الفصل العاشر

حول ما هو أهم من تصريحات «الأب الروحي» المشهور!

عراب مافيا الإسلام السياسي الأستاذ «مصطفى مشهور» ألقى القفاز في وجه الدولة المدنية، وقذف بالكرة إلى ملعب دنيا المتنورين، فأقام الدنيا ولم يقعدها، رغم أن الرجل كان صريحًا واضحًا بسيطًا صادقًا مع نفسه ومع ما يعتقد ومع أهداف جماعته المعلنة، ومع الأيديولوجيا الشمولية التي ينتمي إليها. فلم يكذب ولم يدلس ولم يلتوِ، إنما قال ما يؤمن به سافرًا فاضحًا، حيث قال — فض فوه — في حوار صحفي: إن جماعته تطلب تحصيل الجزية من أقباط مصر مع استبعادهم من الجيش تحسبًا لخيانتهم للوطن. الرجل لفق على المسيحيين؟ نعم، لكنه لم يلفق فيما يعتقد ولم يقف في مناطق الوسطية الانتهازية النفعية المائعة وقال كلمته بشجاعة جسور.

والغريب في الأمر جميعه أن الهجوم تعامل مع الرجل كما لو كان قد قال فرية أو جديدًا لا نعلمه، كل ما في الأمر أنه نفخ الرماد الهش الذي يخفي تحته الجمار الملتهب، ونحن نأنس للرماد لأنه يساعد على إخفاء الحقائق والتناسي. ونسيان يلقيه من يزعمون التقدمية والتنوير على لهب لا يجرءون على الاقتراب منه؛ لأنهم يحذرون المناطق الملغومة، بل ويرتعبون من مجرد مساندة من يقتربون منها حقًّا ويحترقون بها صدقًا، بمنهج علمي واعٍ رصين وبروح وطنية فدائية لا تعرف تعدد الألوان حسب المصالح والهوى. إن هؤلاء البعض الذين هاجوا وماجوا وأرغوا وأزبدوا هم أكثر زيفًا من كل إفك وتلفيق، فهم يريدون الأمور على هواهم، ولا يريدون ريحًا مفاجئة تطفئ شموع طرقهم السرية في تحالفات مصلحية مقيتة.

نعم ربما صفق هؤلاء المستنيرون لباحث عاشق حقيقي لوطنه تئن كبده وتنزف روحه ولهًا عليه، بمنطق التصفيق للفدائي أو الجندي المجهول، لكنهم في الوقت ذاته يصمتون صمت القبور ويكمنون كمون البوم إزاء أبحاث صادقة حقيقية رفيعة علمية هادئة لا تبغي نفعًا سوى وجه هذا الوطن، تخوض عش الثعابين وتصارع بروح قتالية عالية وفدائية نادرة. تؤمن بهذا الوطن وتحب هذا الوطن وتتعشقه حتى الموت فرحًا باختلاط دمائها بثراه. ويكتفي المستنيرون الكبار بإعلان الإعجاب بهذه الأبحاث العلمية في ندوات ديوانية جانبية وجلسات ثقافية بيتية، وعادةً ما يكون الإعجاب أقرب إلى الهمس؛ لأن الصوت المسموع يضر بالمصالح والتوازنات وألعاب السياسة البهلوانية، ولأنه قد يودي بالحياة وهم يحبون الحياة حبًّا جمًّا. وإذا اضطروا لإبداء الرأي إزاء هؤلاء الباحثين المهمشين عمدًا، المعتَم على أعمالهم قصدًا، فإنهم عادة ما يسلكون سلوك العاقل الرصين المتزن الثقيل، فيقولون أقوالًا مرسلة لا هي مع ولا هي ضد، أما بعضهم من أنصار تحالف المستنيرين مع عقلاء الفكر الديني، فإنهم عادة ما يشجبون، وربما باعوا تلك القلة النادرة والفذة من مفكري مصر المخلصين مع أول صفقة سلطانية؛ ليُذبحوا وتُهدر دماؤهم أو يُنفَوا من بلادهم، ولا بأس أثناء ذلك من بعض التمثيليات المبتذلة التي تشجب وتُدين الإرهاب الفكري، ويعود الجميع بما غنموا من عزاء واجب وما دايم إلا وجه الله.

