زار فعلًا الأماكن التي قال إنه زارها، وأنه ظنَّ أنه رأى ما قال إنه رأى، على الرغم من أن الأفكار الخاطئة والخلل في الذاكرة حتمًا لعِبَا دورًا.
أحد أقوى التأكيدات لدقة رواة هيرودوت وقوة منطقه على السواء، يأتي من مثال لافت للنظر يخونه فيه منطقه، وذلك نتيجة محدودية فهمه شكل الأرض؛ فقد روى بعض الفينيقيين، زاعمين أنهم أبحروا حول أفريقيا (في اتجاه عقارب الساعة عبر البحر الأحمر على امتداد الساحل الشرقي، ثم لأعلى نحو مضيق جبل طارق)، أن الشمس كانت عن أيمانهم وهو يدورون حول الرأس، وهو شيء — كما يقول هيرودوت — «لا يمكنني تصديقه، وإن كان شخص آخَر قد يصدقه.» إنه مخطئ بالتأكيد، لكن منطقه كان سليمًا؛ إذ إنه لو كانت الأرض فعلًا مسطحة، كما كان يظن، لكانت حكاية الفينيقيين غير معقولة حقيقةً.
علاوةً على ذلك، يحفل «تاريخ هيرودوت» بأمثلة على استخدام هيرودوت قدراته النقدية لتقييم البيانات التي جاءته على نحو ما سيفعل أي مؤرخ حديث. إنه متشكك بالفطرة، وكثيرًا ما يلقي البيانات المزعومة التي تأتيه في سلة المهملات. والحقيقة أنه أكثر نقدًا لحكايات بعض الرحالة من مؤلفين متأخرين، حيث يرفض رفضًا قاطعًا تصديق أن الجبال الواقعة شمالًا (الأورال؟) تئوي بشرًا لهم أقدام معز، على الرغم من أن مصادر قديمة أخرى ذكرت مواضع بشر لهم أقدام خيل في الشمال، وأيضًا تحدَّث كتَّابٌ من القرون الوسطى عن بشر لهم أقدام ثيران.
ومع ذلك، وبعد أخذ كل شيء بعين الاعتبار، فإن القضية المطروحة الآن ليست مجرد إلى أي مدى «تاريخ هيرودوت» صحيح حقائقيًّا؛ ففي نهاية المطاف، وإعادةً لصياغة كلام هيرودوت نفسه، فإن الحقائق التي تبدو الآن دقيقة ربما يثبت في المستقبل أنها غير دقيقة، والأفكار التي تبدو اليوم منافية للحكم السليم ربما يثبت يومًا ما أنها مصيبة تمامًا. ولتنظر إلى مسألة الإتروسكانيين؛ فقد أبدى المؤرخون منذ زمن طويل تشكُّكهم في زعم هيرودوت أن هذا الشعب الذي عاش فيما قبل العصر الروماني انحدر من الأناضول، لكن أدلة الحمض النووي الحديثة التي كُشِف عنها لدى البشر والبقر على السواء، تشير إلى أن هيرودوت كان محقًّا دون شك. إن التاريخ، كما قال المؤرخ الهولندي بيتر جيل، جدل بلا نهاية، والجدل غير معني بالحقائق فحسب، فيا له من احتمال رهيب! بالنسبة لسرد تاريخي، يُعَدُّ وجود نذر قليل من الحقائق أمرًا ضروريًّا، لكنه بالكاد يكفي. إن مجموعة من الحقائق لا تؤكد عملًا ما بوصفه عملًا تاريخيًّا، وإن مزيجًا من الخيال لا يبطل زعمه أنه عمل تاريخي؛ فقد برع المؤرخون القدامى في تقديم ما يعتبرونه أرفع واقع، ومن هنا كان إقحامهم الخطب في عملهم، بل وفي بعض الحالات إقحامهم أفرادًا لا يعرفون عنهم في واقع الأمر إلا قليلًا، فيقحمونهم في النص لتصعيد الدراما أو للإيعاز إلينا بما كان الناس سيفكرون فيه ويقولونه، أو الاثنين معًا، بل ومن الجائز أن نقول إنهم «عالجوا بالفوتوشوب» سرودهم ليجعلوها تناسب أغراضهم. أما كيف يكون شعورنا حيال ذلك، فقد يتوقف على رأينا في المعالجة بالفوتوشوب بوجه عام، بإضافتها سحبًا كثيفة فوق بستان التفاح، أو إزالتها خلفية مشتِّتة للانتباه خلف صور الأحفاد في حفلات العزف المنفرد على البيانو التي يؤدونها. إن ما نجده بين المؤرخين الإغريق والرومان هو في معظم الأحوال شيء من قبيل «الدراما الوثائقية» التي نراها في العصر الحديث، وهي لون هجين تختفي فيه الشخصيات الثانوية وتُخترَع شخصيات مركَّبة للفت الانتباه إلى الديناميكيات الأساسية موضع الاعتبار.
