الفصل الأول

لماذا لا نحاكم الإمام الغزالي إذن؟!

«من المقرر لدى فقهاء الشريعة الإسلامية أن الردة هي الرجوع عن الإسلام، وركنها الصحيح بالكفر، إما بلفظ يقتضيه، أو فعل يتضمنه، ويعتبر كافرًا من استخف بالقرآن الكريم أو السنة النبوية، أو استهزأ بهما، أو جحدهما، أو كذبهما، أو أثبت أو نفى خلاف ما جاء بهما، مع علمه بذلك، عنادًا ومكابرة … أو تشكَّك في شيء من ذلك.»

هذا الذي قرأتم عاليَه، ليس تلاوة لقرار من قرارات محاكم التفتيش على المتهم قبل فصل رأسه عن جسده بالمقصلة، إنما هو اقتباس بالنص من حيثيات الحكم في قضية نصر حامد أبو زيد.

هذه المرةَ يقف السؤال مع آخر جملة بتلك الحيثيات، وهي الجملة التي تصدر قرارًا بتكفير أي مسلم يتشكك في أمر من أمور الدين، وبالتالي فهي تعتبِر الشاكَّ مرتدًّا يستحق الإعدام. وبذلك وُضعت فتوى أصبحت ضمن بنود القانون المصري، حيث يتحول حكم محكمة النقض إلى سابقة قانونية ومادة يُعمل بها في الحالات المشابهة، وهنا لا بد من التساؤل عن حجم أنهار الدم التي ستسيل إذا تضاعف تصاعُد ذلك المد السلفي.

فمن منا لم يشكَّ؟!

حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي وضع كتابًا أسماه «المنقذ من الضلال»، وضع فيه أصول الشك في كل أمر من أمور الدين، حتى وصل به المدى إلى التشكيك في وجود الذات الإلهية ذاتها. ومن يقرأ هذا الكتاب سيشكُّ حتمًا حتى لو لم يكن قد شك من قبلُ أبدًا. والإمام الغزالي رحمه الله يأخذ بيدك في طريق الشك، يسكبه بداخل عقلك سكبًا، حتى آخر صفحة من صفحات الكتاب، بعد أن تكون أميل إلى التشتت النفسي وأكثر ما تكون تشككًا في كل الثوابت الإيمانية، ليترك يدك ويقول: أما أنا فقد قذف الله بنور من لدُنه في صدري فآمنت به. وهكذا كان حل المشكلة: نورًا يقذفه الله في الصدر، فإذا أنا قرأت الكتاب وانتظرت هذا القذف النوراني ولم يحدث، فماذا يكون موقفي؟

فهلَّا حاكمنا الغزالي؛ لأنه فقط لم يشكَّ، بل إنه لم يترك قارئًا للكتابة دون شك، إن الرجل بذلك لا يستحق أبدًا لقبه «حجة الإسلام» ولا لقب «الإمام» الذي كرَّمه به أسلافنا زمنَ العقل والانفتاح الحر على علوم الدنيا، وقبل إغلاق كافة أبواب الاجتهاد وكل نوافذ العقل.

•••

لكن هناك رواية أشد فصاحةً من ضرب المثل بحجة الإسلام، وهي تروي لنا حدثًا هامًّا قد حدث مع عمر بن الخطاب يوم صلح الحديبية؛ حيث رأى المسلمون نبيهم يقدم للمشركين تنازلات وتراجعات لها أسبابها الدبلوماسية التي لم يَعِها المسلمون، ولم يدركوا الأهداف البعيدة منها، فأصابهم غمٌّ شديد كلما قدَّم النبي تنازلًا، خاصة أنه كان قد وعد رجاله بدخول مكة عام الحديبية؛ فيروي ابن هشام أن النبي قام من نومه ليعلن لأصحابه خبر رؤيا رآها في منامه أنهم يدخلون معه مكة يطوفون بالبيت آمنين، وعقَّب السهيلي في شروحه بالقول: «كان النبي قد رأى ذلك في منامه، ورؤيا الأنبياء وحي.» وصدَّق المسلمون نبيهم، لكنهم يفاجَئون به بدلًا من دخول مكة، يقف خارجها ويَقبل صلحًا شروطُه لصالح قريش، وفيه تنازلات اعتبرها المسلمون تهاونًا شديدًا، وهنا تروي لنا كتب السيرة أن عمر بن الخطاب قد لقي من أمر هذا الصلح رهَقًا شديدًا استنفره استنفارًا حتى ذهب إلى النبي يقول: «ألم تَعِدْنا أن نأتي البيت ونطوف به؟ قال: نعم.» لكن الإجابة ﺑ «نعم» يخالفها ما يحدث في الواقع، فتأخذ الحيرة بعمر كل مأخذ مع رعدة غاضبة دفعته إلى الإسراع نحو أبي بكر، ليدور بينهما الحوار المتوتر التالي:

عمر : يا أبا بكر، أليس برسول الله؟
أبو بكر : بلى.
عمر : أوَلَسْنا بالمسلمين؟
أبو بكر : بلى.
عمر : أوَليسوا بالمشركين؟
أبو بكر : بلى.
عمر : فعلامَ نعطي الدَّنيَّةَ في ديننا؟
أبو بكر : يا عمر، الزم غَرْزَه؛ فإني أشهد أنه رسول الله.

وهنا يعلن عمر جهارًا قوله: «وما شككت منذ أسلمت إلا الساعة.»

