الفصل الحادي عشر

تعقيب على لقاء نتانياهو بالمثقفين المصريين

ولا أقصد هنا التعقيب على الحوار أو على كل ما قال السيد نتانياهو، لكن فقط على فقرة واحدة قالها في هذا اللقاء، وأوردها الأستاذ عبد الستار الطويلة في عدد ١٠ / ٣ من روزاليوسف.

يقول الأستاذ عبد الستار: «وهو — أي نتانياهو — لا يعدم حجة يقلب فيها حقائق التاريخ، فهو يقول في براءة شديدة وهو يبرر احتلال يهودا والسامرة، كما أصر على تسمية الضفة الغربية بشكل مستمر طوال اللقاء: نحن لسنا الأمريكيين أو الفرنسيين الذين ذهبوا لاحتلال فيتنام والجزائر، هؤلاء غرباء عن الأرض والشعوب هناك، ولا حق لهم في ذلك، أما نحن فهذه الأرض هي أرضنا، والذي حدث أننا طُردنا منها ونريد استردادها.»

وكنا نظن أننا قد تجاوزنا هذا المنطق من حقبة الستينيات، لكن السيد نتانياهو بالتزامه العقدي الواضح والمعلن قد أعادنا مرة أخرى إلى تلك المنطقة من التاريخ بمنطق يدعي الحقوق المؤسسة على التاريخ.

لن أكرر هنا القول المأثور إن كان ذلك كذلك، وكان لا بد من إعادة الأراضي المسلوبة عبر التاريخ إلى أصحابها، فعلى العالم المتقدم الذي يأخذ بهذا المبدأ أن يعيد القارة الأمريكية إلى الهنود الحمر.

ولن أكرر هنا أن الحقوق الدينية لا تعطي حقوقًا في الأرض، وإلا كان للمسلم الأفغاني والصيني والإندونيسي حقوق في أراضي الحجاز، وهو ما لم يدَّعه مسلم عاقل أو رشيد.

ولن أكرر ما سبق وقلته في أعمالي المنشورة عن كون إسرائيليِّي اليوم أمرًا يختلف تمامًا عن بني إسرائيل التوراتيين، وإلا كان على السيد نتانياهو أن يقدم لنا أهم وثيقة تؤكد تلك الحقوق، وأنه وفق منطقه هو عليه أن يقدم لنا شهادة إثبات نسب تعود به رأسًا للنبي يعقوب المعروف بإسرائيل.

نعم نحن نعلم أن في الأزمنة الخوالي كانت هناك العقود المكتوبة بين أفراد مجتمعات الأمم المتحضرة لتؤكد الحقوق، أما القانون، كما في مصر القديمة، فقد كان للدنيا مثلًا، ولكنا نعلم من توراة السيد نتانياهو أن أولئك الذين ينتسب إليهم لم يكونوا ممن يفكون الخط، لذلك عمل يعقوب مع خاله الآرامي رجمة حجارة لتكون علامة شاهدة على عقدهما أسماها «يجر سهدوثا»، وأعطى إبراهيم سبع نعاج لأبيمالك ملك جرار الفلسطيني، وزرع شجرة أثل عند بئر سبع (لذلك سميت كذلك) كي تكون شاهدة على عقده مع أبيمالك حول ملكية أحد الآبار — وليس شيئًا كالنيل مثلًا — أو بالنص التوراتي: «وأقام إبراهيم سبع نعاج من الغنم وحدها، فقال أبيمالك لإبراهيم: ما هي هذه السبع نعاج التي أقمتها وحدها؟ فقال: إنك سبع نعاج تأخذ من يدي لكي تكون لي شهادة بأني حفرت هذا البئر، لذلك دُعي ذلك الموضع بئر سبع؛ لأنهما حلفا كلاهما هناك، فقطعَا ميثاقًا في بئر سبع … وغرس إبراهيم أثلًا في بئر سبع» (سفر التكوين، ٢١: ٢٨–٣١).