وهؤلاء ذاتهم مَن شرعوا كل سيوفهم العنترية وتنابذوا بالأقلام عندما أعلن مشهور ما يعلمونه جميعا يقينًا، ويغمضون عنه العيون، وتتبلد أفهامهم إزاءه بجبن رخيص، وتتم المتاجرة بالوطن هنا وبالله هناك. ناهيك عن السماسرة المقتدرين من رجال شئون التقديس المحترفين على الجانبَين الإسلامي والمسيحي، الذين يميِّعون كل المواقف بلثم لِحَى بعضهم بعضًا في تظاهرات إعلامية مقيتة ورخيصة و«يدفنوه سوا» وسرًّا، وهو أشد فتكًا بالوطن من النفايات النووية، تحت غبار هش لا يصمد مع أول نفخة، وهو ما تكرم «مشهور» بعمله ببساطة، وبكل بساطة، ودون أن يرتكب إثمًا دينيًّا، بل ولا حتى وطنيًّا. ألا ينص دستورنا التليد الخليط بكل أنواع السلطة؛ إسلامية على اشتراكية على ليبرالية على سمك على لبن على تمر هندي، عملًا بالشعار الرفيع والأسمى: كله عند العرب صابون! ألا ينص الدستور أن لدولتنا المدنية دينًا رسميًّا هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع؟ فأين أخطأ الرجل؟

لقد بحَّ صوتنا حول هذا الأمر لكن لا حياة لمن تنادي، ولأن هذا الكلام ليس أوانه، ولأنه خوض في محظور خطر، رغم أنهم يعلمون يقينًا أنه إذا فات أوان اليوم، ونحن على هذه الحال، فلن يكون لنا بعد ذلك أوان.

وعصبة الإخوان أقوياء بضعف موقف هؤلاء السادة وحذرهم الشديد أمام التابوهات. وجميع فصائل الإسلام السياسي تعلنها صريحة أن ما يفعلونه ليس ناتج فكرة أو آرائهم الشخصية، إنما هو تنفيذ لأوامر إلهية صريحة واتباع لسنة فعلية وقولية صريحة، حتى القتلة الإرهابيون منهم يستندون إلى نصوص لا تقبل لبسًا، ومع ذلك لا يجد مشايخ السلطة أي بأس من الكذب والتدليس في تلفازنا المبارك، أسكت الله له حسًّا، فيلجئون إلى منهج انتقائي باطل من النصوص للرد على نصوص الإرهابيين، رغم أنهم يعلمون بحسب علوم القرآن، ومن أبواب النسخ، أن آية السيف قد نسَخت كل آيات حرية الاعتقاد، والناس جميعًا تعرف ذلك، ومع كل هذا يجلس مشايخ السلطنة يلفقون، رغم أن الكل يعرفون، وتستمر التمثيليات العبثية دون قلم جريء مجتهد واحد يطلب مثلًا إعادة النظر في مفاهيم النصوص ذاتها بما يتفق وظرفنا وزماننا، حتى إننا لم نقترب حتى اليوم من نصوص الرق والسبايا والعبودية إطلاقًا، ولا حتى طالبنا مجمعًا دينيًّا بإصدار ما يفيد بإيقاف العمل بأحكامها؛ قياسًا على اجتهادات جريئة أخرى مماثلة سبقتنا. فأي كارثة نعيش أيها السادة؟

وفي الحوار الذي سبب الأزمة مع عرَّاب الإخوان، يقول الصحفي المحاور «خالد داود» إن «مشهور» لم يكفَّ عن ترديد أنه لا يقول قول جماعة ولا يرفع مجرد شعار ورأي خاص ولا قول مشهور، إنما هو يتحدث عن نصوص صريحة في القرآن وفي السنة وفي الشريعة، وأن الجزية جزء أصيل في شريعة الإسلام. لكن حول هذا الجزء الأصيل لم يتكلم أحد من عناترنا، بل كأنهم لم يسمعوه أو يقرءوه، ولم ينطق أحد، وتغابت عنه جميع الأفهام، ووجهوا نحو الرجل، دون الأصل، كل إداناتهم. فأثبت المهاجمون للرجل أنهم دونه شجاعةً وأكثر مداورةً وأشد التفافًا حول الحقائق. وقد عبر الصحفي «خالد داود» عن ذلك بقوله: «إن هذا قول كافٍ لزرع الخوف والرعب في قلب أي محاور؛ لأنه ببساطة يوجه الحديث إلى مناقشة أمور عقيدية.» والمطلوب بنفس البساطة التغافل عن ذلك والتعامي عنه وعدم المناقشة.