وهكذا كان عمر بصحبة النبي يراه ويعاشره ويدركه بحسه وروحه، وعايَشَ نزول الوحي وعايَنَه، ومع ذلك شك في الأمر كله نتيجة موقف لم يدرك أهدافه الدبلوماسية البعيدة في صلح الحديبية.

وهنا يعقب السهيلي على موقف عمر الذي شك ولم تحوله كتبنا التراثية إلى منافق، ولم يتهمه أحد بالارتداد، يقول (السهيلي): «وفي هذا أن المؤمن قد يشك ثم يجدد النظر في دلائل الحق، فيذهب شكه، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: هو شيء لا يسلم منه أحد.» وهكذا يستنتج شيخ شراح السير أن المؤمن قد يشكُّ، بل إن ذلك الشك لا يسلم منه أحد على الإطلاق، مستندًا في ذلك إلى حديث عن حَبر الأمة وراوي الحديث الثقةِ عبد الله بن عباس.

وفي الحديبية حدث من المسلمين عصيان عام على النبي ، وهو ما لا يدخل فقط في مفهوم الشك، بل في عصيان الرسول واللهِ معًا، لموقف لم يعجبهم من النبي، فقد أصابهم الكرب لما قدَّمه رسول الله من تنازلات في هدنة الحديبية، وبعدما استُكملت التوقيعات على الصحيفة، قام النبي يأمر المسلمين باستكمال شعائر العمرة التي لم تتم قائلًا: «قوموا فانحروا ثم احلقوا.» لكن ليلخص لنا ابن الأثير رد المسلمين على نبيهم، فقد تعصبوا جميعًا عليه: «وما قام أحد حتى قال ذلك مرارًا فلم يقُم أحد منهم.» هكذا ظل الرسول يردد أمره ولا أحد يطيع على الإطلاق، ومع ذلك لم يُصدِر ضدهم حكمًا بالارتداد، ولا فرَّق بينهم وبين زوجاتهم، فقط عقَّب بالاستحسان على من حلَّقوا وبالاستهجان على من قصَّروا.

فقالوا له: يا رسول الله، فلِمَ ظاهرت بالترحيم للمحلِّقين دون المقصِّرين؟ قال: لم يشكُّوا. فقط ظاهَرَ النبي من لم يشكُّوا، لكنه لم يطرد كل الذين شكُّوا من ألوف المسلمين من دين الإسلام، ولم يوقِّع عليهم أي عقاب.

وكتب السير والأخبار تكتظ بمثل تلك الأمثلة، لعل أبرزها أن المسلمين أصحاب رسول الله رغم الوعد بالنعيم وبجنة الخلد، ورغم مصاحبتهم وملاحقتهم للنبي ، ورغم أنهم عاصروا وشاهدوا وعاينوا ذلك الزمنَ العظيم زمنَ نزول الوحي، فقد فروا من حولِ رسول الله في غزوة أحد، حتى وقف وحيدًا في الميدان ينادي: إليَّ يا فلان، أنا رسول الله. فما يعرج إليه أحد والنبل يأتي إليه من كل ناحية، حتى قذف أبو دجانة بنفسه فوقه ليحميه.

ولحظة الهزيمة وقف بعض الصحابة من قريش يقولون: «إن رسول الله قد قُتِل فارجعوا إلى قومكم فيؤمِّنوكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم.» أليس مثل هذا القول شكًّا في الأمر برمَّته من الألف إلى الياء؟ (برواية البيهقي). وقولٌ آخر قرر فيه بعض المسلمين اللجوء لرأس المنافقين عبد الله بن أُبي ليستأمن لهم من أبي سفيان، وهو ما رواه ابن كثير في قوله: «فقال بعض أصحاب الصخرة — أي الذين احتموا فوق صخرة أثناء القتال — ليت لنا رسولًا إلى عبد الله بن أُبي فيأخذَ لنا أمَنةً من أبي سفيان، يا قوم إن محمدًا قد قُتِل، فارجعوا إلى قومكم.» أما البعض الآخر من المسلمين لما رأوا الهزيمة، فقد فروا وعلى رأسهم عثمان بن عفان، حتى ابتعدوا عن المدينة بحوالي ثلاثين ميلًا «فرارًا من الميدان، ومن حول رسول الله بذاته»، ومع ذلك جميعه لم تصدر ضدهم أحكام تكفير وارتداد وتفريق، وكانوا صحابة رسول الله المقربين.

•••

والسؤال الآن: ألم تقرأ هيئة المحكمة الموقرة ذلك، ومثله كثير في صحيح السير والأخبار الإسلامية قبل أن تصدر حكمها بأن من يشك قد كفر؟ وخاصة أن المتشدد إلى هذا الحد في أمور الدين يجب أن يكون على علم بتفاصيله ودقائقه؛ حتى لا يهلك الناس بأحكامه، ويهلك معهم بقصور علمه، ناهيك عما ينتظرنا إزاء مثل ذلك الحكم أمام موازين العدل الإلهية يوم الدين.

ولله دَرُّ الإمام الغزالي وهو يقول في كتابه إحياء علوم الدين: «من لم يشكَّ لم ينظر، ومن لم ينظر لم يُبصر، ومن لم يبصر بقي في متاهات العمى والضلال.» طوبى للإمام حجة الإسلام زعيم الشُّكاك في مرقده، وليغفرِ الله لمن لا يعلم فيتبختر في متاهات العمى والضلال؛ فخورًا بأنه أبدًا لم يشك، وليغفرْ لنا إذا لم نشك، وليهدنا إن شكَكْنا، فالأمر كله معلق بإرادته الكلية الشاملة، وليس لنا مع أمر الله أمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