وهو ذات الأمر الذي تكرر مرة أخرى مع أبيمالك الفلسطيني لكن البطل هذه المرة لم يكن إبراهيم بل ابنه إسحاق، وكان النزاع حول البئر التي سميت بئر سبع أي بئر القسم، القسم الذي أقسموه على عهد غير مكتوب، فهي تعني الرقم سبعة، كما تعني القسم أو الحلف (انظر: سفر التكوين، ٢٦: ٢٢-٢٣).

مجرد بئر كانت البداية، وحولها تناقضت رواية التوراة؛ مما يشير إلى بطلان القصة بكاملها من أول سرد لها بكتاب يُنعت بالمقدس.

نعم نحن نعلم أنهم لم يكونوا من بين الشعوب التي تعرف الكتابة حينذاك، حتى إن العهد الأعظم وهو المزعوم قد حدث على ذمة التوراة بين إبراهيم وبين الله ليأخذ أرض فلسطين من الله، كان بموجب عقد موثق مختوم بخاتم واضح، وكان أي ختم؟ وأي توثيق؟ كما تقول التوراة: «وقال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم، هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يختتن منكم كلُّ ذكَر في لحم غرلتكم (أي في القضيب الذكري) فيكون علامة عهد بيني وبينكم» (التكوين، ١٧: ٩–١١).

وبالطبع ليست تلك هي الوثيقة التي نطلبها من السيد نتانياهو لتؤكد الحقوق التاريخية التي يدعيها، فلا هو يستطيع إبراز تلك الوثيقة للإعلام العالمي، ولا أي محكمة يمكنها أن تأخذ بهذه الوثيقة المعتمدة بختم الطهارة (بالطبع هي غير الطهارة الثورية). ناهيك عن أنه إذا كان هذا الختم وتلك الوثيقة إعلانًا عن امتلاك بئر سبع (البئر فقط وليس المدينة)، فلا شك أن المطالبين بحق الملكية وما يملكون من صكوك إثبات لن تكفيهم آبار الدنيا (لعلماء النفس رأي في تلك القصة، وهي عندهم تعبير عن الفعل الجنسي، فالقضيب معروف، والبئر رمز الفرج).

والغريب في أمر نتانياهو أنه يؤكد حقوقه اليوم في فلسطين اعتمادًا على حقوق الآباء الأولين وإقامتهم في فلسطين، رغم أن توراة السيد نتانياهو تؤكد وتعيد وتزيد أن أرومة العبريين إبراهيمَ ذاتَه كان غريبًا على أرض فلسطين، وهو الأمر الذي ظل يكرره أخلافه من بعده؛ مما يجعل كلام السيد نتانياهو غريبًا غرابتَهم على فلسطين. انظر معي يا سيد نتانياهو توراتك إذ تقول بلسان إبراهيم وأخلافه:
  • (١)

    فخرجوا معًا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان (تكوين، ١١: ٣١).

    أي إن القبيلة الإبراهيمية جاءت إلى فلسطين وافدة من أرض أخرى وبلاد أخرى، وقد أثبتنا في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول» أن أور الكلدانيين هذه تقع في بلاد أرمينيا الحالية ولا علاقة لها بالمنطقة.

  • (٢)

    وقال الرب لإبراهيم: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك (تكوين، ١٢: ١).

  • (٣)

    أنا الرب الذي أخرجك من أور الكلدانيين ليعطيك هذه الأرض لترثها (تكوين، ١٥: ٧).

  • (٤)

    لأكون إلهًا لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان (تكوين، ١٧: ٧، ٨).

ولعل القارئ لاحظ — كما لا شك يعلم السيد نتانياهو يقينًا — أن التأكيد على غربة تلك القبيلة عن أرض كنعان تكاد تتكرر في كل إصحاح، نكتفي منها بتلك الأمثلة؛ لأن إحصاءها يحتاج صفحات طويلة من الملل.