لقد كان هيرودوت مبتكر هذا الجنس الأدبي، حيث مزج ابتكارُه الرائدُ الأبحاثَ الجادةَ والحكايات الفولكلورية الساحرة، ولعلنا نستطيع أن نتعلم ألا يزعجنا هذا أكثر مما ينبغي. فمَن ذا الذي سبق له وصف حكاية فولكلورية بأنها كذبة؟ وَلْتتأمل تعليق الصحفي الاسكتلندي نيل أشرسون على سؤال أين يُوضع عمل كابوشنسكي على الحد بين الأدب والتحقيق الصحفي: «هذا سؤال تصعب الإجابة عنه، وذلك لأسباب من أهمها عدم وجود حاجز سلكي (مُنار بالكشافات الغامرة وتحرسه دوريات الكلاب) بين اللونين.» قيل إن هيرودوت كان صديقًا لسوفوكليس، وكابوشنسكي كان صديقًا لجابرييل جارسيا ماركيز. كان هيرودوت سينظر إلى الحكايات الممعنة في الخيال في «تاريخ هيرودوت» كإثراء لحكايته المحورية عن الحروب الفارسية، لا كأساس لتقويض سلامته كمؤرخ. فقد حكى لنا بعض هذه القصص شيئًا مهمًّا عن الحالة الإنسانية، وبعضها الآخَر عن ثراء خيالنا المشترك. وتُظهِر تعليقاتٌ من إغريقيين من بني جلدته أنهم كانوا يعتبرون سرده عملًا تاريخيًّا، حيث أكد أرسطو، في معرض كتابته عن الفرق بين الشعر والتاريخ في القرن التالي، يقول إن سرد هيرودوت سيُعتبَر تاريخًا حتى لو حُوِّل إلى شعر، وهذا أوضح اعتراف يمكن أن نأمله لهذا الغرض، حتى إن إخوانه الإغريق صنفوا عمله … بوصفه تاريخًا. وقد وصفه صاحب رسالة «في سمو الأسلوب»، الذي كتبه إبَّان وقوع اليونان تحت الهيمنة الرومانية، بأنه «الأشد هوميرية من بين المؤرخين».
- (١)
مبدأ الجمالية؛ ما ينبغي تفضيله هو الأشد إثارةً أو متعةً من الناحية الجمالية.
- (٢)
مبدأ الشذوذية؛ ما هو أشد غرابةً أو شذوذًا.
- (٣)
مبدأ الأخلاقية؛ ما ينطوي على تعليم الأخلاق.
- (٤)
مبدأ البراجماتية؛ ما هو مفيد فيما يخص المشكلات الحالية.
- (٥)
مبدأ الجوهرية؛ ما يشكِّل «الميول الرئيسة» أو «الطبيعة الجوهرية» للموضوع.
- (٦)
مبدأ الموسوعية؛ ما هو أقرب إلى التعبير عن الحقيقة الكاملة عنه.
- (٧)
مبدأ الموسوعية المعدلة؛ ما ينظِّم بشكل أفضل كل الشواهد المتاحة المتصلة بالموضوع.
يا إلهي! لقد كان هيرودوت ببساطة رجلًا يتمتع بطاقة هائلة؛ فهو يفي بكل معيار من هذه المعايير. فالقصص الساحرة (١)، والعادات الغريبة والعجائب التي تستحق التسجيل (٢)، وعواقب الكبرياء والشطط (٣)، وأخطار الإمبريالية (٤)، وهشاشة الازدهار وما يلازم ذلك من تحرُّك نحو التوازن والتبادلية (٥)، والخيوط الكثيرة التي تدخل في صنع بساط التاريخ الهائل (٦)، ونسج تلك الخيوط لتكوين أنماط وموضوعات وأفكار تحكي قصة متلاحمة (٧)؛ كلها نجدها في «تاريخ هيرودوت». وهناك المزيد؛ لأن الإله دائمًا موجود يحوم في الخلفية، والناس يتخذون أحيانًا قرارات سليمة وأحيانًا أخرى قرارات خاطئة، لكن سيطرتهم على حياتهم محدودة. انظُرْ إلى الريح العاتية والأمطار الغزيرة اللتين قوضتا الأسطول الفارسي بالقرب من أرتميسيوم، وهي عاصفة يعزوها هيرودوت إلى المشيئة الإلهية، أو انظُرْ إلى القوة الإلهية التي كانت وراء الأنباء غير المؤكدة التي بلغت الإغريق عن النصر في بلاتايا وهم مقبلون على الاشتباك مع القوات الفارسية في ميكالي، وتأمَّلِ الفرس الذين غرقوا في بوتيديا إذ انتقم منهم بوسيدون لانتهاك معبده.
