السؤال الآخر
هذا الكتاب هو مجموعة من المقالات والدراسات والحوارات التي سبق نشرها وإذاعتها عبر العامين المنصرمَين، انشغلت بطرح مجموعة من الأسئلة والاستفسارات المصحوبة بمبررات طرحِها العملية والعلمية والعقلية، والأهم: «الوطنية». وقد تم وصف مثل تلك الطروحات المتسائلة بأنها أسئلة حرِجة وصعبة أحيانًا، وبأنها مُقلقة تهز أمورًا تصوَّرها الناس من الثوابت أحيانًا أخرى، وأحيانًا ثالثة بأنها تخوض في مناطق شديدة التخصص في علوم الدين، ولا تصح مناقشتها على الملأ؛ لأن إشراك العامة فيها مفسدة لهم، بل مثير للفتن والبلبلة في المجتمع. وهي المعاني التي سبق وردَّدها الأستاذ فهمي هويدي في هجومه علينا وعلى كتابنا «الحزب الهاشمي» في أهرام ٢٣ / ٣ / ١٩٨٩م. وهو ما سيكرره هنا الأستاذ الدكتور كمال أبو المجد بداخل هذا الكتاب.
وهنا بالتحديد تكمن أهمية السؤال الآخر المُقلق الصعب الحرِج؛ إذ نعتقد بشديد البراءة أن أي أمر قابلٌ للطرح وللمناقشة بالحُجج العقلية والأدلة الاستنباطية والعلمية، حسبما تحتاج الظروف، وحيثما كانت مصالح العباد والبلاد فثَمَّ وجه الله. ولا شك أن إخفاء جوانب في مأثورنا وإبراز أخرى كان يرتبط طوال تاريخنا بمصالح انتهازية؛ بغرض التعمية على مناطق في تاريخ الإسلام المقدس أو في تاريخ الوطن، كان يمكنها فضْحُ وتعرية لاءات الإعلام الموجه ولاءات الإرهاب المسلح معًا.
ومن هنا ستجد داخل هذا الكتاب كثيرًا من التساؤلات المزعجة؛ لأننا الآن، وقبل غدٍ، بحاجة إلى كل إزعاج ممكن، فمن جانبنا ليس لدينا ما نخشى خسارته سوى ذلك الوطن الذي يتسرب من بيننا إلى الضياع. وهنا محور التحدي والجرأة الواثقة المطمئنة إزاء جميع النفعيين والانتهازيين، سواء كانوا أشخاصًا أم مؤسساتٍ أم أحزابًا أم أصحاب مناصب سيادية، والذين هم أشد فتكًا بهذا الوطن من الإرهاب المسلح.
وهنا نحن لا نفعل أكثر مما كان قاعدة لملايين المصريين الذين ما كان لديهم شيء يخشون عليه الخسارة، فصاغوا إسلامًا خاصًّا مصريًّا يتضافر مع حاصلِ تراث وثقافة مصر جميعًا. ولم يرهبهم منطقُ القداسة المتربعُ بجوار العرش السلطاني، وتركوا تراثًا هائلاً لم يزَلْ بعدُ بحاجة إلى التصنيف والتبويب والاحترام الكامل والعلمي. لنفهم أي عبقري هذا الشعب!
ولأن هذا الشعب كان كذلك، وكان كثير الدهشة، ولا يخشى مَلامة طرح السؤال، فقد كان على لسانه المثل قاعدة أتت بدورها في صيغة سؤال يقول دهشًا مستنكِرًا: «هوه السؤال حُرُمْ؟!» وهو ذات الشعب الذي كان يرفض الأوضاع الخاطئة في المجتمع، كما يرفض في ذات الوقت الرشوة المقدسة بالحور والخمور في عالم الأبدية، في مثله البسيط السائر: «المحتاج يبيع نصيبه في الجنة.» لكن ما حدث هو مجموعة من المتغيرات والأسباب المتعددة، كان منها دور مؤسسات التثقيف الرسمية التي قامت عن عمد وسبقِ إصرارٍ بتزييف وعي الجماهير؛ مما أفرز لدى المواطن المصري وعيًا زائفًا لا علاقة له بالفرز الطبيعي للوطن؛ لذلك كان طبيعيًّا أن تخرج علينا جماعات الإرهاب المسلح، بعد أن غاب مفهوم الوطن وقِيَمُه لصالح ذوي المصالح، الذين عمدوا إلى إبراز مذهبيات دينية بدوية، برزت معها بالضرورة الدولُ التي ترعاها.
