أمريكا من الداخل
إذا كانت أمريكا، كما بيَّنا من الفصل السابق، ظاهرة لا تقبل التكرار، ومن ثَم لا تُشكِّل نموذجًا يمكن الاقتداء به في مجتمعات أخرى، فإنَّا نود أن نثبت في هذا الفصل أن الإنسان الأمريكي بدوره نوع فريد من البشر، وأن نمط الحياة التي يعيشها هذا الإنسان لا يصلح أصلًا للعالم الثالث، وللإنسان العربي بوجه خاص.
إن الإنسان الأمريكي يتمتَّع، دون شك، بسعادة من نوع خاص. فهو — على وجه الإجمال — غني، تحيط به أحدث منتجات التكنولوجيا وأكثرها تطورًا. وهو يستهلك بمعدل عالٍ جدًّا، يفوق استهلاك الفرد الواحد فيه استهلاك عشرات الأفراد في البلاد الفقيرة، ويحيط نفسه بمجموعة من «المُقتنيات» التي تحسده عليها معظم شعوب العالم.
وهو يشعر بأنه حر، بل إنه ينتمي إلى أكثر المجتمعات البشرية حرية. وبالفعل يعطيه الدستور ضمانات تُؤمِّنه ضد تعسُّف السلطة، ويمنحه حق التعبير عن نفسه ومحاسبة حكومته دون عائق، ويكفل له اختيار ممثليه دون تدخُّل سافر، وسحب ثقته ممن يُسيئون استغلال سلطتهم حتى لو كانوا في أعلى قمم جهاز الدولة. ويمتد شعور الإنسان الأمريكي بالحرية حتى يصل إلى تفاصيل حياته الشخصية: فلديه حرية كاملة في اختيار نوع التعليم الذي يريد، وليس هناك — نظريًّا — أية حواجز طبقية تمنع أبناء الشعب من تلقِّي أرفع أنواع التعليم. وهو حر في اختيار الطبيب الذي يُعالجه، وفي استطاعته، لو شاء، أن يتلقَّى الرعاية الطبية في أعظم دور العلاج وأرقاها. وهو حر في اختيار صاحب العمل الذي يعمل عنده، وفي أن يُغيِّره كما يشاء لو أتيحت له فرصة أفضل، بل إن الابن أو الابنة لهما الحرية في ترك منزل العائلة والبدء في حياة مستقلة، ماديًّا ومعنويًّا، منذ اللحظة التي يشعران فيها بالرغبة في الاستقلال، وهكذا.
فإذا أضفنا إلى ذلك عدم وجود رقابة حكومية على الصحف ومصادر المعلومات، كان من السهل أن نفهم ذلك الشعور الحاد بالحرية، الذي يتميز به الإنسان الأمريكي، والذي يُؤمن بأنه هو السمة الإيجابية الكبرى التي يتفوق بها نمط الحياة الأمريكي على سائر أنماط الحياة المعاصرة.
هذه هي الصورة كما تبدو على السطح، وكما يراها معظم الأمريكيين والمعجبون بنمط الحياة الأمريكي من بين أفراد الشعوب النامية. ولكن وراء هذا السطح أعماقًا خفية لا تُدركها العين للوهلة الأولى، وإن كان الوعي بها يزداد انتشارًا يومًا بعد يوم. ونحن إذ نُركِّز حديثنا على ما وراء المظهر الخارجي، لا نهدف إلى تصيُّد الأخطاء أو اقتناص السلبيات، وإنما نودُّ قبل كل شيء أن نُكمل الوجه الآخر للصورة، وذلك في إطار الهدف العام الذي نسعى إليه من هذا البحث، وهو أن يكوِّن الإنسان العربي رأيه عن النموذج الأمريكي بطريقة موضوعية متكاملة.
