أمريكا ظاهرة فريدة لن تتكرر
إلى المؤمنين بمنطق أن «أمريكا بَنَت نفسها حتى أصبحت الدولة العظمى في مائتي عام، فلنفتح لها أبوابنا حتى نضمن لأنفسنا تقدُّمًا مماثلًا»، إلى هؤلاء أقول إن الظاهرة الأمريكية فريدة غير قابلة للتكرار، وأنها حدثت نتيجة لتضافر عدد من الظروف التي يستحيل أن تتجمع مرة أخرى في مكان آخر أو في زمان مختلف.
- أولًا: أمريكا قارة تنتمي إلى العالم الجديد. وهذه في ذاتها حقيقة أساسية
تحكَّمت في تحديد مركز أمريكا وسط دول العالم منذ البداية: فالعالم القديم
كان قد استُهلك منذ ألوف السنين، ونضبت موارده عبر الحضارات التي تعاقبت
عليه. أما أمريكا فكانت أرضًا بِكْرًا اكتُشفت منذ أقل من خمسة قرون، ولم
يبدأ استغلالها الحقيقي إلا منذ ثلاثة قرون، وربما اثنين. وهي لم تكن أرضًا
بِكْرًا فحسب، بل كانت قارة كاملة غنية بالموارد الطبيعية إلى حدٍّ مذهل،
تجاورها قارة أخرى كاملة تُكوِّن «ساحتها الخلفية» وتخضع لاستغلالها خضوعًا
مباشرًا. وفي هذا الصدد نستطيع تشبيه أمريكا بكنز هائل ظل مخفيًّا ألوف
السنين، ينتظر صاحب الحظ السعيد الذي يعثر عليه، ولم يُكتشف إلا بعد أن
كانت الكنوز المعروفة قد شبعت استهلاكًا.
ولقد كان الوقت الذي اكتُشف فيه هذا الكنز الجبَّار وقتًا فريدًا بدوره، أعني عصر النهضة الأوروبية ومطلع العصر الحديث؛ ذلك العصر الذي بدأت فيه أوروبا تتطلَّع إلى السيطرة على الطبيعة عن طريق العلم والتكنولوجيا، والذي نادى فيه مفكروها وفلاسفتها الكبار بأن يصبح البشر «سادة الطبيعة ومُلَّاكها». وأن يكون العلم للسيطرة، «لا للمعرفة فحسب». في لحظة الطموح الفريدة هذه، وفي العصر الذي خرج فيه الأوروبيون من ظلام العصور الوسطى الطويل وتفتَّحت أمامهم آمال وتطلعات هائلة، وفي الفترة التي تخلَّص فيها الإنسان من عبودية الإقطاع، وانتقل إلى التحرُّر والطموح الرأسمالي وأتاحت له علومه الجديدة ومراجعته الجذرية لتنظيماته الاجتماعية إمكانات للتَّقدم بغير حدود، في هذه اللحظة بالذات، اكتُشفت أمريكا.
وهكذا تضافرت عوامل فريدة في خلق الظاهرة الأمريكية: أرض مليئة بالخيرات التي لم تكد تمس، يهبط عليها فجأة مجموعة من البشر المنتمين إلى حضارة بلغت أوْج نهوضها وتفاؤلها، ويحملون معهم كل خبرات العالم القديم وتراثه العلمي والفكري، وطموح الإنسان الحديث إلى السيطرة على الطبيعة وتشكيل حياة جديدة لنفسه. وإذا كانت التقاليد الأوروبية قد وقفت عائقًا، إلى حدٍّ ما، في وجه هذا الطموح، فها هي ذي أرض جديدة لا حدود لاتِّساعها وإمكاناتها، تفتح أبوابها على مصراعيها أمام الإنسان الأوروبي وهي تبدو أمامه بلا تاريخ، ولا صاحب.
- ثانيًا: ولكن هل كانت هذه الأرض حقًّا بلا تاريخ، وبلا صاحب؟ من الحقائق التي
يعرفها الجميع أن هذه الأرض كان يسكنها شعب مسالم، أدَّت به عزلته النائية
وعدم اختلاطه بالحضارات الأخرى إلى التخلُّف عن بقية العالم في ميادين
متعددة، ولكنه كان صاحب حضارة مزدهرة في مناطق معينة على الأقل: في
المكسيك، وأمريكا الوسطى، وأجزاء من أمريكا الجنوبية، وخاصة بيرو.