وهكذا جاء السيد نتانياهو بافتراء واضح على التاريخ، بل على توراته ذاتها التي يعض عليها بالنواجذ. لقد وصل أسلافه قادمين من بلاد بعيدة غرباء على أرض كنعان. الرجل ذكي ومذاكر توراة كويس، سيرد علينا: نعم كان أهل الأرض كنعانيين وهم شعب سامي لا يمكن لأحدنا أن يدعيه لنفسه دون الآخر؛ لأن كلينا سامي، لكن لديك أيها السيد في توراتك ذاتها ما يشير بوضوح إلى أن الفلسطينيين قد سكنوا تلك الأرض قبل مجيء أجدادك إليها من أرمينيا أو من حيث ألقت، ولم يكن فقط سكانها الكنعانيون، لقد وصل إبراهيم وكانت تلك البلاد لا تسمى بلاد الكنعانيين رغم سكن الكنعانيين فيها، لكنها كانت تسمى أرض الفلسطينيين … هكذا بوضوح فصيح تسميها التوراة أيها السيد المؤمن، وقد ورد ذلك في قصة طريفة لا تستحي التوراة من ذكرها؛ فلا حياء في الدين، والتوراة كما تعلمون أيها السيد لا تعرف الحياء.

كان إبراهيم جدك البعيد حسبما تزعم، وإن كنا في شك عظيم في ذلك لو ناقشناك، لكنا على يقين في عدم نسبتك إليه دون أن نناقشك، كان جدك هذا قد نزل مصر يستجدي القوت بعد مجاعة حلت ببلاد فلسطين، ونستمع معًا إلى تراتيل التوراة إذ تقول: «وحدث جوع في الأرض فانحدر إبرام إلى مصر ليتغرب هناك؛ لأن الجوع في الأرض كان شديدًا. وحدث لما قرُب أن يدخل مصر أنه قال لساراى امرأته: إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته؛ فيقتلونني ويستَبْقونكِ، قولي إنك أختي ليكون لي خير بسببكِ وتحيا نفسي من أجلكِ (تكوين، ١٢: ١٠–١٣).

ثم نفهم من بقية الرواية أن ادعاء سارة الأخوة لإبراهيم لم يكن اتقاء إبراهيم للقتل، إنما لسبب آخر ترويه التوراة تذكرةً للعالمين؛ إذ تقول: «فحدث لما دخل إبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدًّا، ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون. فأُخذت المرأة إلى بيت فرعون فصنع إلى إبرام خيرًا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأُتُن وجِمال. فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراى امرأة إبرام، فدعا فرعون إبرام وقال: ما هذا الذي صنعت بي؟ لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت هي أختي حتى أخذتها لي لتكون زوجتي؟ والآن هو ذا امرأتك خذها واذهب. فأوصى عليه فرعون رجالًا فشيعوه وامرأته وكل ما كان له» (تكوين، ١٢: ١٠–٢٠).