•••
إن الثراء الأمريكي ليس مطلقًا. ففي أمريكا فقراء بأعداد لا بأس بها، وفيها عاطلون يُشكِّلون نسبة من الأيدي العاملة قد تصل أحيانًا إلى العُشر. وقد يرى البعض أن الفقير في أمريكا أحسن حالًا، على وجه العموم، من متوسط الحال في معظم البلاد المتخلفة، وهو أمر يمكن أن يكون صحيحًا إذا ما نظرنا إليه نظرة إحصائية رقمية، أما إذا تأمَّلناه من منظور إنساني فلن يعود السؤال الرئيسي هو: ما مدى فقر الفقير في المجتمع الأمريكي؟ وإنما لماذا يكون هناك فقراء أصلًا، في بلد يتمتَّع بكل هذا الثراء؟ وبالمثل فإن العاطل يحصل، لمدة معينة، على مبلغ من الضمان الاجتماعي قد يسد احتياجاته الضرورية، ولكن المسألة في هذه الحالة أيضًا ليست مقدار هذا المبلغ، وإنما هي: لماذا يكون هناك عاطلون بالملايين، في أوقات الرخاء وفي أوقات الأزمات على حدٍّ سواء، وكيف يرضى المجتمع الأمريكي بأن تكون ظاهرة البطالة جزءًا لا يتجزأ من بنيانه، ومن نظام حياته؟ ولماذا تظهر البطالة — على مستوًى غير قليل — في مجتمع يملك وسائل إنتاج هائلة وإمكانات عظيمة للتوسُّع؟ وما هو التأثير المعنوي للبطالة في نفس الإنسان، بغض النظر عن تأثيرها المادي في مستوى حياته؟
إن التعليل المعروف لهذه الظاهرة هو أن المجتمع الذي يقوم على الاقتصاد الحر بأوضح صوره، يحتاج إلى وجود نسبة من العاطلين عن العمل كيما يساوم بهم ضد مطالبات العمال المستمرة لرفع أجورهم. وهذا التعليل يفترض، بالطبع، أن العامل الإنساني في الموضوع لا أهمية له، أي أن إحساس العاطل بالإحباط، وعدم الأمان، والانهيار الناتج عن شعوره بأنه سيظل لفترة — لا يدري إلى متى تطول — إنسانًا غير منتج في المجتمع، كل ذلك لا يدخل في الحسبان ما دامت مصلحة الأعمال الاقتصادية (البيزنس) تقتضيه.
هذا الشعور بانعدام الأمان، وإحساس الإنسان، عن وعي أحيانًا أو بلا وعي في الغالب، بأن متطلباته النفسية والوجدانية خارجة عن نطاق العمل، ولا يُعمل لها حساب في جهاز الإنتاج الجبار، يخلق مناخًا عامًّا من التعامل اللاإنساني بين البشر. ولا أودُّ أن أُطيل الحديث في موضوعات أصبحت الآن معروفة: كالقول مثلًا إن نسبة الجريمة في المجتمع الأمريكي تعلو على نظيرتها في معظم المجتمعات الأخرى. ولكني أودُّ، في صدد مسألة كهذه، أن أنبِّه القارئ إلى ظاهرة قد لا يجدها واضحة في التحليلات الشائعة؛ وهي الارتباط الوثيق بين «شكل» الجريمة الأمريكية، والطابع العام للمجتمع. ففي العالم كله تُرتكب جرائم، والكثير منها بشع، ولكن الجريمة في أمريكا لصيقة إلى أبعد حدٍّ بالمجتمع الأمريكي ذاته: إنها أولًا جريمة تكنولوجية على أعلى مستوًى، تُستخدَم فيها أحدث الأساليب والمُعِدات التي يقف أمامها أعتى اللصوص في مجتمعاتنا «المتخلفة» مشدوهين بلهاء. (من دواعي السخرية أن المسلسلات البوليسية الأمريكية تتباهي بالأساليب التكنولوجية الفائقة في عصريتها، والتي تستخدمها الشرطة الأمريكية في القبض على المجرمين: من طائرات هليكوبتر وزوارق هائلة السرعة وأجهزة لاسلكية خفيفة وأدوات تحليل بارعة وعقول إلكترونية تختزن المعلومات وتُعيد تقديمها في ثوانٍ، ومع ذلك فإن صانعي هذه المسلسلات لا يُدركون أن الشرطة لا تضطر إلى استخدام هذه الأساليب العصرية المُعقدة إلا لأن المجرمين بدورهم يستخدمون أساليب مماثلة، أي لأن المجرمين أعتى وأشد إجرامًا). وهي ثانيًا جريمة لا إنسانية: فنسبة جرائم القتل التي تُرتكب بلا سبب، أو لأسباب لا يمكن أن تؤدي إلى القتل في المجتمعات الأخرى، نسبة رهيبة. وهكذا تكون الجريمة صورة مصغرة للمجتمع، في تكنولوجيته الرفيعة المقترنة باللاإنسانية.