والسؤال هنا يخوض في أعوص المناطق وأكثرها وعورة، ويسير فوق كل جحور الأفاعي دفعة واحدة، رغم أنه لم يتعرض لثوابت غيبية، إنما كان يتوجه مباشرة وبوضوح، ربما كان صادمًا، نحو المناطق التي تتعلق بمعاشنا وحياتنا؛ حتى يمكن إضاءة المساحات المخفية والمحجوبة والمسكوت عنها؛ لأن استمرار السكوت مع الوعي والمعرفة هو لون من ألوان خيانة الوطن بلا جدال، بعد أن جاء المنهج السائد بعدو البلاد عام ١٩٦٧م إلى حدود الدلتا الشرقية، وانتهى بنا الآن إلى مقلب نفايات الأمم.
وبينما تعلن الدولة تمسُّكها بكل لاءات الحريات والحقوق الإنسانية، فإنها في واقع الممارسة تفعل شيئًا آخر تمامًا؛ فهي طوال الوقت تكرس لمنهج يكبح السؤال والإبداع الحر، ويدرب العقل على الطاعة الكاملة، وأنه لا خوف علينا؛ فنحن خيرُ أمَّة أُخْرِجت للناس، تقف من ورائنا منظومة فكرية متكاملة، ثم إنها قدسية، لا يدخلها الباطل أبدًا، أي إننا نملك الحقيقة المطلقة وكل علم ممكن؛ لأن لدينا في تلك المنظومة كل الكشوف العلمية حتى ما لم يكتشف منها! ولدينا قوانين تنظيم المجتمع، ولدينا قواعد الحريات السياسية والإنسانية، ولدينا قوانين الاقتصاد الكامل، وقوانين علوم التربية النهائية، وعلاج كل أمر في كل شأن.
وهكذا تم تكريس الواحدية الشمولية الدينية، مع تضخم الذات وتورم الأحلام، فحصلنا على أجسام الديناصورات بالتكاثر والتناسل الذي نجيده حقًّا وصدقًا، لكن مع عقول دمرتها الخرافة والمناهج الواحدية، ونفوس تضج في الصدور بألف علة وتشوُّه نفسي، أليست تلك جريمةً وطنية عظمى بكل المقاييس؟ وعشنا خدر العصور البدائية وتصورنا أننا بكثرتنا العددية «نحن الغالبون»، رغم أن المصري الخبير سبق وأكد في مثله السائر: إن «العدد في الليمون»، فأدرك حكمة انقراض دولة الديناصور من الوجود. ذلك المصري الذي هضم وامتص الأيديولوجيا الوافدة ليضفرها مع نظرته الفلسفية للكون، المعتمِدة على بنية تحتية مخالفة لتلك الأيديولوجيا، وقام يحول الإله أوزيريس رب الزرع إلى «الشيخ زارع» الولي التقي صاحب الموالد، وآمون إلى «الحجاجي»، وإيزيس ربة الخضرة إلى الشيخة «خضرة»، وفي العاصمة أصبحت إيزيس ست الديوان السيدة زينب، لكن هذا الفرز الطبيعي لم يعُد الآن كذلك؛ نتيجة تدخُّل الآلة الجهنمية للإعلام الموجه داخل كل بيت.