سنفهم الآن المراد والمقصود عندما نعلم أن ذات الأمر قد تم تدبيره للملك أبيمالك، فنقرأ: «وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض الجنوب وسكن بين قادش وشور وتغرب في جرار، وقال إبراهيم عن سارة امرأته هي أختي، فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة» (تكوين، ٢٠: ١، ٢). وكانت النتيجة: «فأخذ أبيمالك غنمًا وبقرًا وعبيدًا وإماءً وأعطاها لإبراهيم ورد إليه سارة امرأته، وقال أبيمالك: هو ذا أرضي قدامك، اسكن في ما حسن في عينيك. وقال لسارة: إني قد أعطيت أخاك ألفًا من الفضة» (تكوين، ٢٠: ١٤-١٦). وتكررت القصة ذاتها مع ولده إسحاق بحذافيرها، لكن لنسمع هنا القول: «فذهب إسحاق إلى أبيمالك ملك الفلسطينيين، إلى جرار» (تكوين، ٢٦: ٢). التوراة هنا تنتهي إلى تعريف أبيمالك بأنه ملك الفلسطينيين، لقد كان الفلسطينيون قد استقروا في الأرض وأقاموا فيها ممالك أدت بالنبي صفنيا إلى مناداتها في سفره: «يا كنعان يا أرض الفلسطينيين» (صفنيا، ٢: ٥). حيث هناك زعمٌ تروِّجه جامعات العالم يقول: إن الفلسطينيين — أو كما ذكرهم التاريخ «البلست» — قد قدموا من كريت إلى فلسطين، فحتى لو كان ذلك هو الحادث تاريخيًّا، فإن التوراة تقول بمجيء أرومة العبريين إلى بلاد كنعان، وقد عُرفت باسم أرض الفلسطينيين، لقد كان البلست قد أقاموا في فلسطين زمنًا كافيًا قبل ذلك ليمنحها اسم الفلسطينيين.

ومع منظومة أخلاقية كتلك المنظومة التي حدثتنا عنها التوراة، لا يكون هناك مجال للقول بنقاء الجنس الإسرائيلي مع هذه البداية التي لا تبشر بخير، ناهيك عن كون هذا النقاء الجنسي ظلمًا لطبيعة الإنسان؛ فمن المستحيل أن تقنعنا بنقاء هذا السلسال خلال ألوف السنين، وأن البذرة الإسرائيلية ظلت تتناقل في أرحام الطاهرات حتى وصلت يهود اليوم؛ لأنه من جانب آخر هناك مغالطة تتم بموجبها المطابقة بين مفهوم الدين اليهودي وبين العنصر أو الجنس الإسرائيلي، بحيث يبدو وفق تلك المغالطة أن يهوديِّي الفلاشا الزنجي ويهوديِّي روسيا الأحمر ويهوديِّي المنطقة السامي ويهوديِّي أمريكا المهجن، هم جميعًا يعودون بالنسب إلى جدهم يعقوب إسرائيل.

فنحن كبشر لا نستطيع التسليم بلون خارق من العفاف الجنسي المنقطع النظير عند بنات يهود، حتى تحمل البذرة الإسرائيلية خالصة، ولن نضرب هنا أمثلة ضربناها كثيرًا في أعمالنا المنشورة عما يموج به الكتاب المقدس من صخب جنسي وصهيل شبقي لبنات صهيون على الشباب الفتي لأمم غير إسرائيلية (انظر مثلًا سفر إرميا ٣٠، ٥٠، ١٣ وحزقيال، ١٦ … إلخ). ولهذا السبب تحديدًا وضعت دولة إسرائيل قانونًا لا يعتبر الفرد بموجبه يهوديًّا إلا إذا كانت أمه يهودية.

لكن المشكلة أننا إذا طبقنا هذا المبدأ على مؤسس دولة إسرائيل الملك داود، ثم على أشهر ملوكهم الملك سليمان، فسنجد الأول حفيد راعوث، ولم تكن لا إسرائيليةً جنسًا ولا يهوديةً دينًا إنما كانت مؤابية، أما سليمان فقد رُزق به أبوه داود من امرأة حيثية لا يهودية ولا إسرائيلية. وطبقًا للقانون وإعمالًا لبنوده، فإن كليهما لم يكن يهوديًّا ولا إسرائيليًّا وإنما فلسطينيان؛ لأن الأمهات فلسطينيات، وتكون المؤسسة الكبرى من البدء دولة فلسطينية تم سلبها لصالح يهودا.

يبدو هكذا أنه لم تصبح لدى السيد نتانياهو أية وثيقة تعطيه حقوقًا في الأرض، حتى أساطيره لا تسعفه، وبالطبع لن نقبل منه الوثيقة التأسيسية؛ فلدينا منها الأقوى والأكبر والأكثر عددًا ونفيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