غير أن نقطة الضعف الكبرى في هذا الشعب كانت أدوات الحرب: فقد طوَّر الغرب الأوروبي أسلحته قبل الفترة التي غزا فيها الأرض الأمريكية، إلى مستوًى كان يتيح له بسهولة إبادة شعب لا يستخدم سوى أسلحة الصيد البسيطة. وكان هذا التفوق في التسلُّح، أي في صناعة القتل، هو العامل الأول لانتصار المستعمرين الأوروبيين على أصحاب الأرض الأصليين، ومن المؤكد أن أمريكا ظلت دائمًا تُدرك بوعي تام أهمية التفوق في التسلح، بدليل أنها ما زالت تفوق سائر بلاد العالم في هذا الميدان الرهيب، وما زالت صاحبة «الفضل» الأول في «تحسين» أدوات الفتك والإبادة، وفي تطوير أنواع وأجيال جديدة من الأسلحة، وإرغام العالم على مجاراتها في هذا الميدان اللاإنساني العقيم.
ولسنا في حاجة إلى أن نشير إلى الأساليب البشعة التي استُخدمت في هذا التصادم بين حضارة طموح تستهدف التوسع بأحدث وسائل الدمار المعروفة عندئذٍ، وبين حضارة مسالمة معزولة لم تكن تعمل أي حساب لليوم الذي سيهبط عليها فيه هؤلاء الغرباء المتفوقون، بل لم تكن تتصوَّر أنهم موجودون أصلًا. ذلك لأن أفلام الهنود الحُمر، على ما فيها من تشويه وقلب للحقائق، كفيلة بإلقاء الضوء على عملية الإبادة الجماعية التي كان المستعمرون يمارسونها ضد كل من يقف في وجه توسُّعهم وامتداد نفوذهم — تلك الإبادة التي ما زالت تُؤرِّق ضمائر كثير من المؤرخين الأمريكيين المُنصفين حتى اليوم.
لقد كان الهنود الحمر شعبًا أبيًّا، لا يقبل الذل، فقاوم بقدر ما يستطيع، وكانت نتيجة ذلك أن استأصله الأمريكيون من جذوره، ولم تبقَ منه إلا مجموعات قليلة تعيش في مستوطنات مُقفلة معزولة تُستغل في الأغلب لأغراض تجارية بوصفها مُتحفًا بشريًّا حيًّا.
ولكني أود، قبل أن أترك هذا الموضوع أن أطرح على قارئي العربي سؤالًا: ألم تستنتج من هذا الوصف لموقف الأمريكيين من الهنود الحمر شيئًا؟ ألا يُذكِّرنا ذلك، إلى حدٍّ بعيد، بموقف الصهيونية من فلسطين؟ لقد كانت أمريكا بدورها، في نظر المستوطنين الأوروبيين الجدد، أرضًا بلا شعب، وكان الوافدون من جميع أرجاء أوروبا، الذين ضاقت بهم قارتهم القديمة أو ضاقوا بها، والذين كان منهم تجار مغامرون ورجال دين متزمِّتون وأفَّاقون وأرباب سجون ومجرمون هاربون؛ كان هؤلاء يعدُّون أنفسهم شعبًا بلا أرض.
كان كل شيء في الأرض الجديدة ممهدًا أمام طموحهم وأهدافهم التوسُّعية، ولم تكن تعترضهم سوى عقبة «صغيرة» هي أن في هذه الأرض سكانًا ظلوا يعيشون فيها منذ ألوف السنين. إذن فلنتخلص منهم بسرعة، ولنحاول بعد ذلك أن نسدل ستارًا من الصمت والنسيان على تلك الحقيقة «الصغيرة» المزعجة، لا سيما وأن إنجازاتنا اللاحقة كفيلة بأن تُبرر في نظرنا، وفي نظر العالم، ما حدث في تلك المرحلة الأولى، المظلمة، من تاريخنا.
لقد أردتُ أن أُجرِي هذه المقارنة حتى لا يشعر القارئ بالدهشة حين يجد أمريكا تُؤيِّد إسرائيل إلى هذا الحد الذي يبدو أحيانًا غير مفهوم. فإلى جانب المصالح المشتركة والسياسة الرسمية، هناك شيء في نفس المواطن الأمريكي يجعله مُتعاطفًا مع الحُجج الصهيونية؛ إذ يرى فيها ترديدًا لنفس الحُجج التي قامت عليها بلاده، والتي كان يستخدمها أجداده في إبادة الهنود الحمر. فهناك عنصر مشترك قوي بين التكوين العقلي والنفسي للإنسان الأمريكي والإنسان الصهيوني: هو الإيمان بأن الأرض ينبغي أن تنتمي إلى من يعرف كيف يستغلها إلى أقصى حدٍّ، أما صاحبها الأصلي فليذهب إلى الجحيم، وهو أيضًا الالتجاء إلى القوة الغاشمة في سبيل إقرار حق الاستغلال، واستخدام التبريرات المعنوية في وقت لاحق، بعد أن تكون القوة المباشرة قد فرضت أمرًا واقعًا، وهو الاعتقاد بأن ما ينتمي إلى حضارة أكثر تقدُّمًا، بالمعنى المادي البحت للكلمة، من حقه أن يعيش على حساب المُتخلِّفين أو حتى فوق جثثهم. صحيح أن الفرق بين الصهيوني والفلسطيني من حيث القدرة على استغلال الأرض، ومن حيث التقدم الحضاري بوجه عام، لا يُقارن بالفرق بين الأمريكي المُستوطِن والهندي الأحمر، بل إن التمييز — في الحالة الأولى — يمكن ألا يكون قائمًا على أي أساس، ولكن ليس هذا هو لُب الموضوع، وإنما المهم هو أن الحُجج التي تقدمها الأيديولوجية الصهيونية إلى العالم، والتي تجد صدًى خاصًّا في نفوس الأمريكيين، ترتكز على فكرة التفوق الحضاري والقدرة على الانتفاع من موارد الأرض، إلى أقصى حدٍّ، وعلى الإقلال من شأن «السكان الأصليين» والدعوة إلى نسيان وجودهم.