إضافةً إلى أن هناك أسبابًا فصيحة واضحة معلومة لهذا الارتكاس، فإني أزعم هنا زعمًا سيبدو شديد الغرابة أحتسبه أحد أهم أسباب ذلك النكوص، وهو التعليم المجاني الموجه الذي اعتمدته ثورة يوليو ١٩٥٢م وحتى الآن، ليخترق المنظومة المصرية الأصيلة وخط سيولة الوعي، بقطع الشريان الواصل من القلب إلى العقل حيث جهاز الوعي، ووصل مكانه بمضخة التعليم الموجه مقابل مجانيته. ودفع الوطن مقابل هذه المجانية عقل أبنائه، بل ربما وجوده المستقبلي على صفحة التاريخ. وقام هذا التعليم يضخ إلى الشارع بالألوف من المؤَدْلَجين الجاهزين دومًا لتصفية الآخر المخالف للرأي الأحادي المطلق الصدق، وكان إرهاب اليوم هو جني ما زرعت أيدي هؤلاء بالأمس وحتى اليوم.
لقد احتاجت مؤسسة الدولة دومًا تبريرات فقهاء السلطة، المحترفين من العاملين بشئون التقديس، لمواقفها السياسية وسياساتها الاقتصادية وفلسفتها الشمولية، فكان ما كان.
لقد كانت مجانية التعليم غير مجانية بالمرة وعلى الإطلاق، فقد اشتُريت بهذه المجانية الأرواح والعقول، وكل الشواهد تؤكد ذلك، ولأن التوجه كان عروبيًّا وحدويًّا في منهج شمولي، كان لا بد من تكريس اللغة العربية، والتعليم بحاجة إلى وعاء اللغة، لكنها اللغة التي كان يسخر منها الفلاح المصري ويتساءل مستنكرًا رافضًا متوجسًا: «إنت هاتكلمني بالنحوي؟!» لقد كان «النحوي = العربي الفصيح» يعني له أن هناك مؤامرة تختفي وراء الألاعيب اللفظية، ستمررها عليه الفصحى بأساليب ملتوية غير مباشرة. ولا شك أنها تحمل خدعة مبيتة. هذا رغم علم هذا الفلاح وإيمانه أن اللغة العربية لغة مقدسة، خاطب الله بها نبيه، وبها تحدث آدم في الجنة مع الملائكة، وأنها ستكون لغة الحساب بعد البعث، ثم لغة الأبدية.
المأساة تتضح بعد تحول الكثيرين من الأميين إلى متعلمين، بل حاصلين على أعلى الشهادات التي لا تعني الثقافة بمعناها العلمي الدقيق. وحملت إليهم العربية مع أيديولوجيتها الواحدية كل محيطها الذي ارتبط بها وأفرزها، أي المنظومة البدوية بكاملها. فكان أن اختفت كثير من مفردات اللسان المصري الباقية فيه من راسبه القديم، وكذلك توارت كثير من النظم والعادات والتقاليد الأصيلة، ثم انقرضت الكرنفالات المصرية التي أصبحت حرامًا، رغم أنها كانت مساحة الإبداع الفكري والفني المصري بمذاقه الخاص ونكهته المتفردة، وسر سيادته في المنطقة، أقصد سيادته التي كانت.
وسادت العربية التي أصبحت تكرَّر على المسمع في القرى والنجوع، في الإعلام والتعليم، دون دراسة كافية عاشقة لمصر وعلمية في الآنِ نفسه، لسبل التضفير التي صاغها المصري عبر تاريخه؛ لتكون النموذج في المنهج، لكن ما حدث، ككلِّ حياتنا، كان عشوائيًّا، وكرَّس لملَكات الحفظ، والحفظ يعني التلقين والترديد كما يدرب على الطاعة. ومن هنا انتهى بعضُ من أفرزهم هذا المنهج إلى أن طاعة الله هي الأبقى، فقام يقتل الجميع حيث ثقِفوهم؛ لأن الدين عند الله الإسلام، وقد أمر الإسلام بقتال غير المسلم وأيضًا المسلم المرتد، وفي الفجوة ما بين التسارع في إيقاع التكنولوجيا وتطورها، وما يصحبها من بنية فكرية ونظم اقتصادية واجتماعية، وبين المنهج الثابت الأوحد الذي كرَّس له نظام تعليمنا وإعلامنا؛ وجد هؤلاء المبرر فقاموا يكفِّرون المجتمع كله، ويرونه مرتدًّا يستحق إعلان الجهاد عليه.