بلغ «تاريخ هيرودوت» متعدِّد الأوجه هدفه المعلَن المتمثل في تخليد ذكرى الماضي؛ في تنظيم كمية بيانات متنوعة تنوُّعًا هائلًا في صيغة مكتوبة لضمان بقاء كثير من الموروثات السماعية المهدَّدة بالاندثار، وليس هذا فحسب؛ ففي حين ابتكر ثوسيديديس أُفرودة الحرب ذات التركيز الضيق، ابتكر هيرودوت جنسًا أدبيًّا هو التاريخ الاجتماعي والفكري الشامل. وقد نجح عمله في اختبار الزمن، حيث شهد «تاريخ هيرودوت» طلبًا كثيفًا عليه إبَّان عصر النهضة، فظهرت في أوروبا ٤٤ طبعة وترجمة من «تاريخ هيرودوت» بين عامي ١٤٥٠ و١٧٠٠. وعلى الرغم من أن إثنوجرافياته أثارت الاستغراب في حياته وعلى مدى قرون كثيرة بعد موته على السواء، عملت اكتشافات المستكشفين في العالم الجديد في القرن السادس عشر على إحداث ثورة في الطريقة التي كان الأوروبيون ينظرون بها إلى عمل هيرودوت، بجعلهم يدركون التنوع الهائل للثقافات في العالم.
لا شك أن هيرودوت ما زال حيًّا في الثقافة الشعبية، ومثال على ذلك السباق المسمَّى تيمُّنًا بعَدْو الأثيني فيديبيدس إلى إسبرطة طالبًا المساعدة في ماراثون، بل إن اسم ماراثون نفسه ساهَمَ بمقطعه الأخير في كلمة «تليثون» التي نُحِتَتْ للإشارة إلى الساعات المتواصلة من البث التليفزيوني الممل الذي يقاطع البرامج الاعتيادية لجمع الأموال من أجل قضية نبيلة. وعلى الرغم من إغلاق فندق هيرودوت، الكائن في البلدة موطن المؤرخ، في التسعينيات، فما زال هناك شارع يحمل اسمه في حي كولوناكي الراقي في أثينا. وشهدت مبيعات «تاريخ هيرودوت» طفرةً بعد عرض فيلم أنتوني مينجيلا الحائز جائزة الأوسكار «المريض الإنجليزي» في دور العرض، ثم قفزت من جديد بعد تحويل رواية فرانك ميلر النابضة بالحياة إلى الفيلم الذي يحمل اسم «٣٠٠»، والذي يدور حول ثيرموبيلاي. كذلك كان لروايات تاريخية مثل «أبواب النار» للكاتب ستيفن برسفيلد أيضًا دورها في الإبقاء على الشعلة متأججة، غير أن دلالة عمل هيرودوت تتجاوز كثيرًا المكانة البارزة في الثقافة الجماهيرية التي قد تكون فعلًا قصيرة الأجل؛ فعلى الرغم من كل حكايات هيرودوت غير المعقولة وأرقامه المبالغ فيها، فإن التاريخ وُلِد على يديه. وإذا شئنا ممارسة لعبة الأوائل المشهورين، المحبَّبَة إلى قلبه بشدة، فربما نقول إن هيرودوت هو — وفقًا لاختصاصي الحضارة الإغريقية كريستيان ماير — أول مَن «قدَّمَ إجاباتٍ تاريخيةً عن الأسئلة التاريخية».
من المفارقة الشديدة أنه على الرغم من الاهتمام بالحضارات «البربرية» الذي سعى هيرودوت إلى إيقاده لدى إخوانه الإغريق، فإنه هو الذي أخرج إلى النور في نهاية المطاف فكرة الغرب؛ فبجمعه بين أوجه التقابل (التي لم تكن مُحْكَمة بالكلية) التي رآها بين الشرق والغرب، وبين الخلود الذي ضمِنه لمَن ماتوا مقاتلين ضد الفرس، أورث هيرودوت — من دون كل الكتَّاب الآخرين — الأجيالَ اللاحقةَ مفهومَ «الحضارة الغربية»، وهي حضارة تتسم بالحرية في الحكم والتعبير والفكر. واليوم، لا شك أن الفكرة التي تقول إن هذا الشيء الذي نَصِفُهُ بأنه «غربي» هو معيار الحضارات، تفسح الطريق في مجالات عديدة إلى رؤيةٍ أوسع للمجتمع الإنساني، رؤية لا تحتكر فيها حضارة بعينها الفضائلَ المدنية والتميُّزَ في الفكر والفنون. كان هيرودوت سينبهر بهذا. وفي مجالات أخرى، ما يبدو عظيم الشأن فيما يتعلق بعصرنا هو صدام جديد بين الحضارات يضع الشرق ضد الغرب، وكان هيرودوت سينبهر بهذا أيضًا، ولربما لو كان بيننا لالتقط مِرْقَمه وشرع في تأليف «تاريخ هيرودوت»، الجزء الثاني.