أليس من المعقول، والحال هذه، أن تكون الصهيونية قادرة على الضرب على وتر حسَّاس لدى المواطن الأمريكي العادي، وأن يكون «الضمير الأمريكي» على أتم استعداد للتوافق مع العقلية الصهيونية؟ أيستطيع الأمريكي العادي أن يقول للصهاينة: «ولكن الأرض ليست أرضكم، بل كان فيها شعب يمتلكها من عشرات القرون»؟ أيستطيع أن يقول ذلك دون أن يكون قد أدان نفسه في الوقت ذاته؟
- ثالثًا: ولأنتقل — بعد هذا الاستطراد، الذي هو مع ذلك ضروري بالنسبة إلى هدف
بحثنا هذا — إلى العامل الثالث الذي أتاح لأمريكا أن تبلغ ما بلغته، والذي
يجعل من أمريكا ظاهرة فريدة غير قابلة للتكرار. هذا العامل هو نظام
الرِّقِّ، الذي تفشَّى في أمريكا على أوسع نطاق في نفس الفترة التي كان
فيها المستوطنون يبنون مجتمعهم الجديد، والذي أسهم بنصيب هائل في إثراء هذا
المجتمع.
ولستُ في حاجة إلى أن أُذَكِّر القارئ ببشاعة الأساليب التي كان يلجأ إليها تجار الرقيق لجلب آدميين مسالمين من مواطنهم الأصلية في أفريقيا لكي يُعاملوا معاملة أسوأ من معاملة الحيوانات في البلد الجديد، في نفس الوقت الذي كان فيه هذا البلد يُقدِّم إلى العالم «وثيقة حقوق الإنسان» — الأبيض بالطبع — ذلك لأن القصة أصبحت الآن معروفة، في أغلب بلدان العالم العربي، بفضل عمل من أروع الأعمال الفنية التثقيفية الهادفة، وهو مسلسل «الجذور» التلفزيوني.
ولكن الذي يهمنا في هذا السياق هو أن نُشير إلى أن استغلال عمل ملايين العبيد الأشدَّاء، طوال أجيال كثيرة، بلا أي مقابل، كان لابد أن يُسهم بدور عظيم الأهمية في تحقيق نهوض اقتصادي سريع في هذا البلد. لقد كان الجنوب الزراعي كله، والشمال إلى حدٍّ ما في البداية، يعتمد على قوة عمل العبيد المجانية، فإذا ما تساءل شخص: كيف أحرز النظام الرأسمالي هذا النجاح السريع في أمريكا؟ كان من الواجب أن نرد عليه بما قاله أحد المفكرين الأمريكيين المستنيرين وهو يتحدث عن أثر استغلال عمل الزنوج في الاقتصاد الأمريكي: إذا كان لديك تاجران متنافسان، يعمل لدى أحدهما عمَّال لا يتقاضون أجرًا طوال حياتهم، على حين أن الآخر يدفع لعمَّاله أجورهم بانتظام، فأيهما تكون فرصته أكبر في الربح وفي توسيع أعماله؟
- رابعًا: كان موقع أمريكا المنعزل، الذي يفصله عن بقية العالم محيطان شاسعان، من
أكبر عوامل تقدمها. ذلك لأن الحروب المتوالية قد مزَّقت سائر البلدان
المتقدمة أو المؤهَّلة للتقدم في أوروبا وآسيا، على حين أنها تركت أمريكا
سليمة لم تمس. وعلى كل من يُقارن بين المستوى الأمريكي المرتفع وبين بقية
دول العالم أن يسأل نفسه: ماذا لو كانت أمريكا قد أُلقيت عليها قنابل ذرية
كاليابان، أو استُنفدت مواردها المادية والبشرية في حروب القرن التاسع عشر
وفي الحربين العالميتين الرهيبتين في القرن العشرين كألمانيا وإنجلترا
وفرنسا؟ ماذا لو كانت أخصب أراضيها قد أُحرِقت، وأعظم مدنها قد دُمِّرت،
وثلاثون مليونًا من سكانها قد قُتِلوا، كما حدث للاتحاد السوفيتي في الحرب
العالمية الثانية وحدها؟
طوال تلك الحروب كانت أمريكا آمنة من كل ضرر: فلم تسقط على أرضها قنبلة واحدة، ولم يُهدم فيها بيت واحد (إذا استثنينا حربًا واحدة في أواسط القرن الماضي، وتلك كانت حربًا أهلية بين الشمال والجنوب الأمريكيين)، ولم تجد ما يدعوها حتى إلى إطفاء الأنوار، على سبيل التحوُّط، طوال الحرب العالمية الثانية.