وكلامنا هنا لا يعني بالطبع استبعاد العربية، أو المقدس، أو الثقافة العربية، أو مجانية التعليم، بل إن كل ما يعنيه أن الإعلام والتعليم الموجَّه قد تمَّا بأسلوب غير علمي، شابته الأغراض طوال الوقت والمنهج غير العلمي ولا المصري في التفكير؛ لأن المنهج العلمي السليم والمصري الوطني هو عدم تغليب الثقافة العربية على المصرية، إنما نسجُ كلتيهما في مصهر واحد، وأن هذا المصهر يجب دومًا وطول الوقت أن يكون مصريًّا، وألا يغيب المشترك المصري عن أي خطة ولا لحظةً واحدة.
والواضح لكل ذي عينين أن منهج التعليم المجاني قد عُني بتاريخ العرب وتاريخ الإسلام والمسلمين أكثر مما اهتم بتاريخ مصر المتصل، حتى تم إسقاط حقبة كاملة من حقب التاريخ المصري المعلن؛ لأنها لم تكن عربية ولا إسلامية، فقط لأنها كانت قبطية.
لقد عُني منهج التعليم المجاني، وحتى الآن، بتكريس نفس أسلوب الحفظ والطاعة، مع نفي الآخر المخالف لمنظومتنا الشمولية، بل إن قتل ذلك المخالف شِرْعة وفريضة دينية تم مزجها بالوطنية، ومن هنا أسَّس هذا المنهج لكل القواعد المعادية لمفهوم الحريات الإنسانية، فكان أن خسر شبابنا حريتهم وتحولوا إلى آلات تنفيذ مُصمَتة، تعتدي على حريات الناس وحُرُماتهم وأفكارهم وعقائدهم.
ومع الضعف والرخاوة اللذَين أصابا الدولة بعد حصْدها نتائجَ منهجها، تحول أخطر أجهزة التثقيف (التليفزيون) إلى معرض للفكر الإرهابي، بل تعظيم الفكر وتضخيمه والتسليم له بالطاعة، وشاهدي هو البرنامج التليفزيوني الذي أذاعه تلفازنا الميمون في برنامج ديني مسائي ليلة الإسراء والمعراج؛ وذلك بتاريخ ٢٧ نوفمبر ١٩٩٧م.
لم يشغلني ما قال المنتدون فيه حول عظات وعِبَر ليلة الإسراء والمعراج، إن ما شغلني حقًّا في البرنامج حشده لأعاظم الوعَّاظ، ومع هذا الحشد الرفيع كنت — ومثلي كثيرون — نتوقع أن نسمع جديدًا، وجرأة على الجمود والتقليد والثبات بعد حادث الأقصر الرهيب، وقولًا فصيحًا يطلب إيقاف تدفق سيل منهج المعجزات، الذي أدى بنا إلى الجلوس ننتظر معجزة الخلاص، نطيل اللحى ونحرص على المواقيت، ويحمل بعضنا الرشاشات لتحقيق فريضة الجهاد؛ حتى يكتمل أداء الفروض فتتدخل السماء لتدمر لنا الآخر المتفوق، في أمريكا أو إسرائيل لا فرق، بدل أن نبذل نحن جهود تأسيس الحريات التي تسمح لمناخ العلم بالفرز، فنصعد نحن إلى مستواهم، لكن ما سمعناه تلك الليلة كان أكثر إملالًا من أفلام التليفزيون التي تكرس مفهوم سعادة الفقراء.