أما ظواهر التعصب العنصري، الذي لا تزال آثاره باقية بوضوح، وخاصة في الجنوب الأمريكي، فأمرها معروف. وأما إدمان المخدرات، وتفكُّك الأسرة وانحلالها وانعدام المشاعر الإنسانية الحميمة فيها، فتلك أيضًا ظواهر أصبح الجميع على وعي بها، وأصبح الكُتاب الملتزمون في أمريكا نفسها يدقُّون ناقوس الخطر بشأنها بلا انقطاع. ولكن الشيء الذي أودُّ أن أوجِّه إليه نظر القارئ العربي بالذات هو الطابع «العبثي» لهذه الظواهر في المجتمع الأمريكي: فالفنون الأمريكية تُقدِّم إلينا كل يوم أعمالًا تعرض فيها صراعات بين الأب والابن مثلًا، ولكن المرء حين يتأمَّلها جيدًا لا يرى «مشكلة» على الإطلاق، ولو كان الموضوع الذي يدور حوله الصراع في مجتمع شرق مثلًا، لأمكن حله بسهولة تامة، دون أن يُصاب أحد بعُقدة مُستعصية. وحين يتأمَّل المرء ظاهرة إدمان صغار المراهقين للمخدرات، وارتكابهم شتَّى أنواع الجرائم أو الرذائل في سبيل «حقنة» من المخدر، يشعر بأن المجتمع الذي يسيطر على مادة الطبيعة على أكمل وجه، قد وقف عاجزًا تمامًا عن السيطرة على الإنسان، وأن الدقة الكاملة التي يتَّسم بها الإنتاج المادي يقابلها تسيُّب كامل واختلال أساسي في السلوك البشري.
ولكن، ماذا نقول عن الإحساس بالحرية، الذي يعده الأمريكي مفخرته الكبرى، والذي وصل إلى حد إطلاق اسم «العالم الحر» على الاتجاه الأيديولوجي الذي تتزعمه أمريكا؟
•••
إن في بعض الضمانات الفردية التي يمنحها الدستور الأمريكي للمواطن، وفي الإحساس بوجود «قانون»، لا بدَّ من احترامه — قانون يسري على الجميع، ولا يُستثنى منه أحد — في هذا نموذج يمكن أن يتعلم منه الإنسان العربي، والحكومات العربية، الكثير. لكن مع تسجيلي لإعجابي الخاص بهذا الجانب من «الحرية» الأمريكية، فلا بدَّ من تنبيه القارئ إلى أن هذا الحكم لا يمكن إطلاقه دون تحفُّظات هامة.
•••
إن القانون هناك يُحترم حقًّا، والدستور لا يُخرَق، وعندما يحدث انتهاك صارخ تكون العواقب وخيمة، حتى لو كان المنتهك أكبر رأس في البلاد. هذا صحيح بلا شك، ولكن لنسأل أنفسنا: من الذي يضع القانون هناك؟ إن المؤسسات الدستورية قائمة، وهي تمارس عملها بكفاءة تامة في إطار الشرعية السائدة في البلاد. ولكن من الذي يصل إلى السيطرة على هذه المؤسسات؟ وما نوع القوانين التي يُتوقع من هؤلاء المُسيطرين أن يُصدروها؟
في الانتخابات الأمريكية، سواء على مستوى المجلسين المنتخبين (الكونجرس) أو محافظي الولايات أو رئاسة الجمهورية، نجد نموذجًا واضحًا لطبيعة هذه الحرية الدستورية؛ فكل شيء يتم بحرية كاملة، ولا يمكن أن يحدث تدخُّل من جانب الحكومة لتزييف إرادة الشعب أو توجيه عملية الانتخاب لصالح مرشح معين. ولكن من المُحال أن يكون أي شخص قادرًا على ترشيح نفسه على نحو يُعطيه أملًا في النجاح إلا إذا كان منتميًا إلى طبقة الأثرياء، لأن النظام يجعل من المستحيل أن ينجح مرشح، على أي مستوًى، ما لم يُنفق على الدعاية أموالًا طائلة. وليس هناك — خارج مجموعة قليلة من المُفكرِّين الناقدين — من يطرح أسئلة مثل: لماذا تكون قوة الدعاية والإعلان عاملًا أساسيًّا في النجاح؟ ولماذا يُعيِّن كل مرشح، حتى على مستوى أعضاء الكونجرس مكتبًا كاملًا للاتصال والعلاقات العامة والدعاية، مهمته تحسين صورته أمام الناخبين؟ وهل يُعدُّ النجاح الذي يتمُّ إحرازه بفضل تدخُّل عامل كهذا، مقياسًا لحرية اختيار حقيقية لدى الناخبين؟ والأهم من ذلك كله: ما نوع القوانين التي سيُصدرها مرشح كهذا حين ينجح، وما هي المصالح التي سيُدافع عنها في هذه القوانين؟
وتنطبق تساؤلات مماثلة على حرية الصحافة وسائر أجهزة الإعلام؛ فبالرغم من أن الرقابة الحكومية غير موجودة، فإن هذه المرافق مؤسسات تجارية في أغلب الأحيان، تستهدف الربح وتعتمد على إيراد الإعلانات، ومن ثَم فإنها لا تستطيع أن تُعبر عن سياسة مضادة لمصالح الشركات التي تُقدِّم إليها أموالها اللازمة عن طريق الإعلان، ولو فعلت ذلك لكان أيسر السُّبل لتأديبها أو لإسكاتها هو حجب الإعلانات عنها.