بل إن أمريكا لم تسلم من أضرار الحروب فحسب، وإنما كانت الحروب بالنسبة إليها مصدرًا هائلًا للربح، وقوة دافعة ضخمة لاقتصادها. ففي الوقت الذي كان فيه الأوروبيون يقتتلون بضراوة، كانت كل معركة جديدة، وكل دماء جديدة تسيل، تعني مزيدًا من الربح لمصانع الأسلحة الأمريكية، ووراء مصانع الأسلحة تأتي مئات الصناعات المساعدة والمساندة، وتعني مزيدًا من فُرص العمل للعمال ومزيدًا من التوسُّع والازدهار لأصحاب الأعمال. وأقرب مثل إلينا ذلك الاختلال الذي طرأ على بِنية الاقتصاد الأمريكي كله بعد انتهاء حرب فيتنام — وهي حرب محدودة، بالقياس إلى الحروب العالمية.
وهكذا لم يكن موقع أمريكا البعيد، المنعزل، مصدر تأمين لها من ويلات الحرب فحسب، بل أتاح لها أن تحوِّل الحروب التي تدمر الآخرين إلى رصيد إيجابي يزيد من قوتها ويُضاعف ثراءها.
ما الذي نستدل عليه من هذا كله؟ لقد كانت القضية التي نودُّ إثباتها، في هذا الجزء، هي أن أمريكا ظاهرة فريدة لا تتكرر، وأن مجموعة العوامل التي تضافرت لكي تجعل أمريكا أقوى وأغنى دولة في العالم كانت بالفعل عوامل لم يُتَح مثلها لأي بلد آخر. ومن هنا فإن المقارنة بين أمريكا وبين أي بلد آخر، إذا كانت تأتي دائمًا لصالح الأولى، فإن ذلك يرجع أساسًا إلى أن الظروف خدمت أمريكا على نحو يستحيل تحقُّقه في أية حالة أخرى.
ونحن لا نعني بذلك أن الشعب الأمريكي قد وجد نفسه محظوظًا بفعل مجموعة من المصادفات التاريخية الفريدة التي قدَّمت إليه القوة والثروة على طبق من ذهب. فمن المؤكَّد أن هذا الشعب قد بذل جهودًا جبَّارة من أجل استثمار موارده. ولكن كانت هناك أيضًا شعوب أخرى تبذل جهودًا شاقة، دون أن تجني مقابلها ثمارًا معادلة؛ لأن مجموعة الظروف التي تحيط بها غير مواتية، ولأن الموارد التي تستغلها محدودة أو شحيحة، أما في حالة أمريكا فإن كل جهد يُبذل كان كفيلًا بتحقيق أعظم النتائج، لأن كل شيء كان متوافرًا.
وتترتب على هذه القضية نتيجة في غاية الأهمية: هي أن أمريكا لا تصلح أصلًا لكي تكون «نموذجًا»؛ ذلك لأن من طبيعة الظاهرة الفريدة أن تحدث مرة واحدة، وألَّا تقبل المحاكاة. بل إنني سأفترض افتراضًا خياليًّا، فأقول إن أمريكا ذاتها لا تستطيع أن تُكرِّر نفسها. فلو فرضنا أن قارة مثل أمريكا قد اكتُشفت في مكان ما من العالم، في الظروف الراهنة، فإن من المستحيل أن يظهر فيها من جديد أقوى وأغنى مجتمع في العالم؛ لأن ظروف العالم الحالية لن تسمح لمستوطني هذه القارة بإبادة شعبها الأصلي بسهولة، ولن تسمح لهم بجلب ملايين العبيد واستغلال قوة عملهم بلا مقابل، لأن وجود نُظم اقتصادية وسياسية منافسة لن تُتيح لهم حرية الحركة والتوسع والامتداد التي كانت متوافرة لهم في القرنين الأولين من تاريخهم.