ولا أظن عاقلًا لم يتملكه الفزع وهو يستمع من أصحاب المعالي، على التوالي وبالدور، قصائد المديح التي تذوب وجدًا في الشيخ الشعراوي، حتى عندما جاء الدور على رئيس جامعة الأزهر المعروف بصوته الجهوري العالي القوي، جاءت كلماته المادحة خفيضة الصوت هادئة الوقع. أما عبارة «شيخنا، أستاذنا، معلمنا» فكانت المفتتح عند كل فقرة من خطابات تقديم ختم الدولة، ممثلة في مشايخها الرسميين، للخطاب الشعراوي، ذلك الخطاب الذي استمر ما يقرب من ثلاث سنوات أو يزيد ينفخ في نيران الفتنة الطائفية عبر تلفازنا المبروك، ويكفر علنًا وداخل كل بيت إخواننا المسيحيين ويسفِّه عقائدهم، ذلك الخطاب الذي وقف بالمرصاد لما ينفع الناس فأفتى بتحريم زراعة الأعضاء، حتى أغلق بنك العيون ضُلَفه أو كاد، ذلك الخطاب الذي شمت في أوجاع الوطن وكل حي أو ميت على أرض هذا الوطن، فقام يصلي صلوات الشكر لما حاق بنا من هزيمة كبرى، ذلك الخطاب الذي انشغل بالذات وبالنجومية، ولم ينشغل بآلام الناس وأمانيهم ولو مرة. لقد حاز صاحب هذا الخطاب نجومية لم يَصِلْ إليها أحد قبله في التاريخ الإسلامي، ومع ذلك لم ينشغل بالناس التي صنعت منه هذا الخطاب النجم.
لقد كان بإمكان صاحب الفضيلة — مع هذه الشعبية الكاسحة — أن يكون قيادة لجماهير الأمة لتحقيق مصالح الناس، كان بإمكانه أن يعلن الصيام ومعه كل المسلمين وكل المسيحيين حتى يتوقف الإرهاب الدموي على كل مستوياته، لكنه لم يفعل. كان بإمكانه أن يطلب من كل مصري، بل مِن كل مؤمن بقدسية الإنسان وحريته في العالم، أن يجعل مِن حدث مجزرة الأقصر يومًا للحزن العالمي دعمًا لدعوة الرئيس مبارك للعالم للوقوف ضد الإرهاب، لكنه لم يفعل.
كان بإمكانه رفع مظالم كثيرة لو قرر هو الصيام مفردًا حتى تُرفع. كان بإمكانه التحريض الشعبي في كل بلاد المسلمين على عدم التعامل مع إسرائيل أو المصالحة — بغض النظر عن الحكومات — حتى تخضع للمواثيق والعهود، لكنه لم يفعل. وكان بإمكانه أن يكون رمزًا عالميًّا لو طلب من كل شرفاء العالم الوقوف مع قضايانا، بنفس أساليبنا في الاحتجاج، وكان يمكنه بذلك أن يقدم عن الإسلام وعن مصر صورةً أنظف مما تقدمها جماعات الإرهاب اليوم. هناك الكثير كان بإمكان هذا الشيخ أن يفعله، في فرصة تاريخية حازها، وشهرة نالها، وتقدير وصل به حد التقديس، فرصة لا يجود بمثلها الزمان مرتين، لكن الشيخ لم يفعل.
هذا هو المنهج الذي تمارسه مؤسساتنا الإعلامية الكبرى في دولة تعاني من الإرهاب الدموي المسلح، يأكل قلبها ويمتص رحيق الحياة في كبدها؛ لذلك لم يكن غريبًا أن نسمع من مرشد الإخوان طلبًا باستبعاد المسيحيين من الجيش ودفعهم الجزية، أو نحاكم القول ونصادر الرأي، أو يظل تعاملنا مع المرأة باعتبارها مجرد نصف ذكر، ووسط هذا المناخ لم يزَلْ مطلبنا عودة زمن الفتوحات؛ لنستعمر البلاد ونسبي العباد، بينما نحن ملقَوْن إلقاءً في قاع تراتُب الإنسانية، فأيُّ مرضى نحن؟!
إن هذا الكتاب الذي بين يديك يضم مجموعة مقالات تطرح تساؤلات آن لها أن تُطرح، أيًّا كانت العواقب على شخص الكاتب، تساؤلات تُصر وتكرر مطالبيها بين موضوع وآخر، وهي المطاليب التي لن تتحقق إلا إذا سمحنا للسؤال الآخر بالمرور، واعتدنا سماع الرأي الجديد أو المخالف، وبفتح النوافذ على العقل دون تقييد أو قمع، وأن تناقش الفكرة الأخرى، ولا تطالب بمصادرتها أو تكفيرها. أن نحقق العلمنة على مساحة الثقافي على الأقل، وهو أدنى المطاليب. ساعتَها يمكن القول إن هناك أملًا في أننا سوف نكون.