وتتدخل المصالح التجارية ذاتها في ميادين كالتعليم، حيث تُدار أهم الجامعات على أساس تجاري، وتعتمد اعتمادًا أساسيًّا على مِنَح المؤسسات وهِباتها، ومن ثَم كان لهذه المؤسسات دائمًا صوت في إدارة سياستها. وإذا كان الشاب «حرًّا» في اختيار نوع التعليم الذي يريده، فما قيمة هذه الحرية إذا كانت نفقات التعليم باهظة، وما قيمة حريتك في اختيار طبيبك إذا كان المرض ذاته من أكبر المصائب التي يمكن أن تحلَّ على الإنسان، نتيجة لما يتكلفه علاجه من نفقات باهظة، وإذا كان إجراء عملية جراحية كارثة لمن كان دخله محدودًا، وإذا كانت نقابة الأطباء الأمريكية — وهي من أكثر الهيئات رجعية في العالم — تقف بكل صلابة، منذ عشرات السنين، معارضة لأي نوع جاد من تأميم الطب، أو حتى أي شكل من أشكال رعاية المجتمع لصحة الفقراء أو المسنين؟
إن الأمثلة لا حصر لها، وكلها تدل على أن «الحرية» موجودة قانونًا، ومحترمة شكلًا، ولكن كل شيء يتم تحت السطح وبطريقة «قانونية» أيضًا، بحيث تُفرَّغ هذه الحرية من مضمونها الحقيقي، وتكون إطارًا خارجيًّا يختلف عن محتواه الداخلي كل الاختلاف.
•••
إن تجاهل الاعتبارات الإنسانية عنصر أساسي من عناصر نمط الحياة الأمريكي: فالهدف هو أن تدور عجلة الإنتاج بكفاءة، وأن يزداد الربح وتتوسَّع الأعمال بلا انقطاع. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف لا يُقام وزن للعوامل الإنسانية، بل يُنظر أحيانًا إلى الاهتمام بها على أنه سِمة مميزة للمجتمعات الأكثر تخلُّفًا؛ لأن الكفاءة الصناعية والإنتاجية ينبغي أن تكون لا شخصية، مُجرَّدة.
هذه حقيقة أشار إليها الكثيرون، وإذا أكَّدناها فلن نكون قد أضفنا جديدًا إلى ما كتبه مئات الكُتَّاب عن ضياع الإنسان في المجتمع الصناعي الضخم، وعن طغيان قيم النجاح والتوسُّع والربح على القيم الإنسانية. ولكن، في هذا الوقت الذي يُعرض فيه النموذج الأمريكي على الأمة العربية بقوة وإلحاح بوصفه نموذجًا ينبغي أن نأخذ به لكي نعوض تخلفنا، وفي هذا الوقت الذي يتطوَّع فيه بعضنا للدعاية لهذا النموذج وغرسه في عقولنا بكل قوة، لا بدَّ لنا من أن نُشير إلى مفارقة غريبة تنطوي عليها الدعاية الأمريكية التي تهدف إلى «بيع» نموذجها لبلاد العالم الثالث.