وهذا طبعًا لا يعني صدقًا حقيقيًّا في المواقف المعلومة للأب الروحي وعصابته المشهورة؛ فهو في ذات الوقت الذي طلب فيه تطهير الجيش من المسيحيين، أكد بكل كذب مفضوح وتلفيق أشر أن المسيحيين يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية هكذا! وبغض النظر عن هذه الصورة الكاريكاتورية، فإنه حتى هذا الكذب له مسوغاته من زمن الرعيل الإسلامي الأول وزمن الصحابة وأيام تدوين الأحاديث، فهو الكذب المستحب، بالضبط كالأحاديث النبوية المكذوبة لكنها المستحبة … وإنها رغم كذبها فهي في سبيل الله … وإن مثل هذا الكذب الشرعي ليس جديدًا؛ فقد أسس له أبو ديانات المنطقة وأبو أنبيائها سلفًا عن خلف، عندما كذب ثلاث كذبات توصف بأنها جميعًا «في الله»، وذلك عندما ادعى السقم، وعندما قال: فعلها كبيرهم هذا، وعندما قال لملك مصر عن سارة زوجته: «هي أختي.» فحتى الكذب عند السيد مشهور ولو كان مضحكًا، فهو كذب شرعي مشهور لم يناقض الرجل فيه نفسه ولا تاريخ منظومته.

أما المستنيرون الأعلام المنتشرون فكانوا هم أهل المداورة والالتفاف والكذب البواح الصُّراح، يمسكون كل شيء من منتصف ليميلوا مع ثِقَل أحد الطرفين حسب المستجدات من ظروف ومتغيرات؛ لذلك لم يقترب أحد ممن حدثونا من جوهر وسر الداء الدفين، ومناقشة الأصول دون الفروع. كل الكلام كان عن زمان وكان ياما كان من حب ولهيب مشتعل من الغرام بين المسلمين والأقباط، ولطالما عانق الهلال الصليب، وكلنا حلوين وكلنا طعمين، رغم ما يغص به تاريخ مصر من ألوان اضطهاد رسمي وشعبي على مر التاريخ حتى الآن. بل لقد تم إسقاط ما يقرب من ألف عام من تاريخ مصر؛ لأن شقها الأول كان ثورة قبطية ضد الرومان لا تشغلنا كما لو كان المسلمون غير مصريين، وهو منطق بشع يؤصل دومًا لفكرة غزو عربي طويل الأمد، طالما لم ينشغل المسلم بتاريخ وطنه وتركه للأقباط. أما الشق الآخر من تلك المدة الطويلة المنسية، فقد كان ثورة مصرية ضد الغزو العربي مُسحت أيضًا مسحًا من تاريخنا؛ لأنها قبطية، كما لو كنا لسنا بدورنا أقباطًا، أعني مصريين!

هؤلاء السادة لم نسمع لهم صوتًا حول هذا الأمر — مثلًا أيضًا مجرد مثل — ولم يملكوا شجاعة العرَّاب المشهور على مواجهة الحقيقة؛ من أجل حسم كثير من الأمور التي تقف عثرة كبرى ومصدر خطر عظيم، لنعطي ما لله لله وما للوطن للوطن، وهو الأمر الذي نلح عليه ونقدم فيه جهودًا معلومة ولن نتنازل عنه، مهما ظل هؤلاء يشيحون عن المطلب الأساسي برعب غير خافٍ من الاقتراب من مواطن التحريمات والتكفيرات، حيث هناك الفزع الأكبر.

علينا أن نفتح كل نوافذ البحث الرصين على مأثورنا، ونعترف بما فيه ببساطة دون تأويلات مخلَّة لا تخدم الحاضر، وقد تضر بالدين نفسه، ولا بالانتقاء منه حسب المناسبات أحيانًا وحسب هوى السلاطين أحيانًا أخرى، والنموذج هنا من ذلك المأثور أن النبي عندما قيل له في غزوة أحد عن استعداد حلفاء المسلمين من يهود يثرب للقتال في صفه قال: نحن لا نستعين بأهل الشرك على أهل الكفر. ورفض العرض، مشهور لم يخرج بذلك على ما يعتقد، لكن المطلوب بعد الاعتراف إعادة نظر شاملة في فهم النصوص المقدسة، وفي أحكامها وفيما يجب اليومَ العملُ بحكمه بقانون مصلحة العباد الذي شرعته علوم الفقه ولم تجرِّمه، بل حضت عليه وحرَّضت، وما سبقنا إليه السابقون من مستنيرين منذ أزمان، حين قال أبو الفضل الأندلسي والسنون تردِّد صداه:

قل لمن لا يرى المعاصر شيئًا
ويرى للأوائل التقديما
إن هذا القديم كان جديدًا
وسيغدو هذا الجديد قديمًا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