ذلك لأن أمريكا تُقدِّم نفسها على أنها حامية القيم المعنوية والروحية والإنسانية، وتُكرِّس جزءًا كبيرًا من دعايتها لإثبات أن خصومها الأيديولوجيين (المعسكر الاشتراكي) هم المادِّيون، على حين أنها هي التي تتجاوز المادية وتعلو عليها. ولما كان هدفنا من هذه الدراسة هو إلقاء الضوء على النموذج الأمريكي ذاته، فسوف نترك جانبًا ما تقوله أمريكا عن خصومها، ونختبر هذا النموذج من تلك الزاوية بالذات.
إن المفكرين المدافعين عن نمط الحياة الأمريكي يفخرون بأنه يتيح للإنسان كل فرص الربح، ويُؤكِّدون أن دافع الربح أساسي في الإنسان؛ فهو القوة المحركة التي تُحفزه إلى المزيد من العمل والتجديد والابتكار. وعلى الرغم من أن هذه القضية قابلة للنقاش على أوسع مدًى، وعلى الرغم من أن الإنسانية قد عرفت نُظُمًا تُنادي بحوافز أخرى للعمل والمجهود غير حافز الربح، كالسعي إلى تحقيق مصلحة المجموع، أو تحقيق الإنسان لإمكاناته الخلَّاقة وما ينتج عنه من إرضاء معنوي إلخ، فإننا نودُّ أن نتوقف عند نقطة واحدة: هي التناقض الصارخ بين تأكيد دافع الربح، وبين ادعاء حماية المعنويات واتِّهام الخصوم بالمادية.
إن أمريكا، وفقًا لأيديولوجيتها المُعلَنة صراحةً، لا بد أن تكون أكثر المجتمعات مادية في عالمنا المعاصر. وليس هذا اتهامًا وإنما هو إقرار لحقيقة بسيطة واضحة. فحين تقول إن حافز الربح هو القوة الدافعة إلى العمل والابتكار، وحين تتهم خصومك بأنهم لا يُعطون الإنسان فرصة كافية لكي يربح إلى أقصى مدًى تسمح له به إمكاناته، يكون معنى ذلك أن فلسفتك مادية حتى النخاع، وأن تشدقك بحماية المعنويات والروحانيات ليس نِفاقًا فحسب، بل تناقض صارخ يرفضه أبسط عقل منطقي. إن الإنسان هناك لا يعمل إلا من أجل المزيد من المال، ومن الأرباح، ومن المستوى المادي المرتفع. وقد تكون هذه حقيقة من حقائق الحياة، وقد يكون هذا هو بالفعل أقوى الحوافز التي ثبت، حتى المرحلة الحالية من تاريخ البشر على الأقل، أنها هي التي تحرِّك الإنسان إلى الإنتاج وبذل الجهد، هذا كله جائز، ولكن ليست هذه هي القضية التي أناقشها، وإنما الذي أودُّ أن أقوله ببساطة هو: إذا كنتَ من أنصار هذا الرأي فكيف تدَّعي أنك خصم للمادية، وكيف تُنصِّب نفسك حاميًا للمعنويات وحارسًا لإنسانية الإنسان؟
هذا التناقض يمثِّل، في رأيي خدعة من أخطر الخدع الفكرية التي تتعرض لها شعوب العالم الثالث. وعلينا أن نتنبَّه بكل وعي إلى هذه المغالطة في الوقت الذي يُطرَح فيه النموذج الأمريكي على الساحة العربية بقوة وإلحاح؛ ذلك لأن مجتمعاتنا ما زالت حريصة كل الحرص على وجود حد معين من القيم الإنسانية والمعنوية، وما زالت تُؤمن بأن ما يُحرك الإنسان ليس الماديات وحدها (رغم اعترافنا بأهمية الماديات)، وبأن في الإنسان قوًى تعلو على السعي المباشر إلى الكسب والاقتناء. فإذا تقدمت إليها الدعاية الأمريكية على أنها هي التي ترعى هذا الجانب المعنوي في الإنسان، وإذا ظهر بيننا من يُبدي إعجابه غير المحدود بالنموذج الأمريكي، فلنقل له: في استطاعتك أن تُعجب بنمط الحياة الأمريكية كما تشاء، ولكن عليكَ أن تعترف بأنك تسعى، في هذه الحالة، إلى إقامة مجتمع مادي بصورة صريحة مباشرة في صميم كيانه، وعليك في نهاية الأمر أن تتحمَّل العواقب اللاإنسانية المترتبة على هذا الجري اللاهث وراء المادة، وهذا التجاهل التام للجانب المعنوي في الإنسان.